كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سرفانتس والفارس دون كيشوت "دون كيخوته"

مروان حبش- فينكس

  إن الانتصارات في ميادين السياسة والاقتصاد والعلوم والأخلاق لشعب ما، تؤجج العقل والإلهام والنفس والخيال، فيكثر المبدعون في كل الفضاءات ويحلقون في عالم رفيع المستوى، ويجد الشعب بكل فئاته طريقه إلى الحياة الكريمة.
هذا ما كان عليه الحال في اسبانيا بعد غزوها ونهبها الأمريكيتين، وعودتها للأندلس، وانتصاراتها في أوروبا منذ القرن الثالث عشر، ويلاحظ في مجال الأدب انتقال الرواية من رواية الفروسية والقصة الرعوية"1"، اللتين كانتا تقرآن بشغف، لأن موضوعهما كان الغرام، وولاء الفرسان لمن اختاروا من النساء. وفي سبيل الدفاع عنهن أو تملكهن كانوا على استعداد لتكسير النصال على النصال وتحطيم الكثير من نواميس الله والبشر، حتى كانت موضع الشكوى من بعض مجالس المدن لأنها تلحق الأذى بالرجال والنساء، والفتيان والفتيات، وتبعدهم/هن عن الدين المسيحي الصحيح.
في هذا المناخ ولد وعاش "ميغيل دي سرفانتس" 1547- 1616، ولم يحظ بتعليم عالٍ، مما اضطره إلى التقاط معرفته بالحياة من العيش فيها، وشحذه ذكاؤه على حجر الضرورة القاسية والفقر الطاحن، ليصبح نابضاً في الحياة بسرده، بديعاً في أسلوبه، جريئاً في أمانته، وليتناول حكمة رجل الشارع الممزوجة بالفكاهة الذكية، وحلم رجل الفارس الشهم الآخذ في الزوال، وجمع بينهما في أشهر القصص قاطبة وأروعها اطلاقاً.
في أيلول 1569 قبض عليه بتهمة الاشتراك في مبارزة، ونفي من اسبانيا لمدة عشر سنوات أو يعاقب بقطع يده اليمنى، والتحق في 16 أيلول 1571 بالخدمة العسكرية ليتخلص من السجن، مبحراً من مدينة مسينا على السفينة "ماركيزا" في أسطول "دون جوان النمساوي" الذي اشتبك مع الأسطول العثماني في " خليج ليبانتو" باليونان، وقاتل سرفانتس الذي كان على رأس إثني عشر رجلاً في زورق، وأصيب بثلاثة جروح من طلقات نارية، أحدها أعجز يسراه عجزاً مستديماً. ثم شارك في معارك حربية أخرى، وبعدها سُمِح له بالعودة إلى اسبانيا، وفي رحلة العودة بتاريخ 26 كانون الأول 1571، أسره القراصنة وباعوه في سوق الرقيق بالجزائر، وحاول الهروب أكثر من مرة مما أدى لتشديد الرقابة عليه، حتى قال "داي المدينة" بأنه (إذا استطاع أن يؤمن حراسة ذلك الإسباني المعطوب الذراع فقد أمن عاصمته وعبيده وسفنه). وكافحت والدته حتى جمعت خمسماية كراون ودفعتها فدية لتحرره في 19 أيلول 1580، والتحق بأسرة والدته في مدريد، وبسبب إملاقه وفقره عاد إلى الانخراط في الجيش، وأغرم بسيدة نبيلة تصغره بثمانية عشر عاماً، لا تملك غير أسمائها الكثيرة، وتحت إلحاح الحب والعوز كتب روايته الرعوية "غلاطية" وباعها بمبلغ من المال، وعلى إثر ذلك، تزوجته السيدة النبيلة عام 1584، وقدم لها ابنة غير شرعية كانت قد ولدتها له حسناء عابرة قبل عام، وأقنعها بأن تربيها كابنة لها.
كان سرفانتس ينوي كتابة بقية لرواية "غلاطية" ولكنه لم يجد لا الوقت الكافي ولا الحافز لإتمامها، وكتب ثلاثين مسرحية، ويؤكد أنها مُثِلت كلها "دون أن تدر عليه أي جزاء" مما دفعه إلى قبول وظيفة متواضعة في إدارة تموين الجيش والبحرية عام 1587، وسافر بصفته هذه إلى عشرات المدن، وساعد في تموين أسطول "الأرمادا" وفي عام 1594، عُين جابياً لغرناطة، وسُجِن في إشبيلية لمخالفات في حساباته، وأُفرج عنه بعد ثلاثة شهور، ولكنه طُرِد من خدمة الحكومة، وعاش عدة سنين في اشبيلية بفقر مدقع وهو يحاول الارتزاق من قلمه، ثم قُبض عليه مرة أخرى وهو يجوب اسبانيا، ويُروى أنه في سجنه وفي بؤسه واصل تأليف كتاب من أكثر الكتب مرحاً في العالم، فلما عاد إلى مدريد باع مخطوطة كتابه "حياة ومغامرات دون كيشوت "دون كيخوته دي لامانشا" الذي نشر عام 1605، وبعد ثمانية وخمسين عاماً من الكفاح، بلغ سرفانتس شاطئ الأمان.
