كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"هنا برلين حييّ العرب"

كتب صفوان الزين:

ربما لم يبقَ على قيد الحياة في مدينتنا سوى قلائل ممّن عايشوا هذا النداء الشهير عندما كان ينطلق مدويّاً بصوت المذيع الذائع الصيت "يونس البحري" مستهلّاً به فقرته اليومية باللغة العربية الموجهة من إذاعة برلين الى العالم العربي خلال الحرب العالمية الثانية.
كنتُ ممن عايشوا هذا النداء وسمعته يتردد همساً على ألسنة اخوتي دون ان أفقه معناه أو خلفياته، إذ كنتُ أصغر عمراً من ان أعي ما يدور حولي، غير اني أستعيد بكل وضوح مشهد والدي معانقاً الراديو الوحيدة التي نملكها طراز الثلاثينيات أو ربما الأربعينيات من القرن الماضي، ملتصقاً بشاشتها الكبيرة، مستغرقاً في الاستماع باستمتاع و حذر بالغَين الى يونس البحري، الذي كان محظوراً من قِبَل سلطة الانتداب الفرنسي سماعه تحت طائلة سوق المستمع الى السجن، مثلما كان محظوراً عليّ الاقتراب من الوالد أثناء التصاقه بجهاز الراديو تحت طائلة سوقي خارج الغرفة وربما خارج البيت.
كانت الحرب في أوج احتدامها في معركة الحياة أو الموت بين ألمانيا النازية وحلفائها من جهة وفرنسا وبريطانيا وحلفائهما من جهة اخرى، ولجأ الطرفان الى البث الاذاعي الحديث العهد بوصفه الوسيلة الأفعل في الحرب الاعلامية التي استعرّت بين الطرفين وقتذاك واستُخدِمت فيها الأطنان من الأكاذيب المتبادلة، ومن الطبيعي ان الناس في بلادنا كانوا يضمرون رغبة جامحة بأن تنتصر المانيا في الحرب الدائرة رحاها بعيداً عنهم كي "تحررهم"، كما أوهمهم يونس البحري، من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني الجاثمَين على صدورهم منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، من هنا أصبح اسم يونس البحري على كل شفةٍ ولسان في الجلسات المغلقة البعيدة عن الأضواء، وأصبحت فقرته اليومية باللغة العربية المليئة بالتحريض والاثارة وبث الآمال الكاذبة بالنصر الألماني القريب، عاملَ جذبٍ لا يُقاوَم للآلاف من المستمعين على امتداد الوطن العربي.
ما ان لاحت بوادر الهزيمة الألمانية في الحرب حتى كان يونس البحري العراقي المولد قد اختفى عن الأنظار وراح يتنقل متخفياً لسنوات من قطر الى آخر الى ان ظهر فجأةً في شوارع بغداد في أعقاب انقلاب ١٤تموز ١٩٥٨ الذي اطاح بالنظام الملكي في العراق. سرعان ما أُلقيَ القبض عليه بأمرٍ من زعيم الانقلاب عبد الكريم قاسم وأودع السجن تمهيداً لمحاكمته بعد ان راجت شائعات عن ارتباطات له مع اجهزة مخابرات عدّة.
الغريب في الامر ان العديد من الشخصيات العربية التي كانت تربطها مع البحري صداقات حميمة تدخلت من اجل إطلاق سراحه، وهو ما جرى فعلاً.
قضى آخر سنوات عمره السابقة لوفاته ودفنه في بغداد، قضاها في بيروت حيث صدرت له مذكرات شيّقة بعنوان "هنا برلين حييّ العرب"، روى فيها ذكرياته عن فترة عمله وإقامته في برلين خلال الحرب.
بالنتيجة ربما كان يونس البحري العربي الوحيد الذي لم يصدق يوماً ما كانت تجود به قريحة المذيع يونس البحري الدعائية على الملايين من مستمعيه العرب، فلقد كان التلميذ النجيب لوزير الدعاية النازي الشهير جوزيف غوبلز صاحب القول المأثور: إكذِب ثم إكذِب ثم إكذِب فلابد ان يصدقك الناس الذين يميلون غريزيّاً الى تصديق ما يودون سماعه.