كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أول مَن قال بكروية الأرض.. كيف تحدَّث عن تجربته مع التقمُّص..؟

هلال عون

«كان يرى أن النفس تمرّ بعد الموت بفترة من التطهير، تعود بعدها إلى الأرض وتدخل في جسم جديد، ثم في جسم آخر، وتمر في سلسلة من التناسخ لا ينتهي إلا إذا كان صاحبها قد حَيي حياة فاضلة منزهة عن الرذائل».
كان الانضمام إلى مجتمعه يتطلب، فضلاً عن تطهير الجسم بالعفة وكبح الشهوات، تطهيرَ العقل بدراسة العلم.
و كانت هيبته، وغزارة علمه، واستعداده لقبول النساء والرجال في مدرسته، سبباً في إقبال الناس عليها.
وقد قال بمبدأ تكافؤ الفرص للذكور والإناث على السواء قبل أن ينادي بذلك أفلاطون بمائتي عام، ولم ينادِ بهِ فحسب بل نفذه عملياً.
على أنه مع ذلك لم يكن ينكر أن بين الجنسين فوارق طبيعية من حيث وظائف كل منهما.
وكان يُعلّم تلميذاته الشيء الكثير من الفلسفة والآداب، ولكنه كان يعلمهن أيضاً فن الأمومة والتدبير المنزلي.
وتجمع الروايات المأثورة على أن طلابه كانوا يتشاركون معيشتهم على قدم المساواة. وكان يحرم على أفراد هذه الجماعة أن يقتلوا أي حيوان لا يؤذي الإنسان، أو أن يتلفوا شجرة مزروعة.
وكان يطلب إليهم أن يلبسوا الثياب البسيطة وأن يطرحوا الفوقية، وألا "يندفعوا في الضحك، وألا يكونوا مع ذلك عابسين".
ولم يكن يباح لهم أن يُقسموا بالآلهة لأن "من الواجب على كل إنسان أن يعيش عيشة تجعله خليقاً بأن يصدِّقه الناس دون أن يلجأ إلى القسم".
وكان عليهم أن يسألوا أنفسهم في آخر كل يوم عما ارتكبوه من الذنوب، وعما أهملوه من الواجبات، وعما فعلوه من الخير.
وقد أخذ الأستاذ الفيلسوف نفسه بهذه القواعد ورعاها أشد مما رعاها أي تلميذ من تلاميذه، الأمر الذي أكسبه احترام طلابه وسلطانه عليهم.
و كان يعيش معظم أيامه على الخبز والعسل، و حلواه كانت هي الخُضَر، وثوبه كان على الدوام ناصع البياض؛ و لم يُعرف عنه قط أنه أفرط في الأكل، ولم يُغرِق في الضحك، أو المزاح، ولم يعاقب إنساناً مطلقاً ولو كان عبداً.
ويقول "برتراند راسل" في تاريخ الفلسفة الغربية: "إن تأثيره على أفلاطون وغيره كان عظيماً لدرجة أنه يجب أن يـُعتبر أكثر الفلاسفة تأثيراً".
إنه "فيثاغورس" الذي أنشأ مدرسة قبل 2500 عام من الآن بمنهج علمي يتألف من أربعة موضوعات: الهندسة النظرية، والحساب، والفلك، والموسيقى.
وكان يبدأ بالرياضيات؛ ولكنها لم تكن العلم العملي الذي استحال إليه على أيدي المصريين القدامى، بل كان علماً مجرداً نظرياً يبحث في الكميات، ومثلاً أعلى في التدريب المنطقي يجعل التفكير منظماً واضحاً بعرضه على محك الاستدلال الصارم والبرهان الواضح الملموس.
وأضحت الهندسة النظرية منذ ذلك الوقت مجموعة من البديهيات، والنظريات، والبراهين.
وكانت كل خطوة في القضايا المنطقية المتتالية ترفع الطالب إلى مستوى أعلى من مستواه السابق - تؤهله للاطلاع أكثر من ذي قبل على بناء العالم.
وتقول الرواية اليونانية المتواترة إن فيثاغورس نفسه كشف كثيراً من النظريات الهندسية، وأهمها أن مجموع الزوايا الداخلية في أي مثلث يساوي قائمتين، وأن المربع المقام على الضلع المقابل للزاوية القائمة في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين.
وانتقل فيثاغورس من الهندسة إلى الحساب - على عكس النظام المتبع في هذه الأيام.
ولم يكن يقصد بالحساب وقتئذ أن يكون فناً عملياً للتعداد والإحصاء، بل كان نظرية مجردة للأعداد.
ويبدو أن المدرسة الفيثاغورية هي أول من قسم الأعداد إلى فردية وزوجية، وإلى أعداد صماء وأخرى قابلة للقسمة، وقد صاغت نظرية النسبة، واستطاعت بها و"بتطبيق المساحات" أن توجد الجبر الهندسي.
ولعل دراسة النسبة هي التي مكنت الفيثاغوريين من أن يحولوا الموسيقى إلى أعداد.
ويُروى أن فيثاغورس كان في يوم من الأيام ماراً بحانوت حداد، فاسترعت سمعه الفترات الصوتية الخارجة من ضربات السندان، والتي بدت كأنها فترات موسيقية منتظمة.
