كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

في فهم مواقف بعض "الكانتونات" من زلزال سورية

أحمد حسن- فينكس:

بإيجاز مخلّ وإشكاليّ أيضاً، وتلك سمة كل إيجاز، يمكن القول إنه حين قسّمت بريطانيا -بريطانيا تحديداً وإن اضطرت إلى إشراك فرنسا في ظروف "العالمية الأولى"- إرث السلطنة العثمانية في منطقتنا إلى كانتونات متعدّدة، تعمّدت في عملها هذا فصل الأقاليم الطبيعية إلى "دول" عدّة وتوزيع السكان بينها مع منح كلاً منها حدوداً رُسمت خطوطها "الإشكالية" في مكتب صغير تابع لوزارة الخارجية البريطانية.
وبالطبع لم تكن لندن تسعى من وراء ذلك إلّا إلى أمرين اثنين، أولهما، زرع بذور خلافات أبدية على "الماء والكلأ" بين هذه "الدول"، وثانيهما، وهو نتيجة للأول، إبقائها بحاجة للحماية الخارجية، البريطانية تحديداً، أي أنها، بالمحصلة، وضعتها كلها على عدّة فوالق زلزالية إن سكن أحدها تحرك الآخر، ما يعني حاجة كل كيان، وفي كل لحظة، إلى حماية، خارجية، ثم "اختلقت" في قلب هذه "الدول" كياناً حاجزاً استناداً إلى روايات "توراتية" غائمة.
بيد أنها، وللحق، تركت لهذه الكيانات حرية اختيار أعلامها "الثورية" ونشيدها الوطني المدجّج بلاغياً على وزن "تخرّ له الجبابر ساجدينا"، ليصبح "فعل" هذه الكانتونات الوحيد هو التنقل بين "قعرين" لا ثالث لهما، أولهما فقه البلاغة الحماسية، وثانيهما فقه التراجعات والتسويات، على مبدأ أن "99" بالمئة من الأوراق بيد لندن، ومن بعدها واشنطن، اللتان احتفظتا بحق تحديد قضايا هذه "الدول" وأولوياتها، وهي غالباً من فئة قضايا "داحس والغبراء" وأولوية الحفاظ على "الكرسي" قبل أي شيء آخر.
وحين بدأ بعد "العالمية الثانية" -وعلى وقع "النكبة" تحديداً- تشكّل وعي جنيني بأهمية "اجتماع" عربي ما، عادت بريطانيا ذاتها للقوطبة عليه عبر منح محمياتها "جامعة عربية" سمحت لهم فيها بالتمتع بشكل الوحدة والاجتماع لكن بمضمون يديم الفرقة والتذرّر، ولأنها أبرع من "فهم" نفسية العرب فقد منحتهم أيضاً شكل "إخواني" لاجتماعهم كمسلمين، بل ومنحتهم أيضاً رؤوساء وأسر حاكمة بقضها وقضيضها.
ولأننا نتعمّد الايجاز، كما أسلفنا، لذلك ننتقل إلى القول إننا لا زلنا نعيش في ذات الفوالق الزلزالية التي وضعتنا فيها بريطانيا، وكلما جرت محاولة للخروج منها سارعت لندن، ومن ثم خليفتها واشنطن، إلى وأدها، يساعدها في ذلك "نخب" المنطقة السياسية والثقافية دفاعاً عما أصبح مصالحهم لاحقاً في هذه "الكيانات"، فهم بدورهم أسهموا في تذررنا وفرقتنا خدمة للسلطات التي رفضت، بدورها، بناء الدولة خشية على "الكرسي" المذهّب، الأمر الذي أبقانا في خانة المفعول به لا الفاعل، لتأخذ ردات فعلنا، حتى في المآسي والأزمات، شكل "هبّة" شعبية و"فزعة" عشائرية لا سياسة حزب ما أو دولة محدّدة ومقرّة سابقاً للتعامل مع الكوارث، وتحمل خلافاتنا شكل "غضبة مضرية" يحكمها الحقد الشخصي -وهذا لا يرويه إلا الدم- لا إشكالات سياسية تحلّها السياسة أيضاً، وبالتالي انتهينا إلى تبعية كاملة ليست خافية على أحد، حتى وصلنا، بمر الزمن، إلى مرحلة التآكل الذاتي التي نعيشها اليوم.
وبالتأكيد ليس ما سبق دعوة لوحدة عربية شاملة فذلك أمر تخطاه الواقع بل لقول ما هو حقيقي ونافع، وكذلك لفهم مواقف بعض الكانتونات من زلزال سورية الأخير، سواء من اقترب منها لشعوره بانشغال "المركز" العالمي عنه وعنها بمعركته ضد تعدد "المراكز"، أو من بقي على عدائه معها.
وهنا، هنا فقط، نفهم تركيز "كانتون" قطر مثلاً في "إغاثتها" على "الكانتونات" المحدثة في سورية، لذلك سارت قوافل مساعداتها الإنسانية "على الطريق نفسه الذي سارت عليه الأموال القطرية التي جرى ضخّها في الحرب لشراء أسلحة ودفع رواتب المقاتلين"، وهي في ذلك كانت تشبع حقدها على "النظام" من جهة أولى، وتحمي -بأوامر أمريكية- "كانتون الجولاني" من جهة ثانية، وتسعى، من جهة ثالثة، إلى تقديم دعم "إغاثي" لأحد حماتها الخارجيين، أي "أردوغان"، في معركته الانتخابية المصيرية القادمة.
وهنا أيضاً نفهم دور كانتون "الذاتية" في شمال شرق سورية كمجرد "تتمة شكليّة للقوات الأمريكية" رغم مضمونه المنفصل، وبهذا نفهم تراجع هذا الكانتون، بالنسبة لتقديم المعونات، عن شروطه "السيادية" أمام أشباهه في ادلب وتعنّته مع العاصمة دمشق، كما نفهم أيضاً سعي دول الغرب في اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير بشأن "الزلزال" للدفاع عن كانتون جبهة النصرة، "فيتحدّث مندوب فرنسا عن خصوصية يجب الحفاظ عليها، ويلوح بالفصل السابع". 
بيد أن ذلك كلّه لا يعفينا من قصورنا الذاتي في بناء الدولة بل وحتى من عدم اكتمال مفهوم الدولة ذاته لدينا، لذلك تأتي استجابتنا للكوارث والأزمات متأخرة ومرتبكة وقاصرة، ويصبح السكان قابلين، بالتالي، للوقوع فريسة أي إشاعة -حتى لو كانت كاذبة ومغرضة- تريد النيل من الدولة، وهذا ليس سببه فقط لندن بالأمس وواشنطن اليوم، بل نحن أيضاً.. ولهذا كلام آخر.