كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

إرنست همنغواي والمفارقة بين السلوك الفعلي وبين القيم التي كان ينادي بها

مروان حبش- فينكس

لقد احتاجت أمريكا إلى وقت طويل قبل أن يبدأ مجتمعها بإنتاج مفكرين، وكان إمرسون (1803- 1882) مؤسس "فلسفة التسامي"، أول مفكر أمريكي دعا إلى نشوء أدب بروح أميركية مستقلة، أدب من جسد أمريكا ودماغها، وبعيدة عن الأسلوب والروح الأوروبية، واستبدال الشغف بأوروبا بالشغف بأمريكا. على هذه الخلفية يعكس أرنست همنغواي الخصائص الرئيسية للمفكر ويمتلكها في مزيجها الأمريكي، وهو أحد أعظم الكتاب الأمريكيين في القرن العشرين، فقد غيّر الطريقة التي يعبّر بها الناس، في العالم الناطق باللغة الإنكليزية، عن أنفسهم. وخلق أسلوباً أخلاقياً جديداً، وشخصياً، وعلمانياً، ومعاصراً جداً، وترجم نفسه إلى كثير من الثقافات.
إن إرنست همنغواي، الكاتب الأمريكي الشهير والحائز على جائزة نوبل، والذي يمثل حالة فريدة في الأدب العالمي، ويجمع بين الأسلوب الأدبي الفريد والحياة الشخصية المليئة بالتناقضات. ولد عام 1899في ضاحية قريبة من مدينة شيكاغو، لأبوين متعددي المواهب ومتكيفين جداً مع محيطهما، وفعل كلاهما ما في وسعهما لنقل جميع إرثهما الثقافي لأبنائهما. ونما وكبر إرنست، وهو أكبرهم والمفضل عندهم، يقرأ كثيراً ويشتهر بأعماله الأدبية العميقة التي تناقش موضوعات مثل الشجاعة، والبطولة، والصدق، والأخلاقيات الفردية. ولكنه رفض دين والديه بكليته ورفض معه أي رغبة بأن يكون ذلك النوع من الأبناء الذي أرادوه، وكان يعتبر الدين المنظم تهديداً للبشرية. وعاش في كل حياته الراشدة، فعلياً، بصفته وثنياً، يعبد أفكاراً من تصميمه. كما كان يكن كراهية كبيرة لوالدته ويعتبر أنها سممت حياته، وهذه الكراهية اكتسبت عنده مكانة نظام فلسفي. وكان يؤمن بأنه ورث عالماً زائفاً، يرمز إليه الدين والثقافة الأخلاقية لوالديه، وأنه يجب أن يُستبَدل بثقافة حقيقية صادقة، تؤسس على الإخلاص الدقيق المتمعن لحقيقة الأحاسيس الخاصة.
من خلال رواياته وقصصه القصيرة، نقل إلى القراء عدوى ذوقه الخاص، والقيم التي ترتكز على النزاهة والشجاعة في مواجهة الصعاب، وهي قيم تظهر بوضوح في شخصياته الأدبية، مثل سانتياغو في رواية "الشيخ والبحر"، ولكن مسعاه إلى الحياة "الحقيقية، حياة الفعل، كانت حيوية ونشاطاً فكرياً، لنوع الأعمال القصصية التي يكتبها". كما ورد عن لسان روبرت جوان بطل رواية "لمن تقرع الأجراس": (كان يجب أن يعرف كيف كانت فعلاً، وليس كيف يفترض أن تكون).
بالرغم من أنه كان يكتب عن هذه القيم السامية، وبرغم الأهمية المحورية للحقيقة في أخلاقياته القصصية فإنه كان يمتلك اعتقاداً، بأن الحقيقة يجب أن تكون خادمة مخلصة لأناه. وكان يعتقد أن الكذب جزء من سلوكه ككاتب. وسيرته الذاتية "وليمة متنقلة"، لا يمكن الركون إليها، وفيها سوء تعامل مع الحقيقة.
ولقد أخرجت، خدمته في الجيش في الحرب العالمية الأولى، الكاذب في همنغواي، "قال همنغواي أنه تطوع مع الجيش لكنه رُفِض بسبب قصر نظره، وهذا غير مرجح على الإطلاق. كان في الواقع مشاركاً غير محارب، وكان ذلك خياره. ففي كثير من المناسبات بما في ذلك مقابلات الجرائد، قال إنه قد خدم في فوج المشاة الإيطالي التاسع والستين، وكان قد حارب في ثلاث معارك رئيسية...". وبعدها كمراسل في حرب اسبانيا، "ضَمَّن رسالة له إلى أهله مجموعة من الأكاذيب حول تقاريره عن جبهة تيرول: حصلت على الخبر الأول عن المعركة لنيويورك تايمز قبل المراسل الأكثر شهرة ماثيوس بعشر ساعات، وعدت، وخضت، الهجوم كاملاً مع المشاة... كما كتب بشأن كونه أول من دخل باريس المحررة عام 1944.
