كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

في حضرة صاحبة الجلالة الملكة زنوبيا- ج2

مروان حبش- فينكس:

جلس أورليان، يحتفل بانتصاره، على كرسي وضع فوق منصة ترابية تواجه بوابة تدمر الشرقية، هذا الانتصار الذي تم بهدوء، بعد حصار للمدينة دام ستة أشهر، واستسلمت المدينة من غير جلبة عندما شاهد التدمريون ملكتهم أسيرة بين يديه، واتجه أعضاء مجلس شيوخ تدمر يترأسهم الشيخ "ورد" الذي وضع مفاتيح المدينة على أرض المنصة أمام الامبراطور أورليان.
وتقدمت زنوبيا في طريق الاستعراض وهي تمشي مختالة بأنفة وكبرياء، بخطوات متكبرة أبية، وبوجه ينضح بالازدراء والاستخفاف.
ألقى أورليان نظرة على زنوبيا، من مجلسه فوق المنصة، وبعد انتهاء الاستعراض قال موجهاً كلامه إليها: هل أنت زنوبيا المعروفة بالزباء، أرملة أذينة؟
- أحنت زنوبيا رأسها بالموافقة.
- أنت متهمة بالعصيان ضد روما، هل تعترفين بذلك؟
- بقيت زنوبيا جامدة صامتة، ورافعة الرأس.
- بإمكانك الدفاع عن نفسك.
- لم تخرج زنوبيا عن صمتها وجمودها.
- استمعي إذن إلى الحكم
كانت عينا زنوبيا تطلقان نظرات التحدي، وأخذ يتلو عليها الحكم:
- لقد خنت يا زنوبيا الأمانة، وتحديت سلطة روما، وتسببت بموت العديد من الجنود الرومانيين، وبدمار شعبك، هذه الجرائم يعاقب عليها بالإعدام، فهل لديك ما تقولين قبل أن أحيل القرار للتنفيذ؟
قررت زنوبيا الكلام، قائلة: ما فائدة الكلام وأية فائدة ترجى من محاكمة الخصم فيها هو الحكم؟ وإنني عدلت عن الصمت لأكشف الحقائق.. لأتكلم للتاريخ...للأجيال القادمة، فمن واجبي الدفاع عن شعبي، ومملكتي. وأسألك أين العصيان؟ أو لم تطلب روما مني أن أقوم بحماية حدودها الشرقية، وأطلقت عليَّ، من يومها، لقب ملكة تدمر حامية الحدود الشرقية؟ لقد وحدت أجزاء بلادي تحت راية واحدة، ومقاطعات الشمال، التي طلبتم مني حمايتها من الفرس هي امتداد طبيعي للشام. أما مصر، التي قضيت على الفتنة وحركات التمرد والشغب والفوضى فيها، هي الأخرى امتداد لبلاد الشام التي قمت بتوحيدها. وتابعتْ بصوت مرتفع مخاطبة الجماهير: أيها الناس اعلموا، ولتعلم معكم شعوب الأرض ... تدمر لم تعلن الحرب، تدمر عرضت على امبراطور روما سلاماً دائماً في عدة مناسبات، فلم يقبل بغير الحرب بديلاً، والحرب ضد من؟ ضد حليفة روما، ضد حامية حدودها.... هل تعتقد يا امبراطور أنك انتصرت في هذه الحرب؟ تدمر لم تُهزم، كان فوزك نتيجة خيانة حقيرة ما زلت أجهل من قام بها.
خاطب أورليان جنوده الذين يطالبون بإعدام زنوبيا، بعد أن هدَّأ من غضبهم بتوزيع الذهب عليهم: إن ما قالته زنوبيا في دفاعها كان صحيحاً. فإخلاصها في حياة زوجها، كان فوق الشبهات، وكان زوجها بطلاً مقداماً، وزعيماً صالحاً، قدم للإمبراطورية خدمات لا تقدر بثمن.
فرض الامبراطور على زنوبيا وولديها وهب اللات وجوليا، الإقامة الجبرية.
تمكن الامبراطور أورليان في النهاية من التغلب على زنوبيا، وقادها بانتصار إلى روما،
