كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بعيداً عن السياسة.. "جربة" نموذج التعايش السلمي

فاضل المناصفة- فينكس

وانت تزور جزيرة الأحلام التونسية، لن تكتفي بالجلوس على الشاطئ والاستمتاع برائحة الأمواج وزرقة البحر، بل ستأسرك أزقة المدينة النظيفة والمليئة بالدكاكين الصغيرة، التي تعرض مختلف المنتوجات التقليدية التونسية من مجوهرات وحلي، وألبسة وقفف ومراوح السعف المصنوعة يدوياً، وعليها علم تونس أو كلمة "جربة" بالحروف اللاتينية والعربية او حتى العبرية! ربما ستلجأ إلى ملاذ يحميك من حرارة الشمس لتجد نفسك داخل مقهى شعبي يسحرك ببساطة الديكور وفخامة المجلس، الذي يعطي صورة عن البيوت التونسية في الزمن الجميل، وكيف كانت المرأة التونسية تتفنن في خياطة الوسائد والزرابي والفرش التقليدية المصنوعة من جلد الخراف، ربما ستلاحظ وجود أشخاص يلبسون الكيباه اليهودية وتتعجب أن هذه الجزيرة العربية في البلد المسلم ترحب بهم... سيجيبك التوانسة المسلمون بأنهم أهل الدار ولافرق بينهم وبين المسلم والمسيحي ولا وجود لأي حركة متشددة داخل الجزيرة أو القطر التونسي تطالب برحيلهم أو تدعو للانتقام منهم... هنا ستدرك أن تونس هي نموذج التعايش السلمي بين الأديان السماوية الثلاثة... ولكن كيف وصل هذا البلد العربي ذي الغالبية المسلمة والذي يناصر القضية الفلسطينية ويرفض التطبيع إلى تقبّل اليهود كجزء من المجتمع التونسي له حقه في المواطنة و الانتماء على عكس الشعوب العربية الأخرى التي لطالما تمزج ما بين الدين والسياسة وتخلط ما بين اليهودية و الصهيونية؟

ربما أخفق الزعيم التونسي بورقيبة في مجال الاقتصاد والحريات السياسية والدينية وعسكر البلاد حتى تنجب ديكتاتوراً جديداً يمضي بتونس على خطاه. ولكنه نجح في تحصين تونس من خطر التشدد الديني والتطرف و جنّبها السقوط في الفخ الذي وقعت فيه الجزائر لاحقاً ودفعت ثمنه لعقد من الزمن جعل يهود ومسيحي الجزائر يكتمون دينهم بل يفرون من البلاد خشية التعرض للتصفية، وما ينعم به اليهود في "جربة" من تعايش سلمي مع المسلمين ما هو إلا ثمرة من ثمار فكر بورقيبة الذي لم يكن فقيهاً في الدين ولا من أتباع ما جاءت به سنة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والذي دعي إلى حفظ حق اليهود في الدولة الإسلامية ومعاملتهم بأخلاق الإسلام واعتبارهم من أهل الكتاب، ومنذ استقلال الدولة التونسية عن ''الحماية الفرنسية'' كما يسميها المؤرخون سابقاً حتى عهد رئيس تونس الحالي قيس سعيد و اليهود التونسيون يمارسون شعائرهم الدينية في كنف الأمان والتعايش مع المسلمين، لا بل أصبح معبد الغريبة في "جربة" مزاراً لليهود من مختلف بقاع العالم من دون أن يكون موسم حج اليهود عبئاً ثقيلاً على المؤسسة الأمنية التي تعتبر أن مستوى خطر استهداف اليهود يبقي ضئيلاً جداً، ذلك لأن الغالبية المسلمة في تونس متعايشة مع اليهود، بل تجد في المكوّن اليهودي لوناً من ألوان تونس ولا تكن أي مشاعر عداء، وحتى عندما تم تعيين يهودي على رأس وزارة السياحة استبشر التونسيون خيراً لما لهذا الرجل من قدرة على بعث النشاط السياحي من خلال تواصله مع يهود فرنسا الأثرياء وقدرته على اقناع المال اليهودي للاستثمار في تونس.

