كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

روسو.. الفتى الشريد وجوّاب الآفاق 1-4

مروان حبش- فينكس

1712- 1778
الفتى الشريد وجواب الآفاق
حلقة 1 من 4
ولد فقيراً، وفقد أمه عند مولده، ثم هجره أبوه بعد مدة قصيرة من ولادته، وابتلي بمرض أليم، وتُرك يضرب في الآفاق إثني عشر عاماً بين مدن غربية ومذاهب دينية متناحرة، مرفوضاً من المجتمع والحضارة، ثم طورد من مكان إلى آخر باعتباره ثائراً خطراً، واتهم بالإجرام والجنون، وبعد موته انتصر على فولتير، وأحيا الدين، وقلب التعليم رأساً على عقب، ورفع أخلاقيات الشعب الفرنسي، وألهم قادة الثورة الفرنسية، وأثر في فلسفة كانط وشوبنهاور، وفي تمثيليات شيلر، وروايات غوته، وشعر شيللي وبيرون، وفي اشتراكية ماركس، وأخلاق تولستوي، وأتيح له من التأثير على الأجيال التالية من ذلك القرن الثامن عشر الذي فاق فيه تأثير الكتاب في أي عهد سبقه.
بدأت مسيرة روسو، الذي كان يختبئ في ظلام حجرة من حجرات باريس، المُزدرى والمُوبخ والمُدان من الكنيسة والمحروم من ثلاث دول من حماية القانون له، ويتآمر عليه ديدرو لتشويه سمعته في الصالونات، في مرحلة كانت أوربا مهيأة فيها لأفكار جديدة، وكان له الحق في أن يدافع عن نفسه، وحين قرأ فقرات من دفاعه على بعض المحافل في باريس حصل خصومه على أمر من الحكومة يحظر عليه أي قراءة أخرى من مخطوطته (الاعترافات)، فلما فتَّ في عضده تركها عند موته مشفوعة برجاء للأجيال القادمة:(وأياً كانت الساعة التي سينفخ فيها في صور يوم الحشر، فسوف آتي وكتابي في يميني لأمثل أمام الديان الأعظم، وسوف أقول بصوت عالٍ: كذلك سلكت، وكذلك فكرت، وكذلك كنت ...، وقد أظهرت نفسي كما أنا، حقيراً خسيساً حين كنت كذلك، وخيِّراً سمحاً نبيلاً حين كنت وكذلك كنت...، وقد أمطت اللثام عن أعمق أعماق نفسي.....).
ولد في جنيف عام 1712 من أسرة فرنسية الأصل، كالفينية المذهب، (جئت إلى العالم أحمل أمارات قليلة جداً على الحياة، بحيث لم يكن هناك كبير أمل في الإبقاء عليَّ) كفلته خالة له، وكان طفلاً عبقرياً، نشأ على مزيج من القصص الغرامية الفرنسية، وتراجم بلوتارخ، والفضائل الكالفينية، وجعله هذا المزيج قلقاً مهزوزاً.
التحق وهو في الحادية عشرة من عمره بمدرسة داخلية في قرية بوسيه القريبة، (وهنا كان علينا أن نتعلم اللاتينية وكل اللغو التافه الذي أطلق عليه اسم التعليم)، ووقع في حب معلمته أخت القسيس، وكانت في الثلاثين من العمر، وكان إذا ساطته عقاباً، أبهجه أن يتعذب على يديها، ولذا فإن "المازوشية" لازمت تكوينه العشقي إلى النهاية.