ولما عرف أن المطارق ذات أوزان مختلفة استنتج من ذلك أن النغمات تتوقف على نسب عددية.
وتقول إحدى التجارب القليلة التي سمعنا بها في علوم القدماء إنه أتى بوترين متساويين في السمك وفي التوتر، وتبين له أنه إذا كان طول أحدهما ضعفي طول الآخر أخرجا، إذا جذبهما، نغمةً من الدرجة الأولى؛ وإذا كان أحدهما قدر الآخر مرة ونصف مرة أخرجا خُمساً (دو - صول)؛ وإذا كان أحدهما قدر آخر مرة وثلث مرة، أخرجا رُبعاً (دو - فا)؛ وبهذه الطريقة يمكن أن تقدر كل نغمة موسيقية تقديراً رياضياً، وأن يعبر عنها تعبيراً رياضياً كذلك. وإذ كانت كل الأجسام التي تتحرك في الفضاء تخرج أصواتاً، تتوقف درجة ارتفاعها على حجم الجسم وسرعة حركته، فإن كل كوكب في فلكه حول الأرض (كما يقول فيثاغورس) يحدث صوتاً يتناسب مع سرعة انتقاله، وهذا الصوت يعلو أيضاً كلما بعُد الكوكب عن الأرض؛ ويتكون من هذه النغمات المختلفة ائتلاف في الأصوات أو "موسيقى الأفلاك"، وهي موسيقى لا نلحظها قط لأننا نسمعها على الدوام.
ويقول فيثاغورس إن العالم جرم كُرِّيٌّ حيٌّ مركزه الأرض، وإن الأرض هي الأخرى جرم كري تدور، كما تدور الكواكب .
وقال إن الجزء الذي نراه من القمر يكبر حجمه أو يصغر تبعاً للزاوية التي يواجه بها الأرضَ نصفُه المتجه نحو الشمس، وإن خسوف القمر ينشأ من وجود الأرض أو أي جرم آخر بينه وبين الشمس.
ويقول ديوجنيز ليرتس إن فيثاغورس كان أول مَن قال إن الأرض مستديرة، وأول من سمى العالم كوناً.
وقد عمل فيثاغورس بفضل بحوثه في الرياضيات والفلك أكثر مما عمله أي عالم آخر لوضع أسس العلوم الطبيعية في العالم.
ولما أن تم له ذلك انتقل إلى الفلسفة، ويبدو أن لفظ الفلسفة نفسه من وضعه هو.
وقد رفض أن يستخدم كلمة سوفيا Sophia أي الحكمة لأنها ادعاء عريض لا يرضاه، ووصف سعيه لإدراك الحقائق بأنها فلسفة Philosophia أي محبة الحكمة.
وقد صارت كلمتا فيلسوف وفيثاغورس في القرن السادس كلمتين مترادفتين.
و قال إن النفس تنقسم أقساماً ثلاثة: الشعور واللقانة والعقل؛ فالشعور مركزه القلب، واللقانة والعقل مركزهما المخ؛ وإن الشعور واللقانة من صفات الحيوان والإنسان على السواء، أما العقل فيختص به الإنسان وحده، وهو خالد لا يفنى.
ويرى أن النفس تمرّ بعد الموت بفترة من التطهير، تعود بعدها إلى الأرض وتدخل في جسم جديد، ثم في جسم آخر، وتمر في سلسلة من التناسخ لا ينتهي إلا إذا كان صاحبها قد حَيي حياة فاضلة منزهة عن الرذائل بأجمعها.
وكان يحدّث أتباعه بأن روحه قد تقمصت مرة جسم البطل يوفوربوس؛ وإنه يذكر بوضوح مغامراته في حصار طروادة.
وكان يعتقد أن أكثر ما تحصل به النفس على التآلف هو الحكمة، وهي فهم الحقائق التي يقوم عليها هذا التآلف فهماً هادئاً؛ وذلك لأن هذه الحكمة تعلم الإنسان التواضع والاعتدال، والطريقة الوسطى الذهبية.
أما الطريقة المضادة لهذه - أي طريقة التنازع والتطرف، والخطيئة - فتؤدي حتماً إلى المآسي.
كان يرى ان كل خطأ - إن عاجلاً أو آجلاً - تنتظره العقوبة المكافئة له، وهذا مبدأ العدالة، و هو جوهر فلسفة أفلاطون و أرسطو الأخلاقية.
وكان أفلاطون يهيم بصورة فيثاغورس الغامضة؛ وهو يأخذ عنه في جميع نواحي نشاطه الذهني - في سخريته من الدمقراطية، وفي تلهفه على وجود أرستقراطية اشتراكية من الحكام الفلاسفة.
ويمكن القول أن فيثاغورس - على قدر ما وصل إلينا علمه - هو واضع أساس العلوم الطبيعية والفلسفة في أوربا؛ وذلك عمل يكفي لتخليد اسم أي إنسان.
ولد بين 580 و 572 ق.م. وتوفي بين 500 و 490 ق.م.). هو فيلسوف ومؤسس الحركة الدينية المسماة فيثاغورية.
وتـُحاط ذكراه بالإجلال كرياضي عظيم وصوفي وعالم.