رحب جميع القراء بالكتاب الحافل بالفكاهة والفلسفة في صفحاته الثمانمائة، ورغم المآخذ عليها من بعض النقاد كما في كل رائعة، تبقى رواية تشد القارئ وتجذبه بلطافة خلال المعقول وغير المعقول مما تتضمنه، واستطاع سرفانتس وسط كل شدائده أن جمع فيها مشاهد من المثالية والظرف، وأن يقرب قطبي الخلق الإنساني المتباعدين في مثل هذا التراكب المنير بأسلوب من البلاغة مرهق ولكنه كجدول صافٍ جارٍ، يتألق هنا وهناك بعبارات جميلة وبقدرة على اختراع الأحداث بمعين لا ينضب من الفكاهة أو التفجع.
في هذه "الرواية الجادة أعظم الجد، المجلجلة، الدقيقة، الناعمة، الفكهة"، يلتقي القارئ بحياة اسبانيا وشعبها، موصوفين بحب يبقى بعد أن يتقضى عدم التحيز، وبمئات التفاصيل الصغيرة التي تخلق هذا الكل الملهم وتفعمه بالحياة.
يزعم سرفانتس أن روايته مأخوذة عن مخطوطة لمؤلف عربي اسمه "حامد بن أنجلي"، وتفصح المقدمة عن هدفه وهو أن يصف في (هجو الفروسية الجوابة، وفي سقوط ودمار ذلك الكم البشع بأكثر روايات الفروسية التي افتتن بها أكثر الناس على نحو عجيب).
إن دون كيشوت، هذا الفارس بطل الرواية، وصاحب عشرات الهزائم والضربات المخزية، هو سيد ريفي خصب الخيال، أذهلته القصص التي جمعها في مكتبته، فدجج نفسه بالسلاح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فارتدى سترة الفارس وخرج على فرسه ليذود عن حياض المظلومين ويصلح الفساد ويحمي العذارى والأطفال، إنه يمقت الظلم ويحلم بماض ذهبي يوم لم يكن هناك ذهب، (يوم كانت هاتان الكلمتان "مالك ومالي" فوارق مجهولة، كل الأشياء كانت مشتركة في ذلك العصر المقدس...، كله كان حباً وصدقاً في الدنيا). وجرياً على قواعد الفروسية يكرس سلاحه وحياته لسيدة نبيلة تدعى "دولتسينا دبل توبوزو"، ومع أن عينه لم تقع عليها قط، فقد كان في وسعه أن يتصورها تجسيداً كاملاً للطهارة المحتشمة والجمال الرقيق، (نحرها مرمر، وثدياها رخام، ويداها عاج، والثلج ينكشف بياضه إذا دنا من صدرها)، أما وقد ملأه هذا الرخام صلابة، وبعث فيه هذا الثلج دفئاً، فينطلق ليهاجم عالماً مليئاً بالشرور، وفي هذه المعركة غير المتكافئة لا يشعر أن أعداءه أعز منه نفراً (فأنا وحدي أعادل مائة منهم)، والفارس ذو الوجه البائس المتنقل بين الفنادق الصغيرة وطواحين الهواء، بين المصارف القذرة والخنازير المذعورة تنتهي به الصحبة إلى أن يحب قديساً كما يحبه مجنوناً، وفي كل هذه الغامرات الفاشلة والكبوات الأليمة يظل "الدون كيشوت، المثال الحي للأدب واللطف والسماحة"، ويتحول الفارس المحزون ليصبح فيلسوفاً يتحدث حديثاً عاقلاً سوياً، ويغفر الإساءات للدنيا التي عجز عن فهمها.
يعطي سرفانتس لفارسه الدون كيشوت تابعاً مرافقاُ من أبناء الريف، يعمل عاملاً في المدينة، هو "سانشو بانسا"، المحب للخير والمتواضع وصاحب النكتة والمتحرر من سعار اللاهوت والحكيم من غير ثقافة أو تعليم والوفي لسيده في دنيا العذاب هذه. وقد وعده دون كيشوت بأن يعينه حاكماً لولاية من الولايات التي يزمعان فتحها. ولم يطل الوقت حتى اكتشف أن سيده رجل مجنون، ويقول: (لقد لازمت مولاي الطيب وصاحبته هذه الشهور الطوال، والآن أصبحنا نحن الإثنين واحداً، لقد أصبحنا وجهين لإنسانية واحدة). وينتهي الفارس دون كيشوت إلى احترام حكمة تابِعَهُ لأنها أعمق جذوراً من حكمته، وخاصة بعد أن أكَّد له "سانشو" وأزال القشع عن عينيه بأن (دولتسينا دبل توبوزو ليست سوى خادمة متمنطقة، بدينة، مفتولة العضل، مسترجلة، من أصل متواضع). ولكن الفارس يجيبه بحكمة ذهبية قائلاً: (الأصل يُشَرَّف بالفضيلة).
