كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

غارودي ومحاكمة الحرية 1 من 2

مروان حبش- فينكس

روجيه غارودي، رجل المراجعات والتقلبات المستمرة، هو واحد من تلك الأسماء الكبيرة التي لمعت في سماء الفلسفة الغربية، وكانت له صولات وجولات مع الأفكار والمفاهيم الفكرية التي تنشد قيم العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة بين أفراد أي مجتمع، فقد كان مشغولاً بهموم الإنسان، وأعدَّ نفسه تماماً لتلك المهمة، فكان واسع الاطلاع على الحركة الفكرية حول العالم، انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1937 وكان في العشرين من العمر، وذلك لجاذبية الأفكار الماركسية حينها التي ترفض التمييز بين البشر، وأن يصبح الإنسان مجرد سلعة، وأن يبتعد المرء عن جوهره الإنساني، وغير ذلك من السلبيات التي رافقت صعود الرأسمالية والمجتمعات البرجوازية المترفة، وطرد من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1970م وذلك لانتقاداته المستمرة للاتحاد السوفياتي، وفي السنة نفسها أسس مركز الدراسات والبحوث الماركسية وبقي مديرا له لمدة عشر سنوات.
يظنّ كثيرون من قرّاء غارودي، كثير التقلبات "الكاثوليكي، البروتستانتي، الشيوعي، المسلم، ثم المسيحي- الماركسي"، أنّ كلّ مرحلة لاحقة في مسيرته نسخت المرحلة السابقة في حياته العقلية المثيرة، ولكنّه -على العكس، تمسك بكلّ مرحلة، واستطاع تكوين سبيكة عقلية، لا يمكن فصل الماركسية فيها عن المسيحية والإسلام، وعزّز ذلك شخصية مستقلة مهمومة بمشكلات الواقع وتحدياته، رافضاً الإقصاء والإرهاب اللذين يمارسهما كلّ من يريد السلطة بغضّ النظر عن الضحايا الذين يسقطون في سبيل تلك المشروعات الدموية.
لم يتوقَّف الرجل للحظة، في كل محطّاته الفكرية عن التأمّل والتفكير. كما لم يتخلّ عن طبيعته الجدليّة منذ اعتناقه للمسيحية البروتستانتية أو الماركسية أو الإسلام، وقبلها المسيحية الكاثوليكية التي طرق بابها في سياق ما أسماه الحوار بين الأديان والإيديولوجيات.
لقد دخل غارودي الإسلام كما المسيحية قبله مُحمَّلاً بماركسيّته، أو بالأحرى بقراءته هو للماركسية، فكان من الطبيعي أن يلقى فكره الديني رفضاً من الأوساط السلفية المُحتَكِرة.
يحاول غارودي أن يقدم مساهمة في النضال من أجل سلام حقيقي، قائم على احترام الحقيقة، والقانون الدولي. ومن هذا المنطلق، كتب جارودي: (الأيديولوجيات الأصولية كلها، الداعية بالضرورة إلى العنف والحرب، أمراض قاتلة في زماننا هذا)، ومن هذه الرؤيا أنجز ثلاثة كتب لمحاربة هذه الأصوليات، وهي: 1-عظمة الإسلام وانحطاطه - 2- هل نحن بحاجة إلى الله؟ نحو حرب دينية " ضد وحدانية السوق" - 3- الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية الذي نُشر عام 1995. وفي كتابه هذا، والذي تُرجم في كثير من الدول، يوضح:
أولاً_ الأساطير اللاهوتية: أسطورة "الميعاد" أهي أرض موعودة أو أرض مغزوة؟.
ثانياً_ أساطير القرن العشرين:1-أسطورة مكافحة الصهيونية الفاشية. 2-أسطورة عدالة محكمة نورمبرغ. 3-أسطورة الستة ملايين "المحرقة". 4- خرافة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
ثالثا- استخدام الأسطورة السياسي: 1- اللوبي الإسرائيلي- الصهيوني في الولايات المتحدة. 2- اللوبي الإسرائيلي الصهيوني في فرنسا. 3- أسطورة المعجزة الإسرائيلية- التمويل الخارجي.
يقول غارودي: إن السبب الرئيسي لتأليف هذا الكتاب هو المخطط الإستراتيجي الأمريكي الذي نظَّر له هنتيغتون، وكان هرتزل قد حدد قبل مائة عام موقع دولة إسرائيل في الصراع الحضاري.
