كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

غوته والمعلقات السبع

مروان حبش- فينكس

ورد في كتاب غوته والعالم العربي للمؤلفة كاتارينا مومزن: (تفتقت مع مطلع القرن السادس في شمال الجزيرة العربية قدرات شعرية رفيعة المستوى وبلغت صنعتها الفنية الكمال، فنشأ "فن أدبي مكتمل النضج، وأُبدِع فنٌ شعري ينطوي على ثروة في الأنماط والقوالب تثير الدهشة، ورهافة حس لا يعلى عليها، وتعدُّ المعلقات أقدم مجموعة حفظها الزمن، بالإضافة إلى كونها غاية في النضج الشعري)، وقد تتبعت المؤلفة البصمات العربية على فكر وأشعار غوته.
كان غوته، المولع ولعاً شديداً بأدب الرحلات قد استعار، ولأكثر من مرة ، من مكتبة فايمار، كتاب نيبور (رحلة وصفية لبلاد العرب) المنشور عام 1772 م ، وكذلك كتابه (رحلة صيفية لبلاد العرب وما يحيط بها من بلدان) بجزأيه المنشورين عامي 1774 و 1778 في كوبنهاجن، وحاول أثناء رحلة له إلى إيطاليا الحصول من إحدى المكتبات العامة في روما على جميع مؤلفات نيبور عن بلاد العرب، ولقد اهتم وبحالة من التعجب والانبهار عندما وقعت عيناه على أول الدراسات المستفيضة، والموثقة بالصور والمخططات، عن مدينة البتراء، التي أهداها له البحاثة الدوق ليون دلابورد، وكان يتساءل بحيرة عن الكيفية التي نشأت بها مثل هذه العمارة.
لقد أعجب غوته بقدماء العرب وآدابهم وكان يكنُّ لهم إجلالاً كبيراً، واستوحى في أدبه إلهامات كثيرة من أدبهم، وحوارات خصبة مع شعر المعلقات وقصيدة تأبط شراً.
لقد كان سبب افتتان غوته بالعرب والدافع الذي كان يغريه بالانشغال بهم بعناية وشغف عميقين، هو أن العرب، بالنسبة له، أمة (تبني مجدها على تراث موروث وتتمسك بعادات تعارفت عليها منذ القدم). ومما استحوذ على إعجابه وأثار اهتمامه بهم الفخر بالنفس والاعتداد بالنسب والاعتزاز بطرائق حياة الآباء، كما استأثرت بهواه أصالة قريحتهم الشعرية وتذوقهم للغة وقدرتهم على التصور والتخيل، ولمس باهتمام وإعجاب ما انطوى عليه الشعر العربي من ارتباط بالطبيعة وحماس وحمية وظرف، إلى جانب الحب العارم والبر وكرم الضيافة، والفخر والحماسة، والحلم والحنكة وسداد الرأي والقدرة على صياغة الحكمة بالعبارة الموجزة، وبالنزوع إلى الحرية والفروسية والبسالة.
وتعرف غوته، في وقت مبكر، عندما كان لايزال طالباً في جامعة لايبزج، على المتنبي من خلال الترجمة التي قام بها رايسكة لإحدى قصائده. وكانت لسنوات دراسته في مدينة ستراسبورج أهمية أكبر في إيقاظ اهتمامه بالثقافة العربية وذلك عن طريق لقائه الخصب مع يوهان هردر، هذا الأديب المتحمس الواسع الاطلاع على الأدب العالمي، وهو الذي شدَّ انتباه غوته بشكل أكثر عمقاً صوب الاهتمام بمناح أخرى من العالم العربي، ووجهه لدراسة القرآن الكريم، والشعر العربي الذي هو مرآة لطريقتهم في التفكير وفي الحياة، وهم يتنفسون الحرية والإباء، وتملأ صدورهم روح المغامرة وشرف الطموح، والفروسية والشجاعة. وبحماسة جارفة وضح له هردر بأنه لا يوجد شعب شجع الشعر وارتقى به إلى تلك المنزلة التي ارتقى إليها العرب في عصورهم الزاهية.
كان لدراسة غوته للثقافة العربية نصيب كبير في إدخاله (مصطلح الأدب العالمي) في تاريخ الفكر، بما ينطوي عليه من مبادئ الاحترام المتبادل والتسامح بين الأمم.
لقد كانت "لوعة الحب" كثيراً، مدخلاً لإنتاج شعري متجدد عند غوته، كظاهرة شعراء المعلقات تماماً، وهذا ما يدل على أن فكر غوته الثاقب وروحه الشاعرية جعلته يدرك هذه الخصوصية في المعلقات ويستوعبها.
إن أول من عرف الغرب بالمعلقات هو وليم جونز (1746- 1794)، معاصر غوته. في كتابه (شرح المعلقات السبع) المنشور عام 1774 وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ أعاد آيشهورن، أستاذ اللاهوت والاستشراق في جامعة يينا، طبع هذا الكتاب وأهدى غوته نسخة منه. وفي عام 1783 ظهرت المعلقات بنصها العربي المطبوع بالحروف اللاتينية مع ترجمة انجليزية قام بها وليم جونز. وهذا حفز غوته على ترجمتها إلى اللغة الألمانية.
