كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أسبازيا الإغريقية التي غيرت من دور المرأة الأثينة

مروان حبش- فينكس

بريكليس 490- 429 ق.م، زعيم الحزب الديمقراطي وحاكم أثينا وباعث نهضتها لحوالي 30 عاماً، كان نصيراً قوياً للنزعة العقلية في الفلسفة، ولتحرير المرأة. وإن كانت متاعب المنصب قد قوت، بلا ريب، رهافة الحس عند هذا الأولمبي الصارم، وحنينه الشديد إلى مفاتن النساء ورقة الأنوثة، فولَّى وجهه نحو أسبازيا التي كان يهيم بها، وشديد الحب والإخلاص لها، وجاء بها إلى بيته، زوجة غير شرعية (1)، وبذلك كان يوفق بين رغبته في الجمال وفي الفلسفة معاً.
أسبازيا 470-400 قبل الميلاد، امرأة يونانية بارزة من ميليتوس(1)، ُعرِفت بجمالها وذكائها، وكما يصفها الكتاب القدامى (قدمها صغيرة مقوسة إلى أعلى، وصوتها فضي، وشعرها ذهبي).
كانت من ذلك الطراز الذي تحاول خلقه في بلاد اليونان، طراز المرأة التي أصبح لها بعد قليل شأن كبير في الحياة الأثينية.
كانت أسبازيا امرأة تأبى العزلة التي يفرضه الزواج على النساء في أثينا، وكانت تفضل أن تعيش معيشة الاختلاط الجنسي المطلق إلى حدٍ ما إذا كان يُمَكِّنها أن تستمتع بحرية الحركة وبالحرية الخلقية اللتين يستمتع بهما الرجال، وأن تشترك معهم في الأعمال الثقافية.
لما وصات أسبازيا إلى أثينا في عام 450 ق.م افتتحت فيها مدرسة لتعليم البلاغة والفلسفة، وأخذت تشجع بجرأة عظيمة خروج النساء من عزلتهن واختلاطهن بالرجال، وتربيتهن تربية عالية، والتحقت بمدرستها كثيرات من فتيات الطبقات العليا، وأرسل كثير من الأزواج زوجاتهم ليدرسن معها، وكان الرجال أيضاً يستمعون إلى محاضراتها، ومن بينهم بريكليس وسقراط، وأكبر الظن أن الفيلسوف أنكساغوراس نفسه والنحات فيدياس كانا يستمعان إليها، ويقول سقراط إنه تعلم منها فن البلاغة، وكان يُعجب بفصاحتها ويُدهش منها. وتحتل أسبازيا مكانة مهمة في فلسفة زينون وسقراط وغيرهما. ووفقاً لبعض رجال الفكر فإن أفلاطون تأثر بذكائها ورجاحة عقلها وندواتها في الأدب الحديث.
بعد أن انتقلت أسبازيا لتعيش في بيت بركليس جعلت من البيت ندوة تناقش فيها الفنون، والعلوم، والآداب، والفلسفة، وشؤون الحكم والسياسة في أثينا، وما لبثت أن أصبحت ملكة أثينا غير المتوجة، تشيع فيها آخر أنماط الحياة الاجتماعية، وعنها تأخذ نساء المدينة مُثلَ الحرية العقلية والأخلاقية التي يتطلعن إليها والتي تثير حماستهن.
وهذا ما أثار مشاعر المحافظين (الألجركيين) ووجهوا لها تهمة دينية بأنها لا تخضع لأوامر الدين، وأنها جهرت بعدم تعظيمها ألهة اليونان، وقد تم تبرأتها من هذه التهم، وهجاها الشعراء المحافظون هجاءً قاسياً ووصفوها بأنها "ديانيزا" التي أهلكت بريكليس، وأطلفوا عليها بلغة يونانية صريحة اسم "العاهر" وأنها تعمل لكسب المال من طريق غير شريف، وكان الكاتب المسرحي المحافظ وعديم المصداقية بالمطلق"أرستفنيز" من (الحزب الألجركي)، وهو العدو السياسي لبريكليس، لا يترك فرصة لمهاجمته والنيل من سمعته، ولا يؤنبه ضميره بتوجيه أية تهمة له، يصف أسبازيا بأنها عاهرة من ميليتس، أنشأت بيتاً فخماً للدعارة في "ميغارا"، ثم جاءت في ذلك الوقت ببعض فتياتها إلى أثينا، ويشير من طرف خفي إلى أن النزاع الذي قام بين أثينا وميغارا والذي عجل إشعال حرب البلوبونيز كان سببه أن أسبازيا أقنعت بريكليس بأن يثأر لها من الميغاريين الذين اختظفوا بعض فتياتها.