يقطن الحارة الصغيرة في "جربة" حالياً قرابة 1300 يهودي حسب الاحصائيات الرسمية، يتشاركون مع المسلمين في العديد من العادات والتقاليد التونسية، وتتجاور بيوت ودكاكين المسلمين واليهود، ويتقابل أبناءهم الصغار في مباريات كرة قدم الشوارع، أما الكبار فيجتمعون ليناصروا منتخب تونس من داخل المقاهي في جو تسوده لحمة أخوية تعبّر عن حسن الجوار وتسامح الأديان، وتتحول جربة في موسم الحج الى جزيرة تعج باليهود القادمين من مختلف بقاع الأرض ليزوروا المعبد المسمى ‘‘الغريبة‘’ نسبة لامرأة كان التونسيون على اختلاف اديانهم ومنذ 2400 سنة يتباركون بها، ويستبشر التجار المسلمون بقدوم موسم "الغريبة" لانتعاش حركة الأسواق بعد قدوم أفواج من اليهود الى المدينة الصغيرة، وقد قدّر عدد الزائرين العام الماضي بأكثر من 3000 زائر أجنبي ساهموا في عودة القليل من الروح للسياحة التونسية المتوقفة منذ عامين بسبب كورونا، وما ان تنتهي طقوس حج "الغريبة" السنوية حتى تعود المدينة الى هدوئها المعهود، ويمتزج اليهود والمسلمون في حياتهم اليومية وكأن شيئاً لم يكن.

قد يسأل القارئ عن الغاية من الحديث عن "جربة" وتعايش المسلمين واليهود فيها، بالرغم من أن هذا يحصل في الداخل الفلسطيني المحتل ويتشارك عرب "إسرائيل" المسلمون مع يهود "إسرائيل" في العمل أو مقاعد الدراسة أو وسائل النقل والأماكن العامة، ولكن الوضع يختلف تماماً في فلسطين المحتلة ذلك لأن السياسة ورغبة الإقصاء التي يمارسها المتطرفون بتشجيع من الحكومة الإسرائيلية، وطبيعة الصراع على أساس الأحقية في الأرض ومحاولة إلغاء دولة فلسطين ووجود حق فلسطيني في الأرض المحتلة، تلغي مظاهر التعايش السلمي بين المسلمين واليهود وتجعله تعايشاً مفروضاً بالأمر الواقع، ومهدداً في ظل التصعيد وموجات العنف، دون أن ننسى الانتهاكات المستمرة للمقدسات الإسلامية التي تحرك مشاعر المسلمين وتدفعهم الى الانتقام.

لقد نجحت "جربة" في تحقيق تعايش سلمي بين المسلمين واليهود في حين فشل اليهود والمسلمون في فلسطين في تحقيق ذلك، لأن أساس الصراع صراع وجودي ذو خلفية سياسية، وصراع يعتمد على فلسفة عبثية عنوانها الأرض لمن؟ وهذا ما من شأنه أن يعطل الحل ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين واليهود والمسلمين في الشرق الأوسط بمجمله، وأن يضاعف الأعباء الأمنية على دولة "إسرائيل" التي لن تنعم بالهدوء حتى في أوج قوتها العسكرية لأنها ستبقى دولة مهددة من الداخل والخارج وتعيش على تماس مباشر مع خصم يجد في المقاومة الخيار الوحيد للبقاء، كما من شأنه ان يضاعف من معاناة وحصار وتشريد الفلسطينيين الذين يواجهون الإقصاء والحق في بناء دولتهم والعيش بسلام.

سينعم اليهود والمسلمون في "جربة" بالسلام الدائم لطالما ظلوا مبتعدين عن السياسية وعن فكرة صراع وجودي، وسيتمر مسلمو ويهود فلسطين و"إسرائيل" في دفع فاتورة ما تفعله السياسة وما تنتجه صراعات الرغبة في الإقصاء.