لم يفتح الكتاب في فرنسا نقاشاً أكاديمياً ولا وُوجِه بردٍّ يدحض علمياً ما ورد فيه، بل بحملة إعلامية شرِسة ضدّ ما اُعتبر مُعاداةً للسامية، لينتهي به المطاف في أروقة المحاكم الفرنسية. هكذا واجه غارودي الذي حمل السلاح ضدّ الجيش النازي، تِهماً ثقيلة لأنه ندَّد بتوظيف المجازر النازية من أجل التمكين للمشروع الصهيوني، وأسطرتها من خلال المُبالغة في أعداد الضحايا اليهود، ورغم الحكم عليه فإنه لم يتوقّف عن "المواجهة الفكرية" فأصدر سنة 2004 كتاباً بعنوان "الإرهاب الغربي" نشره في الجزائر، بعد أن رفضت كل دور النشر الفرنسية نشره خشية العقوبة أو التشهير.
أطلق غارودي مواقفه من القضية الفلسطينية مُبكراً، فكانت مُتلائمة مع خياراته اليسارية المقاوِمة، لكن ما أعقب غزو لبنان من أحداث وبالأخصّ مجازر صبرا وشاتيلا والتحوّلات الفكرية التي عرفها تدريجاً، قادته إلى مرحلة أكثر جذرية في مُقاربته للصراع مع "إسرائيل والمشروع الصهيوني".
بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان أصدر جارودي بياناً احتل الصفحة الثانية عشرة من عدد 17 حزيران 1982 من جريدة لوموند الفرنسية بعنوان: (معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان، إن غزو لبنان كان يدخل في منطق الصهيونية السياسية)، وقد وقع البيان معه، كل من الأب ميشيل لولون والقس ايتان ماتيو، وكان هذا البيان بداية صدامه مع المنظمات الصهيونية التي شنت حملة ضده في فرنسا.
إثر هذا البيان سارع اللوبي الصهيوني (الليكرا) في فرنسا عام 1983 بتقديم شكوى ضد غارودي ورفاقه أمام محكمة باريس. وكان قرار المحاكم بدرجاتها الثلاث: (إن الأمر يتعلق بالنقد المسموح به لسياسة إحدى الدول، وللإيديولوجية التي تستلهمها، وليس بتحريض عرقي...)، وتحوّل بعد هذا الموقف من ضيف دائم على المحطات الإذاعية والتلفزيونية وأعمدة الصحف، إلى شخصية قاطعتها الإذاعات والصحف اليومية الفرنسية، فلم تعد تنشر أي موضوع له.
مرة ثانية، وجد غارودي نفسه في المحكمة لمقاضاته على ما ورد في كتابه "الأساطير المؤسسة"، وعلى مدى يومي 8 و9 كانون الثاني 1998 دارت جلسات المحاكمة، وسط صمت اعلامي مريب، ودافع غارودي (84 عاماً) عن جميع أطروحاته التي عرضها في كتابه، ولم يتراجع أبداً، وقال إجابة عن اسئلة القاضي: (يخيل لي بأنني أحاكم على كتاب لم اكتبه.. ذلك لأن كتابي يعالج الاساطير المكونة للسياسة الصهيونية ولم أتعرض إلى الديانة اليهودية). الأمر الذي أربك فريق الادعاء الذي يتكون من محامين ومن منظمات صهيونية عديدة، مثل (اللجنة العالمية ضد العنصرية واللاسامية (LICRA و(الحركة المعادية للعنصرية ومن أجل الصداقة بين الشعوب MARP)، وهاجم غارودي جمعية "ليكرا" بقوله: (إن هذه الجمعية التي رفعت القضية ضده، إنما هي الذراع الأيمن للسياسة الخارجية الإسرائيلية). وذكر "إن رئيسها التاريخي "بيزنار ليكاش" كان أسيراً معه في عام 1940 في الجزائر، وكانا معاً يحاضران في معسكر الاعتقال بشكل سري".
كان غارودي يُحاكم بموجب قانون "غيسو" التعسفي، هذا القانون الغاشم الذي وضعه الشيوعي "غيسو" وأقرته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1990، هو قانون يعزز عمليات القمع ضد حرية التعبير، جاعلاً من محكمة نورمبرغ معياراً للحقيقة التاريخية، ومنشِئاً لما يسميه "جريمة الرأي. وكان ينتظر حكماً بالسجن مدته سنة كاملة مع غرامة قدرها 300 ألف فرنكاً فرنسياً، وهذا ما كانت تسعى إليه جميع المنظمات والروابط الصهيونية التي رفعت القضية ضده.