والجنس أخرج الكاذب فيه أيضاً، "وواحدة من أفضل حكاياته الإيطالية تتحدث عن كونه أُخذ أسيراً جنسياً من قبل مالكة فندق صقلية خبأت ملابسه بحيث أُجبر على مضاجعتها لمدة أسبوع. وكان قد تبجح بعدد المرات التي ضاجع زوجته ماري، وأخبر صديقه الجنرال تشارلز لانهام أنه بعد فترة من الإهمال، كان من السهل تهدئة ماري حيث رواها أربع مرات في الليلة السابقة، وخين سأل الجنرال لانهام عن هذا بعد وفاة همنغواي تنهدت قائلة: "ياليت كان ذلك صحيحاً". حتى أن زوجته الثالثة مارثا غيلهورن "التي كانت تعيش حياة العبد مع مالك عبيد متوحش" قالت بأنه لم يكن يحترم الحقيقة كثيراً. وكان مزيجاً من التعقيد السطحي الذي يخفي هوة من التصديق حول كل موضوع.
إن حياة همنغواي الشخصية كانت مليئة بالتناقضات التي تعكس سلوكيات لا تتماشى دائمًا مع تلك القيم. وكانت أخلاقياته تتعلق فعلياً بولاءاته الشخصية. كما كانت الخلافات الأدبية تُبرز فيه نزعة من الخبث الوحشي إضافة إلى نزعة الكذب. وهو كاتب يمجد قيمًا معينة في أعماله الأدبية، مثل الشجاعة، البساطة، النزاهة، والشرف، لكنه في حياته الشخصية عاش بعيدًا عن هذه القيم في كثير من الأحيان. وتعمق هذا التناقض مع الزمن وأصبح مادة خصبة للبحث والتحليل. وإن أبرز القيم التي روج لها همنغواي في أدبه، كانت تتناقض مع سلوكه الشخصي.
1-الشجاعة في مواجهة الخوف مقابل الانهيار النفسي
في أدبه، روَّج همنغواي لفكرة "الشجاعة في مواجهة الخوف". كان يركز على الأبطال الذين يواجهون مصيرهم بشجاعة، دون تراجع أو خوف. وأحد أشهر أمثلة ذلك هو رواية "الشيخ والبحر"، التي يظهر فيها سانتياغو، الصياد العجوز، وهو يواجه البحر بلا خوف، متحديًا الصعاب بشجاعة وإصرار. لكن همنغواي نفسه كان يعاني من نوبات قلق واكتئاب حادة، حتى أنه حاول الانتحار عدة مرات قبل أن ينجح في محاولته الأخيرة عام 1961. هذه النهاية المأساوية تعكس تناقضًا جوهريًا بين الشجاعة التي دعا إليها في أعماله والخوف الذي طغى على حياته.
3-النزاهة الأدبية مقابل عدم الاستقرار العاطفي
كان همنغواي يشدد على النزاهة في الكتابة، ويرى أن الكاتب يجب أن يكون صادقًا في نقل تجاربه ومشاعره. وكان يؤمن بأن الكتابة الصادقة هي ما يجعل الأدب خالدًا. مع ذلك، كانت حياته الشخصية بعيدة عن هذه النزاهة. فقد تزوج همنغواي أربع مرات، وكان غير مخلص في معظم زيجاته، حيث تورط في علاقات عاطفية متعددة أثرت على استقرار حياته العائلية. هذا التناقض بين نزاهة الكاتب في أدبه وعدم استقراره في حياته الشخصية يطرح سؤالًا حول ما إذا كان يستطيع فعلاً تطبيق القيم التي يروج لها في حياته الواقعية.
3- البساطة في الحياة مقابل الترف والبذخ
في أعماله، يمجد همنغواي البساطة كقيمة عليا. إن شخصياته غالبًا ما تكون متواضعة، تعيش حياة بسيطة بعيدًا عن تعقيدات المجتمع. لكنه في حياته الشخصية عاش حياة مليئة بالبذخ والترف. أحب السفر، الصيد، رحلات السفاري، واستمتع بحياة مترفة لم تكن تتوافق مع تلك القيم البسيطة التي مجدها في أدبه. على سبيل المثال، كانت له مزرعة في كوبا حيث عاش حياة رغيدة، مليئة بالاحتفالات والكحول. هذه الحياة المترفة تتناقض بشكل واضح مع تلك البساطة التي كان ينادي بها في كتاباته.
4-الشرف والكبرياء مقابل العنف والتسلط
الشرف هو قيمة محورية في أعمال همنغواي. أبطاله غالبًا ما يتمسكون بالشرف في أصعب الظروف، وينظر إلى الكبرياء الشخصي كشيء لا يمكن المساس به. ومع ذلك، فإن سلوكه الشخصي كان يميل للعنف والتسلط. كان معروفًا بنوبات غضبه العنيفة، وكان أحيانًا يتصرف بشكل مهيمن مع أصدقائه ومعارفه وزوجاته، وكان على زوجته الرابعة ماري التي وصفها بالعاهرة أن تتحمل نوبات نزوات غضبه. هذا التناقض يوضح أن مفهوم الشرف والكبرياء الذي مجده في أدبه لم يكن حاضرًا بشكل دائم في حياته الخاصة.
