كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الكواكبي وطبائع الاستبداد

مروان حبش- فينكس:

وُلد عبد الرحمن الكواكبي في حلب عام 1854م، وتوفي في القاهرة عام 1902م، متأثراً بسم دُس له في فنجان القهوة ودفن فيها، ونُقش على قبره بيتان من الشعر للشاعر الكبير حافظ إبراهيم:
هذا رجل الدنيا هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا واقرأوا "أم الكتاب" وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، قول حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد. وقد خطَّ الكواكبي كتابه هذا في عهد حاكم ظالم مستبد، وكانت ثورته منصبة على كامل أجهزة دولة بني عثمان وأنظمتها، وبالوقت ذاته كانت هذه الثورة موجهة إلى الاستعمار الغربي فاضحة نواياه وأفعاله، وإن كان حال اليوم غير حال الأمس، فإن ثمة واقعاً يبقى هو: (إنه الاستبداد السياسي، الذي يظل يرافق الحكم، بكل شره، وهو سبب الانحطاط على كل الأصعدة، وفي كل مناحي الحياة).
يُعَرِّف الكواكبي الاستبداد بأنه: (أعظم بلاء، إذ يتصرف فردٍ أو جمعٍ في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة)، وهو استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم، والسلطة العامة. ولو كان الاستبداد رجلاً لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُرّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال. ويصير كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت). والمستبد الذي يستولي على الحكم بالغلبة، هو طاغية، وحاكم مطلق. معزول عن الشعب، وفاسد. وقصره في كل زمان هو هيكل الخوف عينه، وهو إنكار للمساواة، والحس المشترك، والتكافؤ، يرى الشعب رعية، والوطن مزرعة، بتصرف بهما كما يشاء، بلا خشية حساب أو عقاب.
والمستبد عدو الحق ومستعد بالطبع للشر، يتجاوز الحد بعد أن يتمكن، فيعمل على تسييد الجهالة على العلم، والنفس على العقل، وتعميم الشقاء واستخدام الشراسة لفرض الطاعة العمياء والإذلال على الشعب (الرعية)، وإرهاقه بضرائب لا تطاق، ويضع كعب حذائه على الأفواه يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.
والمستبد يبني استبداده، بمؤازرة بعض رجال الدين، على إرهاب الناس من غضب الله، ويسترهب الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي، وبهما يتفاخر. حتى يلتبس الفرق بين الإله المعبود وبين المستبد المطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق الأذهان من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، والرفعة عن السؤال وعدم المحاسبة على الأفعال، حتى يسهل على بعض المستبدين ادعاء الألوهية.
يؤكد الكواكبي أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة، حيث يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها لأنه يكره العلم ونتائجه، ولا يحب وجه عالم عاقل، ويأخذ من مقولة ابن خلدون: (فاز المتملقون) قاعدة له. ويؤثر في أخلاق الناس إلفة الرياء والنفاق والكذب والتحايل والخداع. ويغالب المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجد ويستقوي بالمتمجدين. وإن أكابر رجال الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمة، وحريصون على أن يبقى الاستبداد مطلقاً لتبقى أيديهم مطلقة في الأموال.
إن المستبد في لحظة جلوسه على عرشه يرى نفسه صار إلهاً. ويحضرني قول لأحد السياسيين الفرنسيين وهو يشهد حفل تنصيب روبسبير: (لايكفه أن يكون نبياً، بل يريد أن يصبح إلهاً أيضاً).