وأقيمت في روما، بعد شهر من هذا الانتصار احتفالات النصر، وبدت روما، والتلال المحيطة بها، وكأنها مدرج هائل الحجم، غير مسقوف، غطَّته الجماهير بأجسادها، ومرت الملكة الأسيرة زنوبيا في عربة مكشوفة، ومصنوعة من خشب عادي غير مزخرف، يجرها حصانها الأصيل الأبيض، ووقف على جانبي الملكة جاريتان طويلتان، وكانت هي في كل جلالها، وكملكة بكل زينتها، والتف حول رسغيها وثاق من الذهب. وبقيت زنوبيا رزينة ورصينة في جلستها، لا تأبه للضجيج، وإنما تنظر إلى جماهير المشاهدين وكأنها هي التي تستعرض هذه الحشود الكبيرة.
وقف بعض أعضاء مجاس الشيوخ الروماني ينتقدون أورليان وينتقصون من أهمية انتصاره على امرأة، فكتب رسالة إلى المجلس جاء فيها: (يلومونني لأني تباهيت بالنصر على امرأة، إنهم ما كانوا يتفوهون مثل ذلك لو أنهم عرفوا أية امرأة هي زنوبيا، ولو كانوا يعملون أناتها في المجالس، وثباتها على القرارات، وحزمها على الجنود، وتسامحها عند الضرورة، إن أذينة مدين لزنوبيا بنصره على الفرس وفرار سابور الأول من أمامه ووصوله حتى طيسفون).
في حديث في صباح ربيعي كان الجنرال بروبس، الامبراطور الجديد بعد مقتل أورليان، وعشيقته فيلو مينة متكئين جنباً إلى جنب على جدار شرفة من سطيحة رخامية تطل على روما، وما لبثت فيلو مينة أ نْ قطعت حبل الصمت قائلة:
كانت زنوبيا هي المستفيدة من كل ما جرى، فكلما زرتها ازددت إعجاباً ودهشة، هل تعلم أنهم يطلقون عليها الأن اسم "ملكة روما؟" وهي أكثر مضيافات العاصمة شعبية، فكل ما تلبسه يصبح زياً متبعاً، ومن العسير عليك أن تجد رجلاً واحداً من سادة روما لا يهتم بها، أو لا يزورها في دارها الأنيقة ليستشيرها بشأن أعماله ومشاكله الخاصة، وهي تقيم مجلس استقبال أسبوعي، كما لو كانت لا تزال تحكم في تدمر، إنها براعة المرأة المتجسدة في زنوبيا.
إن شخصية زنوبيا كامرأة عظيمة، قد أسهمت إلى حد بعيد في عملية الاقتران بينها وبين مدينتها، ولكأن تاريخ تدمر هو تاريخها. وارتبط حلمها الكبير الذي تلاشى بسرعة مبكرة باسم تدمر "فينيسيا الصحراء".
لم تنسى زنوبيا عرشها الضائع، ولم تنسى تدمر، عاصمة ملكها، وعروس الصحراء، التي اضطرب فيها الأمن بعدما غادرتها بفترة وجيزة، ونشأ فيها شغب أُثير بطريقة غامضة، لكنه كان كافياً لكي يتغاضى أورليان عن اجتياح جنود كتائبه للمدينة. فأصبحت تدمر الوادعة العظيمة كما رغبت روما أن تكون تدمر كرقعة من أرض محروقة منبسطة في قلب الصحراء، وعدداً من الأعمدة المهشمة والجدران المثلمة، وعشرة آلاف هيكل عظمي نظفتها النسور من اللحم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- فيلومنة: رقيقة يونانية أعتقتها الملكة زنوبيا وأرسلتها إلى روما للتجسس على الجنرالات وأعضاء مجلس الشيوخ.
- بروتس: الجنرال الذي أرسله أورليان لإ.عادة مصر إلى حظيرة روما، بعد أن حررتها الملكة زنوبيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1ـ قصة الحضارةـ ديورانت
2ـ رواية "ملكة الشرق" الكسندر بارون، ولقد أورد في نهاية الرواية: (توجد الحقائق التاريخية التي بنيت عليها هذه الرواية، بإيجاز واختصار، في الفصل الحادي عشر من تاريخ جيبون " أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية".