كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من مذكرات شيخ الشباب: فــخــري الــبــارودي (1886-1966)

خالد محمد جزماتي- فينكس

روى الوطني الكبير فخري البارودي في مذكراته، أن أحد أصدقائه قال له يوماً: انظر الى هذا السوق (سوق مدحت باشا)، وتخيل كم عدد تجاره منذ خمسين عاماً، وهم بمجملهم أمانتهم عظيمة، إلّا تاجراً واحداً كان قليل الأمانة، والجميع كانوا يتحاشونه...! فرد عليه البارودي وهو يسأله، واليوم..؟ فأجابه وهو يغادره: الله أعلم...
وفي الصفحة السابعة والأربعين من مذكراته روى قصة أكتب لكم عنها كما فهمتها، وفيها يحدثنا عن بعض مظاهر أمانة التجار التي تستحق منا التمعن والبحث عن الدوافع والأسباب... ففي دمشق تتواجد عائلة الحلبوني التي اشتهر أكثرية رجالها كتجار ذوي شهرة وسمعة جيدة جداً.. وكان منهم تاجراً دمشقياً عريقاً يتعامل مع بعض تجار الاّستانة عاصمة الدولة العثمانية،..
ووصل مستحق تجارته 300 ثلاثمائة ليرة عثمانية، فبعث للتاجر العثماني رسالة من دمشق يعلمه فيها عن إرسال المبلغ المالي (300 ليرة) مع أحد المسافرين الدمشقيين إلى الاّستانة.. وقبل مغادرة الرجل دمشق حمّله التاجر الدمشقي من اّل الحلبوني مبلغ 200 مائتي ليرة عثمانية، لأنه لم يستطع تأمين المبلغ كاملاً... وعند وصول الرجل الدمشقي الى العاصمة، قصد من فوره التاجر الحامل له أمانته ضمن صرة قماشية متينة، وقال له هذه الأمانة لكم من دمشق.
و لما عدّ الليرات و وجدها 200 مائتان، قال له: المبلغ يجب أن يكون 300 مائة.. فشرد الدمشقي ثوان معدودات، ثم قال له: كلامك صحيح، و أنا تصرفت بمائة ليرة لحاجتي لهم أثناء الطريق، و سآتيك بالمبلغ بعد ساعات قليلة...
و عاد الى حيث ينزل في الخان، و جاء بالليرات المائة من ماله الخاص وكأن شيئا لم يكن...
ولكن التاجر العثماني تلقى رسالة ثانية من التاجر الدمشقي من آل الحلبوني يعلمه فيها أن "الصرة" لا تحوي سوى مائتي ليرة ذهبية لعدم القدرة بكل بساطة على تأمين الليرات الثلاثمائة.. و هنا أخذ التاجر العثماني، و أيضا بعد حين التاجر الدمشقي العجب من تصرف الرجل الذي حمل الأمانة، وهو تاجر أيضاً.. و لما سُئل عن ذلك قال: اشتريت سمعتي بمائة ليرة، وهي قد عادت لي بعد تفهم الجميع لتفاصيل ما حدث.
*****
و و ردت في المذكرات قصة أخرى أجد من المفيد ذكرها، خاصة أن المعروف عن الوطني الكبير فخري البارودي رجاحة عقله وكثرة مواهبه وشفافية ملاحظاته الاجتماعية وقدرته في اتخاذ قراراته بدون تردد أو تملق لأحد الوجهاء في زمانه، وقد حكى لنا في مذكراته كثيرا مما جرى في زمانه.. فروى لنا في السياسة وعن أصحابها، وقصّ علينا كثيراً مما شاهده وعاصره من حكايات مجتمعه وخاصة الدمشقية منها.. فقد نقل لنا في مذكراته أن رجلا يسمى "أبو فياض البغل" وهو من قبضايات "حي العمارة" كان سيء السيرة ويشرب الخمرة بكثرة ويتجول في الحي وأزقته ليلاً وخنجره في يده هائجاً على من يمر وخاصة بعد منتصف الليل.. و في إحدى الليالي صادف مرور شرطي يهودي متطوعاً في سلك الشرطة المحلية، فاعترضه أبو فياض البغل وضربه بقبضة الخنجر على رأسه وجرحه جرحاً بليغاً سال بسببه الدم بغزارة على وجهه وثيابه..
فأسرع الشرطي الى بيته ليسلم من أبي فياض البغل...! و لما رأته زوجته ولولت وصاحت: من فعل بك هذا..؟ فأجابها: البغل ضربني.. فصرخت به قائلة: "و لم ذهبت الى الخان؟" فرد عليها: ويلك... الذي ضربني بغل انسان، وليس بغلاً حيواناً...!...
فردت عليه بكل أنفة وثقة:
إذن: اذهب واشلح بــذلــة الــســلــطــان مـا دمــت لا تــقــدر علـى حــمــايــتــهــا