وكان (هارتمان)، صاحب الترجمة الألمانية للمعلقات_ وهي التي كان غوته يقرؤها أيام انشغاله بتأليف (الديوان الشرقي لكاتب غربي) _كتب في سياق عرضه للطبيعة العامة للمعلقات: "إن النهج الذي تسير عليه هذه القصائد هو أن الشاعر يرى الأطلال التي كانت فيما سبق تزهو بساكنيها، فتضطرم مشاعر الأسى ولواعج الحنين على نأي المحبوبة، فيناجي طيفها ويصف محاسنها ويعدد مناقبها...إلا أنه بالرغم من هذا يظل يحاول كبت مشاعره والتحكم في عواطفه".
انشغل غوته بالمعلقات، ولقد فتنه الوقوف على الأطلال والبكاء على الديار، والتشبب بالنساء، والنسيب الذي سحره سحراً شديداً. وقد سجل في تموز 1823 في (الدفاتر اليومية والسنوية)، "لقد عدتُ إلى المعلقات التي سبق لي أن ترجمت بعضاً منها". كما كان قد استعار في شباط 1815 وحتى مطلع نيسان من مكتبة فايمار ثلاث طبعات للمعلقات، ودون كرؤوس أقلام يستعين بها للتعريف بالمعلقات: (المعلقات قصائد سبع، لسبعة شعراء كبار، قصائد مختارة علقت شيئاً فشيئاً على باب الكعبة من العصر الجاهلي الأول. الشعراء هم: زهير وطرفة وامرؤ القيس وعمرو بن كلثوم والحارث وعنترة ولبيد. وهذه القصائد تزودنا بفكرة وافية عن علو الثقافة التي تميزت بها قريش، وقيمة هذه القصائد تزداد بما فيها من تنوع رفيع سامٍ، ولا نستطيع على نحو أوجز وأقوم مما قاله جونز، الصائب الحكيم، حين قال في وصفها: "معلقة امرؤ القيس رقيقة، بهيجة، لماعة، أنيقة، متنوعة، سارة. وأما معلقة طرفة فجريئة حيَّة، وثابة، ومع ذلك يشيع فيها نوع من البهجة. وقصيدة زهير قاسية، جادة، عفيفة، حافلة بالحكم والأدب والجمل الجليلة. وقصيدة لبيد خفيفة هيمانة، أنيقة، رقيقة، تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة، ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد مناقبه والتفاخر بقبيلته. وقصيدة عنترة تبدو متكبرة، مهددة، حافلة بالتعبير، رائعة، لكنها لا تخلو من جمال في أوصافها وصورها. وعمرو بن كلثوم عنيف، سامٍ، ماجد. والحارث بن حلزة، مليء بالحكمة، والفطنة، والكرامة"). وفي ختام هذا التقييم للمعلقات، يعرب غوته في كتابه (التعليقات والأبحاث) عن أمله في أن يكون بهذه "العبارات" قد أثار لدى "قرائه" قراءة أو إعادة قراءة هذه القصائد. وكان يرى في المعلقات شواهد على "الثقافة العالية" وليس مجرد "شعر فطري". وكان يبدي تقديره الكبير للبناء الفني لها، كما تحسس فيها جسارة اللغة الشعرية وسموها، وتلاحق الصور وما تنطوي عليه من تجسيم موضوعي كعناصر جمالية متميزة وإبداعات فنية أصيلة.
لقد تأثر غوته بالمعلقات، وفي السادس عشر من أيار 1815 حرر رسالة كان ينوي إرسالها إلى ناشر مؤلفاته تدل دلالة واضحة على أن المعلقات كانت قد تركت بصماتها على قصائد له تنحو منحى شرقياً من حيث المعنى والأسلوب، وكان يكن "إجلالا... لمعلقات الصحراء التي شاخ عليها الزمن" وبعض قصائده مستوحاة منها، كقصيدة "دعوني أبكي، محاطاً بالليل" الواردة في مجموعته الشعرية (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، التي يتصور الشاعر نفسه كما لو كان في قافلة جمال في الصحراء. والبكاء على المحبوبة، مقارنة بقصيدة امرؤ القيس "قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل..." وخاصة صدر البيت "إن شفائي عبرة مهراقة". كما أنه في هذه القصيدة يتأثر أيضاً بمعلقة طرفة وبتطابق بعض مفرداتها "، ويقول جوته: وأنا أستعيد في خيالي المنعرجات البغيضة التي تطيل الطريق"، كما اشتكت قصيدة لبيد أيضاً من بعد الطريق وكثرة المنعرجات (بمشارق الجبلين أو بمُحجِّر....). وأيضاً فإن ختام القصيدة بـ " دعوني أبكي، فإن الدموع تحيي التراب، وها هو ذا يخضوضر" يتطابق مع ما ورد في بعض المعلقات من هطول المطر، وبعده تنبت خضرة يانعة... وتغدو المروج بالعشب ناظرة. وفي مطلع قصيدة أخرى له، وفي سياق الحديث عن الدموع وذرفها لنأي المحبوبة، يتطابق مع ما ورد بمعلقة الحارث بن حلزة: (لا أرى من عهدت فيها فأبكي..... اليوم دلها وما يحير البكاء). كما أن هناك قصيدتان متأثرتان بالمعلقات بشكل تفصيلي، وهما قصيدة "هجرة" التي كتبها بنطقها العربي ورسمها الفرنسي، ويفضل فيها (الارتحال مع القافلة في جمع من الحداة إلى عالم الصحراء). وقصيدة "أنّى لك هذا؟ وكيف أمكن أن يأتيك؟ أو القافلة". وبها يرد على أسئلة وُجهتْ إليه عن الينبوع الذي تنهل منه شاعريته المتجددة في سنه المتقدمة، إذ يقول: (إن هذا الشعر هو تجديد أسبغته عليَّ رحلة قمت بها إلى عالم البدو العرب). وفي البيتين الخامس عشر والسادس عشر من القصيدة، يقول: (وأنا أنعم برعاية حداة رزينين، يسرون بالضيف وبالقليل من قوتهم يقرون). وفي البيتين الثالث والعشرين والرابع والعشرين يقول: (ويملأ الحداة، بالفخر والخيلاء). لقد عاد غوته إلى المعلقات عند نظمه قصيدة القافلة، وأهاب بعالم شعرائها، وجذبته بوجه خاص خصلة التحدي ومقارعة الخصوم، وكذلك "الخيلاء والفخر" اللذين اتصف بهما العرب القدماء. ولقد شملت المقارعة والتحدي كل مناحي حياة غوته.
ألحق غوته بالديوان الشرقي هذين البيتين: "وتُفزع أعمدة خيامنا ... الظبية فتولي هاربة" وهما دليل أكيد على تأثره بالمعلقات بما في أشعارها من الحياة في البادية وفي الخيام، وهو الألماني الذي لم يعرف البادية ولا الظبية التي أفزعتها خيام القوم فآثرت الهروب. وفي مجموعته الشعرية (نفحات مدجنة) بما فيها من روح متحدية مستنفرة، وما اشتمل القسم الأول منها على حكم وهو في سن الشيخوخة، وهو ما ورد في معلقة زهير بن أبي سلمى إذ يقول: (وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده.......وإن الفتى بعد السفاهة يحلم). ويقول غوته: (إذا كان الفتى أحمق سفيهاً، عانى من ذلك أشد العناء، أما الشيخ فلا ينبغي له أن يكون سفيهاً، أن الحياة عنده أقصر من ذلك).
لقد أشاد غوته بالشعر الجاهلي في أبحاثه وتعليقاته، وتحدث عن قصيدة تأبط شراً بالانتقام، المفعمة بروح الأخذ بالثأر، وذلك لشعوره لوجود أواصر قربى، من حيث "الفكرة والروح" تربطها بالمعلقات، ويقول: (إن هدفي الرئيسي من تقديم هذه القصيدة أن تكون نموذجاً معبراً يوقظ لدى أبناء بلدي الاحترام والتقدير للحياة العربية في عصورها الأولى). ولقد تركت هذه القصيدة أثراً عظيماً في غوته فترجمها وعلق عليها ونشرها في فصل "العرب" في كتابه "التعليقات والأبحاث" وفي هذا الفصل خلَّد شغفه بطبيعة الحياة البدوية وبالأشكال الشعرية الأصيلة المعبرة عنها، وبالشعر الغنائي البدوي وتحبيب القراء القراءة فيه.
وبعد ثلاثة عقود من التقاء غوته بالشعر الجاهلي أخذ يشيد بالمعلقات واصفاً إياها بأنها (كنوز رائعة)، وكان يحاول تعلم العربية نطقاً وكتابة، واعترف في حديث له مع أحد أقاربه في عام 1815 حيث قال: (لا ينقصني إلا القليل حتى أبدأ في تعلم العربية أيضاً، إني أود أن أتعلم أبجديتها على الأقل بحيث أتمكن من تقليد التمائم والطلاسم والأختام بشكلها الأصلي). ويدعي في (التعليقات والأبحاث التي تعين على فهم الديوان الشرقي) ادعاءً مفاده أن (كل من يتكلمون العربية واللغات الوطيدة الصلة بها يولدون شعراء وينشؤون كذلك).
ولا بدَّ من الذكر أيضاً، بأنه كان لحكايات ألف ليلة وليلة التأثير البالغ القوة في غوته، وكان طيلة حياته شديد الشغف بأحاديث شهر زاد، ولقد استدعاها في الكثير من أشعاره وعبر على لسانها عن بواعث معينة، وألبسها أدواراً وأفعالاً مختلفة. ونهج، باعترافه، نهج شهر زاد في بناء روايته (سنوات تجوال فلهلم مايستر) كما أكَّد بأنه استلهم وفي العديد من الحالات، مادة وموضوعات ملموسة من هذا السفر العربي، ويلمح بصورة جلية إلى حكايات علاء الدين والمصباح السحري، وحلاق بغداد، وأبو الحسن وشمس النهار.....، كما تركت آثارها في القسم الثاني من (فاوست).