المؤرخ "بلوتارخيس"(4) فقد عرَّفها على أنها شخصية مهمة من الناحية الفكرية والسياسية، وتأتي في مقدمة المفكرين والسياسيين والمشهورين الأثينيين، وقد مدحها مطولاً أمام معجبيه.
وورد في موسوعة الإمبراطورية البيزنطية في القرن العاشر: إن أسبازيا كانت تمتلك مهارة كبيرة في استخدام الكلمات، وتعلمت الخطابة والسفسطائية.
وفي تقييمها من الناحية المهنية والفنية، يقول العديد من الباحثين أمثال البروفيسور "شيريل غلين" من جامعة بنسلفانيا: إن أسبازيا كانت المرأة الوحيدة التي استطاعت الخروج من المجتمع اليوناني القديم للدفاع عن حقوق المرأة، ويعتقد أنها أثرت في بريكليس بخطبها
ويقول الكاتب الأمريكي"لوسيان" إن أسبازيا مثال للفضيلة، ومدح معلوماتها السياسية، وبراعتها، وأضاف بأنه لا يمكن أن نختار واحدة من ميليتوس حصلت على إعجاب الأولميبيين أكثر من أسبازيا، ومن الحقائق أنها كانت عالمة بالسياسة، وتتنبأ بالأحداث، وبارعة.
وفي متن باللغة السريانية: أن من يريد أن يعمل في المحكمة عليه التعلم من بلاغة أسبازيا، والاستفادة من خطبها.
ويؤكد المؤرخ البروفيسور "روبرت والاس" من جامعة نورث وسترن: بأ ن أسبازيا تعلمت كيف تتكلم مع بريكليس مجرد مزحة، لأنها كانت بارعة في الخطابة والفكر، وإنها تمثل دوراً مهماً في الفكر الأفلاطوني، ولهذا فإن (الملكة) أسبازيا تعرف بأنها الجميلة والرائعة والحرة صاحبة الأثر الواضح والذكاء الشديد، تستطيع أن تتحدث مع أعظم السادة اليونانيين، وأن تتناقش مع زوجها في أي موضوع أو معضلة. ويقول بروفيسور علم الإنسان الثقافي في جامعة "كنت" والخبير في التاريخ الكلاسيكي "روجر جست" إن أسبازيا شخصية نادرة، وحتى لا يوجد مثلها في الوجود، وظهرت كأنها تشبه الرجل في تفكيره الاجتماعي. وعن علاقتها ببريكليس يقول المؤرخ وليام سميث: لم يختلف على أنها علاقة أمير متزوج بأميرة.
وخلاصة القول فإن أسبازيا كانت تمتلك موهبة رائعة في الحديث تأخذ عقول أصحاب الفكر والمتعلمبن، وكانت المصدر الرئيسي للإلهام للعديد من النساء أمثال الشاعرة "صافو"(5) وغيرها، وهي من النساء الحرائر التي خلقت مثالاً واضحاً ومختلفاً للشخصية القيادية النسائية في المجتمع الأثيني. وأعطت سيرتها، وخاصة علاقتها العاطفية مع بريكليس، الإلهام للعديد من الروائيين والشعراء المشهورين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان القانون الذي سنه في عام 451 ق.م بتحريم عقد زواج بين الأثينيين والأجانب، لا يبيح له أن يتخذها زوجة شرعية لأنها ليست من مواليد أثينا. وأوصى بكل ثروته لولده من أسبازيا.
(2) ميليتوس مدينة قديمة في آسيا الصغرى، وهي الآن تدعى بالاتا، على الشاطئ الجنوبي من الخليج اللاتمي، على مصب نهر ماياندر.
(3) ديانيزا: هي زوجة هرقل الجبار، التي تسببت في موته بأن قدمت له ثوباً مسموماً.
(4) بلوتارخيس: فيلسوف ومؤرخ عاش بين 45-125 م.
(5) صافو: شاعرة إغريقية قبل الميلاد. وخلد اسمها بوضع صورتها على الآنية والنقود.