كان ممثلو الجمعيات والروابط الصهيونية، متوترين جدا أثناء إجراء المحاكمة لدرجة أن إحدى الجمعيات غير الممثلة في لجنة الادعاء وهي (محامون بلا حدود) التي قال عنها محامي الدفاع بانها لا تمتلك حتى الصفة الشرعية والقانونية التي تؤهلها لرفع قضية، جاءت ترفع ملفاً ضد موكله. وأشار المحامي بأنه يأسف أن يرى بعض المحامين الذين تخلوا عن شرف المهنة لكي يهاجموا مفكراً وكاتبا، مخالفين طريق المحامين الشرفاء في العالم أجمع الذين يدافعون عن القضايا العادلة ويساندون الضحية لا الجلاد.
دحض غارودي جميع التهم الموجهة له، وذكَّر المحكمة بتاريخه الذي هو عبارة عن سلسلة من النضالات من أجل حوار الأديان وتأسيس نظم تفكير جديدة، ووضح أيضا بأن الفلاسفة اليهود أنفسهم يكتبون عن الصهيونية ولم يحاكموا، وأشار في هذا الصدد إلى كتاب (انحطاط اليهودية) الذي كتبه بالانجليزية راهب أمريكي. ورأى فريق الادعاء، بأن غارودي ذهب إلى أبعد من نقد الصهيونية عندما قال: (بأن دولة اسرائيل تقترف جميع الجرائم مستغلة بذلك أسطورة إبادة ستة ملايين يهودي اثناء الحرب العالمية الثانية، وهذا ما خولها أن تصول وتجول وتفعل ما تشاء وتهدد البلدان المجاورة وتحتل أراضيها وتخترق جميع القوانين الدولية وتشريعات الامم المتحدة). وأشار غارودي أيضاً الى مجزرة قانا... ليقدم الدليل، بينما يذهب فريق الادعاء الصهيوني إلى أن غارودي يركز على اللهجة الاستفزازية وأن كتابه يتضمن حقداً عنصرياً على اليهود. لكن غارودي أنكر جميع هذه التهم معتبراً أنه كتب كتاباً علمياً يعالج التاريخ.
كان غارودي يُحاكم بالتهم التالية (التشكيك في جرائم ضد الإنسانية) و (معاداة السامية والعنصرية والتشهير باليهودية) و (نفي وجود غرف الغاز في المعسكرات النازية) و (الدعوة إلى اعادة تقييم كتابه التاريخ اليهودي) ، وهي من المحرمات وفق قانون (غيسو)، بدأ غارودي رده كالتالي: ـكتابي عبارة عن كتاب سياسي بالدرجة الأولى وأريد أن أوضح فيه بأن الصهيونية هي هرطقة وبدعة في الديانة اليهودية، أما عن الـ HNEGATION ومعناها نفي وجود غرف الغاز أثناء الحرب العالمية الثانية ، فقال: (إنه لم يجد أثراً لهذا المصطلح في جميع القواميس وإنها كلمة مفتعلة لا اساس لها)، أما المصطلح المحرم الثاني فهو REVISOHHISTE ومعناها الدعوة إلى إعادة تقييم كتابة التاريخ اليهودي حيث قال: (إن المؤرخين الشرفاء هم الذين يعيدون كتابة التاريخ لا من وجهة نظر الغالب بل من وجهة نظر المغلوب)، وعندما سأله القاضي عن التغييرات الفكرية التي طرأت على فكره وانتقالاته المفاجئة من الماركسية إلى المسيحية إلى الإسلام، أجابه: (إنني ما زلت مخلصاً لأحلام سنوات عمري عندما كنت في العشرين)، وأضاف: (إنني فُصلت من الحزب الشيوعي لأنني قلت بأن الاتحاد السوفييتي ليس بلداً اشتراكياً...)، وقد دفعت ثمن أفكاري على طول الخط..، ولم أجن من كتابي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) أي شيء لأنني طبعته على حسابي الشخصي بعد أن رفضت نشره جميع دور النشر وهي من كبريات دور النشر الفرنسية.