ترك المدرسة في عام 1724 وهو في عمر الثانية عشرة، والتحق صبياً لحفار في جنيف، كان يضربه بقسوة أدت به إلى طفل منطوٍ على نفسه مكتئب كاره للاختلاط بالناس، ووجد السلوى في الإدمان على قراءة الكتب التي كان يستعيرها من مكتبة قريبة، وأيضاً، في الرحلات الريفية، وحملته ذكرى عقوبات الضرب، إلى الرحيل إلى مدينة كونفيون في سافوا الكاثوليكية، وهو لم يبلغ السادسة عشرة من العمر، من غير نقود ولا ثياب سوى ما يحمله على ظهره، وهناك طرق باب القسيس الكاثوليكي الذي قدم له طعاماً طيباً، وأرشده الذهاب إلى مدام فرنسواـ لويز دي لاتور، ابنة التاسعة والعشرين من العمر، في مدينة آنسي، حيث باع عقيدته مقابل شطر من راتب، ونفحته بعض المال، وأمرته أن يذهب إلى مدينة تورين ليتلقى التعليم في "نزل الروح المقدس"، وعُمِّد في المذهب الكاثوليكي الروماني، وبعد أكثر من شهرين تمَّ قبوله في كنيسة روما.
في مطلع صيف 1729، وقد بلغ السابعة عشرة من العمر، وبعد أن عمل بوظيفة ارتدى فيها زي الخادم، عاوده الحنين إلى الترحال، ورجع إلى "آنسي" حيث خصصت له مدام "دفاران" غرفة في بيتها، واستخدمته في كتابة رسائلها، وإمساك حساباتها، وجمع الأعشاب لها، ومعاونتها في تجاربها الكيميائية، وزودته بكتب ليقرأها ومنها مؤلفات لفولتير، وفي خريف هذا العام دخل مدرسة سان ـ لازار اللاهوتية ليحضر للقسوسة بعد أن شغف بالكاثوليكية، ولكن بعد خمسة أشهر رده معلموه إلى "مدام دفاران" مع تقرير يقول: (إنه غلام لابأس بتقواه، ولكنه لا يصلح أن يكون كاهناً).
حاولت مدام دفاران مساعدته من جديد، فقدمته إلى عازف الأرغن في كاتدرائية "آنسي"، وعمل معه شتاء 1729ـ 1730، وكان يرتل مع جوقة الترتيل، ويعزف على الفلوت.
رحلت "مدام دفاران" إلى باريس، وأحس روسو بأنه وحيد مهجور، فراح يمضي اليوم تلو اليوم هائماً في الريف، ثم عاد يجوب الأرض من جديد، وحطَّ به الرحال في "ليون" حيث أنفق أياماً من غير مأوى، يفترش المقاعد في الحدائق العامة، حتى سمع أن راعيته تقيم في مدينة "سابيري" فانطلق لينضم إليها من جديد، ووجدت له وظيفة سكرتير عند ملاحظ الإقليم، ثم اتخذت منه مديراً لأعمالها، مع تدريسه الموسيقى لتحصيل بعض المال، وآلت إليه ثلاثة آلاف فرنك استحقت له من ميراث أمه.
حوالي عام 1738، وبعد أن أقبل على دراسة الفلسفة، اكتسب وعياً، ولأول مرة، بنسائم "التنوير" القادمة من باريس، وواظب على قراءة أعمال الكثيرين من الأدباء والفلاسفة (وأوحت إليَّ كتابات فولتير بالرغبة في أن أتأنق في الكتابة)، وآمن بوحدة الوجود (هناك إله يُفهم، ولكنه ليس ذلك الإله الخارجي المنتقم ... إنما هو روح الطبيعة، والطبيعة في صميمها جميلة، والطبيعة البشرية في أساسها خيِّرة)، وعلى هذا الإيمان سيقيم روسو فلسفته.
في 1740 عمل روسو معلماً لولَدَي رئيس بلدية ليون، وكانت وظيفته هذه، مع احتكاكه بأشقاء رئيس البلدية وآخرين، حافزاً فكرياً جديداً له، فتشرب قدراً كبيراً من التنوير، وتعلم أن يهزأ بالجهل والخرافة الشائعين بين الجماهير.
وكما أنه لم يخلق ليكون عاشقاً ناجحاً فهو أيضاً لم يستطع أن يكون معلماً كفئاً، لذلك استقال من وظيفته وعاد إلى مدينة "شاميري" وأغرق نفسه في قراءة الكتب والموسيقى، وابتكر طريقة جديدة للتدوين الموسيقي تستخدم الأرقام بدلاً من الرموز، وقدمها في باريس إلى أكاديمية العلوم التي أثنى جميع أعضائها على اختراعه، ولكنهم رفضوا مشروعه.