لقد عبر التابع سانشو عن فلسفته بفيض من الحِكَم صيغت من خبرة طويلة، وكادت تخنق تفكيره، مما دفع مولاه ليقول له: (حقاً، يبدو أنك لست أعقل مني، وأشهد أنك مختلط العقل، ولهذا أصفح عنك).
وبسبب نجاح روايته، ظفر سرفانتس براعيين لأدبه خصصا له معاشاً قليلاً، استطاع به أن يعول زوجته وابنته غير الشرعية وأخته وابنتها.
بدأ سرفانتس بكتابة الجزء الثاني من الرواية، من غير عجلة، وتوقف عن هذا الجهد عام 1613، لينشر اثنتي عشر قصة تتضمن كل واحدة منها فكرة نافعة، وفي التمهيد لهذه المجموعة القصصية، صور نفسه بهذه العبارات: " إن الرجل الذي ترونه هنا بمحياه النسري، وشعره الكستنائي، وجبينه الهادئ الطلق، وعينيه اللامعتين، وأنفه المعقوف المتناسب، ولحيته الفضية التي كانت ذهبية منذ أقل من عشرين عاماً، وشاربه الكبير، وأسنانه التي لا تستحق الإحصاء، وقامته الربعة، وكتفيه طفيفي الانحناء، وبنيته الثقيلة بعض الشيء، أجيز لنفسي أن أقول لكم إنه مؤلف "غلاطية" و "دون كيخوته دلا مانشا".
فوجئ سرفانتس عام 1914، بظهور الجزء الثاني من "دون كيشوت"، بقلم سارق انتحل اسم أفيللانيدا، وهذا دفعه لإنجاز الجزء الثاني ونشره عام 1615، وابتهج القراء حين وجدوا هذه التتمة ترقى إلى مستوى الجزء الأول، خيالاً وقوة ومرحاً، وفي صفحاتها الخمسماية، احتفظ بتشويق القارئ حتى نهايتها الحزينة الأليمة، فحين الفارس يُوَلّي تابعه سانشو حاكماً على ولاية "باراتاريا"، لم يستطع، لطيبه وفطنته، أن يتجاوز حماقات الحكام السابقين، وما قام به يخجل واقع الحكم المعاصر له، وتطغى عليه قوى الشر التي لا تعرف الرحمة ولا الهوادة وترهقه إرهاقاً يجبره على التخلي عن منصبه، والعودة مرتاحاً إلى عمله تابعاً للدون كيشوت.
لم يجد الفارس من سبيل إلا العودة من دنيا الأحلام إلى دنيا الواقع، بعد أن خرج في طلب المغامرات وهُزِم شر هزيمة، ينتزع منه المنتصر تعهداً بأن يمضي إلى داره ويعيش عاماً كاملاً في هدوء لا شأن له بالفروسية، فتتبدد أوهامه، وتجف ينابيع حياته، وينبذ الفروسية الطوافة الباحثة عن المغامرات، ويدع روحه تنحسر انحساراً شديداً، ويوزع الهدايا على أصدقائه، ويكتب وصيته. أما تابعه سانشو يعود أيضاً، إلى أسرته، ويفلح حديقته ويزرعها. وتنتصر واقعيته على مثالية مولاه المغرقة في الأوهام، ولكن روح الفارس بقيت صاحبة الكلمة الأخيرة في الوصية التي أوصى بأن تكتب على شاهدة قبره، (إذا كنت لم أستطع تحقيق جلائل الأعمال، فإنني متُّ في سبيلها)، وبذلك أكد على أن الواقعي يعيش إلى أن يدركه الموت، ولكن المثالي يبدأ عندها الحياة.
لقد ترجمت هذه الرواية العظيمة إلى أكثر لغات العالم، وأصبح بطلها من أكثر شخوص الأدب حياة وفتنة وشهرة، ومعروفاً من أبسط الناس. وأرسى سرفانتس من خلالها أساس الرواية الحديثة، ورفع هذا اللون الجديد من الأدب إلى مقام الفلسفة، إذْ جعله يكشف عن طبائع البشر ويلقي الضوء على ما خفي من أخلاقهم.
ويُروى أن ملك اسبانيا فيليب الثالث، شاهد يوماً وهو واقفٌ بشرفة قصره في مدريد، طالباً بيده كتاب على ضفة مانزا ناريس المقابلة، وكان الطالب يقرأ، ولكنه بين الحين والحين كان يقطع قراءته ويلطم جبينه لطمات عنيفة تصحبها حركات لا حصر لها من النشوة والطرب. قال الملك: إن الطالب إما أن يكون مجنوناً وإما أنه يقرأ رواية دون كيشوت.
لقد تنبأ سرفانتس على طريقته الدون كيشوتية المميزة أن روايته سيباع منها ثلاثون مليون نسخة، وابتسم الناس لسذاجته، ثم اشتروا أكثر مما تنبأ به.
كانت وفاة هذا الروائي الكبير، الذي سميت باسمه معاهد تعليم اللغة الإسبانية لغير الناطقين بها في العالم، بشهر نيسان عام 1616.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) الرواية الرعوية: نوع من الروايات ظهرت في عصر النهضة الأوروبية، تروي البطولات السردية وتعبر عن الحب على لسان الرعاة