كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

كتاب الثورة وخيبة الأمل (قيد الإنجاز)

مروان حبش- فينكس:
المقدمة
"لم يتخلص الناس من البؤس بمجرد هتافهم للثورة"
ميرلو بونتي
إن منطق الحياة يتطلب من الشعوب أن تبحث عما ينقصها ولا تستطيع الاستمرار بدونه، وإن المبادئ والقيم التي تفجر طاقاتها هي التي تنبثق عن التفاعل الحي بين هذه الشعوب وبين واقعها من ناحية، وبين ما تصبو إليه من ناحية أخرى، ومن هنا فقط تأتي الأهمية التاريخية للحركات والأحزاب التي تتبنى تلك المبادئ ومن هنا يأتي استمرارها وتواصلها مع شعبها حاملة مهمة إيضاح أهدافها وحمايتها من أي انحراف أو تزييف.
إن حزب البعث لبى نداء الشعب والواقع، وارتفع إلى مستوى استطاع معه أن يضطلع بمسؤولياته تجاه أمته.
لقد كان جيل البعث جيل الثورة الحقيقي، هو جيل تحسس بآلام الجماهير الفقيرة وصراعها مع قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية وحلفائهم، وانتمى إليها ونشأ من معاناتها، وآمن بأنه يحمل عقيدة التغيير ويتحسس بالبؤس الاجتماعي، ولهذا تولَّد لديه شعور بالرضا.
ولقد كان أكثر ما يقلق هذا الجيل، هو أن يجد نفسه منفصلاً عن الجماهير التي من أجلها يجب أن يكون نضاله، ومن أجلها يجب أن يبقى أمله ويبقى ضابط الخطو النضالي لمصالح الأمة وقضاياها، ومن أجلها يجب أن تكون ثورته.
وهو جيل يرى أن القضية المطروحة على الحزب وعلى الجماهير العربية المستَغَلة هي الثورة، وهذه القضية بالذات هي التي تحدد الإطار الواسع، والمرتكزات السياسية لصياغة استراتيجية عملية شاملة يواجه بها المستقبل.
كان الوعي بأن الثورة تتولد من الأمل لا من اليأس، من أجل تغيّر اجتماعي يقتلع البنى القديمة للسلطة والمجتمع وينشئ من جديد دولة حديثة بفهم أفضل للإنسان والحياة، تستجيب بشكل خاص لحاجات تحول مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، يرتفع إلى أعلى من ذاته، لكي يحقق قفزة كيفية مصحوبة بإعادة إنشاء البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنيكية في سبيل حل معضلات التخلف والخروج من وضع التابع، وكذلك ثورة سياسية في النظام والسلطة، وفي المواقف السياسية المعبرة عن الوجود القومي والمنطلقة من عقيدته الثورية المتكاملة في الإيمان بوحدة الأمة العربية، ووحدة مصالحها وقضاياها، وهذه من الأسس الرئيسة في تكوين ثوريته، ولذا فإن أي منطلق قطري أو انعزالي هو منطلق غريب عن منطق الثورية في فكر الحزب.
كان البعث بمنطلقاته ومبادئه ونضاله ضابط الخطو لمصالح الأمة وقضاياها، ومن هذه الحقيقة، أولى الجهد الأكبر من نضاله للقضية الفلسطينية، واعتبرها بؤرة صراع الأمة كلها مع الاستعمار القديم والجديد، وأن حلّها يكون بعودة فلسطين لأمتها، وأن مسؤولية ذلك تقع على عاتق كل العرب، وخاصة على القوى الثورية العربية منها. ولا يمكن أن يتحقق هذا الحل إلا عبر الحرب الشعبية، وأن تكون المقاومة خياراً استراتيجياً بكل ما في ذلك من معانٍ وواجبات والتزامات.
وجهد البعث كي لا يكون توحد بين الدولة والمجتمع وذلك بضرورة وجود الثقل المعدل للحزب الواحد في قوة الرأي العام بإبقائه حرّاً في التعبير عبر منظماته وفي الصحف دون خشية الوشاية والسجن، لتكتمل الديمقراطية في داخل الحزب بحرية المنظمات خارجه، لأن ذلك يشكل نوعاً من القانون الأساسي القابل لأن يُكوِّن الثقل المعدل لسلطة الحزب الواحد.
يؤمن البعثي بأن السلطة هي وسيلة تتوفر للحزب في سبيل بلوغ أهدافه وحشد موارد الوطن الضرورية لتنفيذ مقرراته، والاستجابة للآمال الجماعية في العدل الاجتماعي والترسيخ القومي.
