كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

العقاب

مروان حبش- فينكس

الطاهر بن جلون، الذي غادر المغرب إلى فرنسا، هو أحد الكتاب المغاربة في أوروبا، يكتب بالفرنسية، وأصبح صوتاً عالياً في عالم الأدب العالمي، يمثل الذات المغربية والعربية أفضل تمثيل، وله حضوره الروائي والإبداعي.
كان العقاب رهيباً، هكذا يبدأ الطاهر بن جلون سيرته الروائية التي عنونها بــ "العقاب"، التي يتحدث فيها عن اعتقاله عام 1965 إثر مشاركته في مظاهرات طلاب جامعة "فاس" تطالب بالحرية والعدالة والديمقراطية، منتقدة الفساد والمظلومية المجتمعية، ولم تسلم المظاهرة، فقد واجهتها قوى الأمن والشرطة، بالعنف المسلح، واستشهد البعض، وأصيب البعض، واعتقل الآخرون، ودام اعتقاله مدة عامين. وفي المعتقل في مدينة الحاجب تعرض مع آخرين بحدود المائة من المعتقلين، لكل صنوف التعذيب المختلفة. "ضرب بعنف وحشي، هدر لإنسانيتهم وكرامتهم، الإساءة والتعذيب يطال كل شيء، الطعام وسوئه وقلته، النوم القليل، التعذيب الجسدي بالإجهاد عبر قطع الحجارة ونقلها واستخدامها لبناء حائط ومن ثم هدمه، الإيقاظ في الليل، التعرض للحر الشديد والبرد القارس حسب الفصول، انتشار الأمراض، التعرض لمضايقات جنسية، لواطة ببعض المعتقلين أو مع السجانين الشاذين، إهانات دائمة واتهام لغياب الانتماء الوطني وخيانة الدولة والملك". وبعد عام نقل مع المعتقلين الآخرين إلى معتقل "أهرمومو" حيث تفنن السجانون في تعذيبهم: الاستيقاظ ليلاً، البقاء وقوفاً في العراء والبرد شبه عراة لساعات طويلة، السجن الانفرادي مع البراز والجرذان والحشرات، المسير الليلي الطويل المنهك.....
وتعقيباً على هذه الرواية/السيرة، فإن القارئ يكون أمام عمل آخر رائع، يعود به إلى المربع الأول للمأساة العربية العامة الكامنة في الاستبداد السياسي، والمظلومية الاقتصادية والاجتماعية، والقهر والخوف والصمت، والعقاب القاسي، وإن المهمة الأولى المركزية على عاتق العرب جميعاً، الانتصار لإنسانيتهم وكرامتهم، ومواصلة نضالهم لتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية، حتى يسيروا في طريق التقدم وبناء الحياة الأفضل.
-- بتصرف، عن قراءة " أحمد العربي" لرواية "العقاب".
-------------------
ألاف عديدة من موقوفي الضمير في بلدان العرب، تعرضوا للقمع والاعتقال في سجون حكام طعاة فاسدون، وتعرضوا للتعذيب النفسي والجسدي، بوسائل وأشكال لا يمكن حصرها، وتحضرني فقرة من محاضرة لصديق العرب عالم الاجتماع الفرنسي جاك بيرك، إذ قال: (إن أصدقائي العرب لم يأخذوا من الحضارة الغربية إلاَّ أدوات التعذيب).
بعد انتهاء حفلات التعذيب الجسدي للمعتقلين الجُدد بعد منتصف الليل تبدأ حفلة دحرجة البراميل الفارغة والقرع عليها بالعصي، وقذف التنك الفارغ بالأبواط في الردهات أمام أبواب الزنازين، وأصوات عالية لمسجلات صوت سُجل عليها أصوات آهات المعتقلين أثناء تعذيبهم، وكان صدى تلك القرقعة والأصوات، يُرعب سكان المنازل القريبة من السجن في حي المزة، وتستمر تلك الحفلة حتى الساعة السادسة صباحاً، وهو موعد بدء الخدمات في السجن الذي يترافق مع الصراخ والشتم على المساجين العاديين من المجندين إضافة إلى صلصلة المفاتيح الكبيرة وفتح الأبواب وقرقعة براميل النفايات، وتوزيع طعام الإفطار المكوَّن من رغيف خبز "صمونة" فوقه عدد من حبات الزيتون أو ملعقة من اللبن المصفّى أو المربى أو بيضة مسلوقة، ومغرفة من الشاي المزفر تُسْكب في صحن البلاستيك الذي يستعمل لكل الحاجات.
يُفتح باب الزنزانة مرتين وقت توزيع وجبة الطعام، الأولى: يَطلب السجان فيها من المعتقل وضع
الصحن أمام الباب، وبعد أن يتم توزيع الطعام على صحون جميع المعتقلين في الزنازين يُفتح الباب ثانية ليستعيد المُعتقل الصحن وبما بقي فيه من طعام، بعد أن تكون الجُرذ قد هاجمته والتهمت ما
استطاعت مما احتواه قبل عودة السجان.
و بما أنه لا يُسمح للمعتقل حين استعادة صحنه، بأن يتجاوز باب الزنزانة أو يطل برأسه خارجها لذا يدفع السجان الصحن وما يحتويه، بحذائه العسكري "البوط" ليقربه من حافة الباب، وهو تقليد متوارث ولهذا التقليد دلالته العميقة التي تدل على ازدراء المُعتقل السياسي وتعمد إهانته وإذلاله.
مقطع من مقال (ربع قرن في المعتقل)
مروان حبش