كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بين السبكي والشعلان.. قمر على حجر

تمّام بركات- فينكس:

في "السبكي" يهبط عليك الجمال مرة واحدة، دفعة واحدة، تشعر بثقله، كما لو أن غطاء سميكاً من الحرير، راحت تتالى طياته الحريرية عليك، تُغرقك بذاك الملمس الفريد، لثقل الحرير وخفته، فتخاله يغمرك.
بين السبكي والشعلان، يندلع ضوع "الغوى" بغتة، بـ"سهار بعد سهار"، ثم فجأة يتلاشى، كأنه لم يكن، لولا العطر الباقي إلى الأبد، في الأغنية وفي الزمان كله والمكان.
بين الجاحظ والسبكي، مروراً بشارع السفارات، أبو رمانة، ثم نزولاً نحو عرنوس، يوقفك القهر مرات عديدة، يعرض عليك بؤسكما، كأنما تنظر في مرآة.
تارة بكيس محارم صغير، صمم ليصبح محط تعاطف مؤثر في الصورة العامة للحالة.
وتارة تطالعك الطفولة بجديلة، نجحت إلى الصف الثالث، تُوقف الزمان بوردة جوري قرمزية، ترفعها بلطف كمن يٌهديها، للحظات لا تعرف ماذا تفعل، فالمشهد مربك.
كل هذا الجمال البائس، يركض أمامك مترنحا، على الحافة الرخامية، التي تزين دخول بردى بالمالكي.
بين السبكي والشعلان، وخلف نافذة، خلعت زجاجها، يجلس على طريقة "بنت كفرحالا" أبو حميد، كما يناديه الجميع، دون أن يكون هذا اسمه، لكنه اعتاده حتى نسي اسمه، في واحد من أكثر مطاعم الفلافل الشعبية، في المنطقة، وقد بقي صامداً أمام غزو جحافل رواد فلافل "الكيف" بالمايونيز!
في كل مرة أراه فيها، أشعر أنني أرى مشهداً سينمائياً، أنا منخرط فيه وخارجه، أراه من وجهة نظر "مراقب داخلي", ومن وجهة المراقب الواقف على الرصيف، ينتظر لفافته، ويراه إنسانا مكافحا حقاً.
طواف قطط ما بعد منتصف الليل، أطوف بين السبكي والشعلان.
من المالكي، مرورا بأبو رمانة، موقف نورا، حديقة المدفع، حتى الطلياني، على الرصيف المرتفع عن حافة الطريق، حيث يوجد "بوتيك"، بائس، يعرض بطريقة تراجيدية، لثوب بلون أبيض مٌغبر، صُلب على زجاج الواجهة، وكأنه طائر بجع يابس، ارتطم بزجاج واجهة البوتيك الدهري، بوتيك الزاوية، الشهير بثوب الواجهة، المعلق كبجعة يابسة على زجاج واجهة حيادي بطريقة مستفزة.
تشارف الجولة "الوطواطية" على نهايتها، والحياة التي تمور في مقاهي ومطاعم وأرصفة الشعلان و"أبو رمانة" تشبه الأحلام بالنسبة للحياة التي تدور على مقربة منها، في البرامكة مثلا، حيث يتناهب الناس ما تبقى من الهواء، يعبئون رئاتهم بشهيق طويل، قبل الجري المجنون للفوز بمقعد في سرفيس!
وحين أعود إلى البيت دونما وردة، اتخيل محمود درويش وهو يعود أيضا إلى البيت وحيدا، فارغا إلا من الوحدة، ثم أغزل بخار قهوتي المتململة، فوق النار، وفي قبضتي، كمشة عطر، باقية وعلى ثيابي، بعد أن اندلع الجمال وتلاشى، كأن لم يكن، بين السبكي والشعلان.