5-الحرية مقابل الاستعباد للإدمان
كتب همنغواي كثيرًا عن الحرية، وخاصة حرية الفرد في اتخاذ قراراته وتشكيل مصيره. لكن في حياته الشخصية، كان عبدًا للإدمان. كان يشرب الكحول بكثرة، وكان ذلك جزءًا من شخصيته العامة. ويقال إنه كان يستيقظ في الرابعة والنصف صباحاً، "ويبدأ الشرب مباشرة ويكتب وهو واقف، بقلم رصاص في يد وكأس شراب في اليد الأخرى". وكان لإدمانه للكحول أثر على صحته النفسية والجسدية، وربما كان أحد الأسباب التي أدت إلى تفاقم حالته النفسية وأدت في النهاية إلى انتحاره. هذا التناقض بين الترويج للحرية في الأدب والانغماس في الإدمان في الحياة الواقعية يعكس صراعًا داخليًا بين ما كان يطمح إليه وما كان يعاني منه.
6-التواضع الأدبي مقابل الغرور الشخصي
كان همنغواي يؤكد في كتاباته على قيمة التواضع، وخاصة بين الكتّاب. كان يرى أن التواضع هو ما يجعل الكاتب عظيمًا. لكن في حياته الشخصية، كان معروفًا بغروره. كان يعتقد أنه أعظم كاتب في جيله، ولم يكن يخفي هذا الاعتقاد. هذا الغرور جعله في كثير من الأحيان يصطدم مع زملائه الكتاب، كما أنه أثر على علاقاته الشخصية. هذا التناقض بين التواضع الذي دعا إليه والغرور الذي كان يعيشه يعكس صراعًا داخليًا آخر.
كان إرنست همنغواي، دون شك، واحدًا من أعظم الكتّاب في القرن العشرين، لكن حياته كانت مليئة بالتناقضات التي تعكس تعقيد الطبيعة البشرية. لقد عاش صراعًا دائمًا بين القيم التي كان ينادي بها في أدبه وسلوكه الشخصي. هذا التناقض يمكن أن يكون قد أثرى أعماله الأدبية، حيث أن الصراع الداخلي هو ما يجعل الشخصيات أكثر واقعية وتعبيرًا عن الطبيعة الإنسانية. لكنه في الوقت نفسه، يظهر أن الكاتب، كأي إنسان آخر، ليس دائمًا قادرًا على الالتزام بالقيم التي يؤمن بها، وأن حياته الشخصية قد تكون مليئة بالتعقيدات التي لا يمكن اختزالها في قيم بسيطة.
ويمكن تفسير هذا التناقض بين سلوك همنغواي الفعلي والقيم التي كان ينادي بها من خلال فهم الطبيعة البشرية المعقدة. قد يكون همنغواي قد استخدم كتاباته كوسيلة للتعبير عن القيم التي كان يطمح إليها ولكنه لم يستطع تحقيقها في حياته الواقعية. أو ربما كانت تلك القيم المثالية وسيلة للتعويض عن الضعف والعيوب التي كان يشعر بها في داخله.
إن المفارقة بين سلوك همنغواي الشخصي والقيم التي كان يدافع عنها في أعماله الأدبية تسلط الضوء على التناقضات التي يمكن أن توجد في حياة الأفراد، حتى الأكثر شهرة وقوة. وتذكرنا بأن الأدب قد يعكس أحيانًا ليس ما نحن عليه بالفعل، ولكن ما نتمنى أن نكونه.
لقد خلق همنغواي مدونته السلوكية الخاصة، مدونة تقوم على الشرف، والحقيقة، والولاء. وفشل في المجالات الثلاثة. وهي فشلت في تحقيق ما كان يطمح إليه، وشعر بأنه كان يفقد فنه. ونزاهته الفنية التي كانت تشع كمنارة طيلة حياته، كرس لها كثيراً من المهارات الإبداعية، وذلك بحد ذاته كان صعباً. ولكن الأكثر صعوبة، كما اكتشف، كان الاحتفاظ بمعايير إبداعية رفيعة كان قد وضعها لنفسه. حتى وصل به الأمر إلى انتاج كميات كبيرة من المواد غير القابلة للنشر، أو مواد شَعَر أنها لم تصل إلى معيار الحد الأدنى الذي وضعه لنفسه. باستثناء رواية "الشيخ والبحر. وإن وعي همنغواي بانعدام قدرته على استعادة عبقريته، ناهيك عن تطويرها، سرَّع من زيادة اكتئابه وإسرافه في الشراب.
كان رجلاً قتله فنُّه، وفي 2 نموز 1961، بعد عدد من العلاجات غير الناجحة للاكتئاب والرهاب، أمسك ببندقية ذات سبطانة مزدوجة، ووضع طلقتين فيها، وفجر كامل تجويفه القحفي.