كان انتماؤنا إلى حزب مؤمنين كما ينبغي لحركة أيديولوجية أن تكون، حزب يتكوّن فيه نموذج من المناضلين الأمناء على مبادئ وقيم حزبهم التي تجعل منهم ممثلين وقادة لمجتمعهم.
كان انتماؤنا إلى حزب يؤمن بأن حلّ منازعاته يكون في وسط مؤسساته ووفق أنظمته، لأن جميع أعضائه يوافقون على هذه المرجعية لهم ويخضعون للضرورة ذاتها، وهي بناء تنظيم سياسي مطابق للأهداف التي يحددها الحزب لنفسه.
تتطور أيديولوجية الحزب وبرامجه مع نمو وعي المجتمع لتبقى رائدة المستقبل ومتجاوبة في الحاضر، وهذه الأيديولوجية هي ما يجب تمحصها باستمرار حتى لا تتجسد فيها الروح الاستبدادية وتحكم المجتمع وتملي سلوكها عليه كما يحلو لها، فإنها بذلك تنفي الدولة المُنظِّمة وتقتل الحرية وتمنع المناقشة وتعتمد العنف داخل الحزب وعلى المجتمع، وتمهد الطريق لظاهرة عبادة الشخصية.
إن أية منظمة ثورية لا تعتمد الصراحة والحقيقة، مع نفسها ومع الآخرين أسلوباً وهدفاً ولا تتيح لأفرادها حرية التعبير الحقيقي عن آرائهم والتفاعل الحي بينهم، سوف تختنق وتموت وتفقد آخر نفس ثوري لها.
إن المقتل الحقيقي لثورية التنظيم يكمن في فقدان العلاقة الموضوعية والروح الرفاقية، ومتى حلّت العلاقة الشخصية وارتباطات المصلحة محل العلاقة الموضوعية، تضيع القضية التي يعمل التنظيم من أجلها، ويتحول إلى تنظيم مصلحي هدفه توزيع المنافع على أعضائه، و إلى ظاهرة مرضية عابرة في التاريخ، لأنه لم يكن في مستوى الأمانة لمبادئه ولا في مستوى الجدية والمسؤولية التي لا بد منها لتبرير وجوده كحركة ثورية دافعة في تاريخ الأمة العربية وتاريخ الكفاح الإنساني، وينتهي به المطاف لخلق واقع سياسي يتوجه إلى التبعية، وواقع اجتماعي يعمُّه الفساد والبطالة والفقر.
كانت خيبة الأمل أن بعض القادة يريد إبقاء الحزب على مقاسه، وهذه الإرادة أودت بالحزب إلى دوامة من الأزمات والاختراقات لنظامه ومقررات مؤتمراته، وألغت مقولة أن الاختلاف في وجهات النظر داخل الحزب ظاهرة صحية وتطورية في حيا ته، وكان من نتائج ذلك انشقاقات مستمرة في تنظيمه القومي.
وكانت خيبة الأمل أنّ الصراع ظهر بين منطقين في الحزب، منطق يعمل لتثبيت سلطة الدولة وأجهزتها لتكون في خدمة غايات الشعب، ومنطق يعمل لسيطرة السلطة المطلقة على الدولة وتأسيس حكم سلطوي يدعم ويبارك ويسخر إمكانيات الدولة لأشخاصهم وللمقربين والموالين والفاسدين وعبيد النفاق والتملق لتحقيق مصالح شخصية وثروة وغنى.
وكانت خيبة الأمل أن بعض القياديين ومناصريهم بدأوا يطرحون خشيتهم من مقاومة الصهيونية والاستعمار والرجعية ويضعون تكتلهم في طريق مغاير تماماً لطريق البعث الذي التزم بوحدة الأمة العربية ووحدة نضالها القومي، وكانت نتيجة ذلك إبعاد البعث وانتهاء ثورته، واستمرار الحكم وبقاء حزبه.
إن البعثي الذي يتمثل قيم البعث، يذود عن حياض وطنه، ويقف إلى جانب شعبه، يقاسمه قدره وآلامه ومصاعبه، ويفكر بأمانة وجدية في مصيره، ولا يوفر تضحية مهما غلت في سبيل ذلك، وهو الذي يجند كل طاقاته مع الجماهير المنتجة لا مع المستغِلين، أو في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة. وما زال مناضلو البعث أوفياء لكل قيم ومبادئ حزبهم وأمتهم، وهم أول من امتلأت بهم زنازين السجون وتوسدوا رطوبة أرضها والتحفوا عفونة هوائها، وتلقت أجسادهم سياط الجلاد، ومنهم من قضى نحبه أو قضى زهرة شبابه في المعتقلات.

ويذكر التاريخ، أن حركات ثورية عديدة تعرضت، ولأكثر من مرة، للفشل ولكن أهدافها ظلّت في أعماق الشعب صامدة لا تراجع عنها، لأنها وحدها العلاج الموضوعي لواقعه الأليم، ووحدها تستطيع أن تظلّ غاية راسخة تواصل الجماهير نضالها في سبيل تحقيقها.