وفي عام 1742، في باريس وفي حجرة بائسة استأجرها في فندق تعس بشارع حقير، وبعد أن اقترح عليه قارئ مخطوطة مسرحيته الهزلية "نارسيس"، والتقى بديدرو وتوثقت بينهما صلة دامت خمسة عشر عاماً ، بدأت تداعب رأسه أحلام المجد، ولمَّا أوشكت نقوده على النضوب، وبنفوذ إحدى السيدات، عُرضت عليه وظيفة سكرتير في السفارة الفرنسية في البندقية التي وصل إليها عام 1743، بعد رحلة محفوفة بالخطر بسبب حرب الوراثة النمساوية، وكان فخوراً بمنصبه الجديد، وصلحت أحواله المالية التي سمحت له بتناول الطعام الطيب على غير العادة، كما أخذ يرتاد المسرح والأوبرا.
تشاجر روسو مع السفير مما أدى إلى رفته عام 1744، وقفل راجعاً إلى باريس، ولم تنصفه الحكومة، كما أن السيدة التي سعت لتوظيفه رفضت استقباله، وكتب في "الاعترافات": (إن عدالة شكواي وعدم جدواها، خلقت في ذهني بذور السخط على نظمنا الاجتماعية الحمقاء التي تضحي فيها دائماً رفاهية الشعب والعدل الحقيقي في سبيل مظهر للنظام ما أنزل به من سلطان، لا ثمرة له إلا أنه يضيف موافقة السلطة العامة إلى ظلم الضعفاء، وبغي الأقوياء).
عمل روسو ليرتزق بنسخ مدونات الموسيقى، ولما سمع دوق أورليان بفقره، أعطاه كراسات موسيقية لينسخها، مشفوعة بخمسين جنيهاً ذهبياً، فأخذ منها خمسة جنيهات، ورد الباقي لأنه يزيد على حقه.
وفي الفندق الذي يقيم فيه، تعرف عام 1746، على الشابة الفقيرة "تيريز لفاسير" التي تخدم فيه، وسرعان ما وجد الواحد منهما سبيله إلى الآخر، وصارحها بأنه لن يتخلى عنها وأيضاً، لن يتزوجها، ولقد أنجبت منه خمسة أطفال أرسل بهم جميعاً إلى ملجأ اللقطاء، وفي "الاعترافات" أعلن (عن ندمه على فعلته هذه، وبأنه لم يخلق للحياة العائلية، لأنه كان حزمة مرهفة من الأعصاب، وجوَّاباً شريداً في الجسد والروح، وكان يعوزه ذلك الاهتمام بالأطفال الذي يجعل الأب صاحياً رزيناً).
أسعدت الصدفة روسو في هذه الفترة بأن وجد وظيفة سكرتير، ثم صرَّافاً براتب ألف فرنك في السنة، وأهلته ليلبس الظفيرة الذهبية، والجوارب البيضاء، والباروكة، ويحمل السيف، وهي شارات حاكى بها الأدباء، وأهلته ليجد طريقه إلى بيوت النبلاء، ويستقبل في الصالونات، وتعرف إلى أصدقاء جدد منهم "جريم" الذي ارتبط به ارتباطاً حميماً جداً، ومؤذياً جداً. وفي بيت البارون دولباخ حيث كان ديدرو( يقتل الآلهة بسلاح سماه خصومه فك حمار، وفي وكر الملحدين ذاك ذاب وتلاشى جلَّ كثلكثة روسو).
وفي هذه الفترة، ألَّف موسيقى مزيجاً من الأوبرا والباليه سمَّاها "ربات الفنون الرشيقات" وقد أُخرجت عام 1745، محدثة بعض الضجة، وحازت على إعجاب أحد الدوقات الذي عهد إليه بتنقيح أوبرا باليه "أعياد رامير". كما تبادل مع أمير أدباء فرنسا فولتير، خطابَيْ حبٍّ وعلى إثرهما بدأت الخصومة الشهيرة بينهما.