كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

العسل المر.. سطور من سيرة ذاتية

طلال سليم:

في تلك القرية البعيدة التي تسكن بين جبالٍ شاهقة لاتربطها بكلّ هذا العالم أي صلة سوى دربٍ ترابي مملوءٍ بالحُفر، والصخور، والوحل.. كان الجرار هو الوحيد من بين كلّ آلات الأرض يدخلها على مهلٍ وكأنّه سلحفاة...
كنّا يافعين نتحلق حول (التّركتور)..
نلمسه كما يلمس العاشق يد فتاته...
وإذا عطف السّائق علينا وأركبنا على جرّاره قليلاً صار حديثنا لشهور عن كرمه وأخلاقه العالية..
في تلك الجبال، ولأوّل مرّة أقتنى أبي راديو، ووضعها على شرفة شباك حجري وجعل صوت المذيع يُلعلِع وأغاني سميرة توفيق وصباح ووديع وفيروز تسافر في خضرة الأرض البهية.
وكثيراً ماكان يشدّني صوت المذيع الجهوري الذي كان يتوعّد الأعداء بالموت، وأنّنا سننتصر على أعدائنا.....
كلماته لاتفارق ذاكرتي..
ثم صار أبي يستمع لراديو (هنا لندن)
وإلى أخبارها وتحليلاتها السّياسيّة،
ثم ظهرت راديو (مونتكارلو) مع إعلاناتها المثيرة للدهشة وخصوصاً إعلاناتها عن التّبغ، وكنت قد بدأت أتعلم لف السّجائر، وتدخينها وحتّى تدخين الأعشاب عندما لاأملك اي نقود لشراءها خلسة عن الأهل...!
وفي إحدى الأماسي وضوء القمر ينير الفضاء ونسمات الصيف تنقلك إلى عالم آخر من البهاء، كنت ممدداً فوق سطح بيتنا مع أسرتي مستمعاً لنشرة أخبار راديو (مونتكارلو) توقف المذيع فجأة ليقول: نترككم قليلاً مع الإعلانات.
أنصتُ لأعرف ماهي الإعلانات؟ بدأ الإعلان بصوت حصانٍ يجري مع صوت رجولي متداخل مع صهيل الحصان يقول: (في أعالي الجبال فارس يدخن سيجارة "مارلبورو" إليك النّكهة إليك سيجارة "مارلبورو".).
كان ابن عمي (مالك سليم) يزيدني حوالي عشرة أعوام قلت له ماهي سيجارة مارلبورو؟
قال: هي أشهى من العسل...
كم ثمنها قلت له؟
قال: خمس ليرات
أذكر كيف جمعت ثمنها بسرقة البيض من دجاجات قريتي أنا وابن عمي (وضّاح)، وكان ثمن البيضة ربع ليرة.
حفرنا لعلبة سمنة في أرض عمي حفرة، وكل يوم نسرق بيضتين، أو أكثر حتّى امتلئت، ثم بعناها وحصلنا ع خمسة ليرات ونصف.
في اليوم الثاني أخذنا أبقارنا بعيداً عن القرية، وأرسلت ابن عمي، وأخي الصغير لقرية تبعد عن بيتنا حوالي ساعة مسير لشراء علبة الحلم (مارلبورو)
عادا ابن عمي وأخي الصغير، كانت فرحتي لا تعادلها فرحة، فـباكيت "مارلبورو" بين يديه حمراء اللون مع أسدين يتوسطان العلبة، باكيت لاتشبه الحمراء، ولاتشبه النّاعورة التي كنت أدخنها لرخص ثمنها...
تركنا أخي الصغير مع الأبقار، وصعدنا نحو قمة جبل عالٍ، حتى وصلنا إلى القمة الصخريّة العالية فيه، فتحنا علبة التّبغ وأشعلنا السّيجارة الأولى لكلينا بعود كبريت واحد...
سحبت منها نحو الأعماق مااستطعت مع أملٍ أنّني سأحصل على رائحة دخان بطعم العسل كما أخبرني مالك ابن عمي..
وكنت في كلّ سحبة تبغ أتساءل أين العسل؟!
وكان ابن عمي يشير إلى نهاية السيجارة قائلا: ربما سيكون العسل في الفوامة، وهكذا بقينا حتى انتهت السّيجارة، وفتحنا الفوامة وصرنا نلحسها فتعود ألسنتنا محملة بالمرار
وظللنا نسأل: أين يختبئ العسل..؟
فابن عمي لايكذب وراديو (مونتكارلو) لايكذب، وأنا وابن عمي صعدنا قمم الجبال لندخن كالفرسان، ولكن لماذا هجرنا بل خاننا العسل؟!