كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الراديو في حياتنا

كتب صفوان زين:

أنا أنتمي الى الجيل الذي ولد مع الراديو ومع الراديو نشأ وبه التَصَقَ خلال مراحل حياته اللاحقة ومن الأرجح ان تنتهي حياته والى جانبه جهاز راديو.
أول احتكاك لي بهذا الجهاز الرائع كان في طفولتي المبكرة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، عندما كنت أرقب والدي و أنا في غاية الدهشة ملتصقاً بجهازٍ خشبي ضخم غريب الشكل يصدر صوتاً، كان ذلك خلال استراقّه السمع بحذر بالغ الى إذاعة برلين باللغة العربية المحظور من قِبَل السلطة الفرنسية سماعها. 
أ صفوان زين 2
الحدث الاذاعي الاول، وكان مفصلياً في حياتي وغاية في الإثارة والتشويق عندما سمعتُ اسمي بين الناجحين في شهادة الدراسة المتوسطة للعام ١٩٥٢ يُتلى من الإذاعة السورية بصوت مطاع الجعفري رئيس دائرة الامتحانات في وزارة المعارف، يومها تلقيتُ من والدي القبلة الاولى والأخيرة على جبيني (لم أعرف لماذا كانت على الجبين!). 
الحدث الاذاعي الثاني وكان مثيراً جداً عندما سمعتُ بوضوح من إذاعة القاهرة صوتَ الرصاصات الأربع التي أُطلقَت على الرئيس جمال عبد الناصر وأخطأتهُ بسنتمترات قليلة أثناء إلقاء خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة عيد الثورة في تموز من العام ١٩٥٤ وردّة فعله الفورية والعصبية على محاولة الاغتيال بصراخ ونداءات هستيرية تنمّ عن مزيج من الرعب والتماسك، ولا زال بعض هذه العبارات عالقاً في ذاكرتي الى اليوم.
أما الحدث الاذاعي الثالث ولا يقل عن هذه الحادثة اثارةً هو الموقف الجريء جداً بل المتهور لأحد مذيعي الأخبار من بي بي سي لندن عندما خرج فجأةً عن النشرة المكتوبة وراح يرتجل دفاعاً حاراً عن جمال عبد الناصر ويصفه بالبطل العربي وذلك في أوج العدوان الثلاثي على مصر الذي قادته بريطانيا خريف العام ١٩٥٦ بهدف إسقاط عبد الناصر، من هنا أتى القول بأن شعبية عبد الناصر في العالم العربي قد صنعها جهاز الراديو.. 
في مراهقتي تعرفتُ الى صوت عبد الوهاب من الراديو وتعلقتُ به وحفظتُ أغانيه، ومن الراديو تعرفتُ الى صوت أم كلثوم الرائع وكنتُ حريصاً على سماع حفلاتها الشهرية من إذاعة القاهرة التي أطربت الملايين عبر الأثير. كما أن الراديو عرّفني الى المشاهير الآخرين من مطربيّ ومطربات العالم العربي وفي طليعتهم المبدعة فيروز.
من الراديو تابعتُ بتوتر وقلق مع كافة الناس البلاغات العسكرية رقم ١ وما تلاها من بلاغات لكافة الانقلابات ومحاولات الانقلاب التي حصلت في سوريا ابتداءً من العام ١٩٤٩، كما تابعتُ ولا زلتُ اتابع من الراديو وبانتظام اخبار العالم قاطبةً. 
مرّ جهاز الراديو بعدة مراحل خلال تطوره التقني، في المرحلة الاولى كان قطعة موبيليا خشبية جميلة يتعين ان تُعرَض في غرفة الضيوف أو صالون البيت، وفي المرحلة الثانية صغر حجمه وانتقل الى غرف النوم بجانب الأسرّة، أمّا المرحلة الثالثة والأهم، فهي مرحلة الراديو الترانزيستور التي بدأت في الخمسينات من القرن الماضي وكانت ثورة حقيقية في مجال الاستقبال الاذاعي، عندها التصق الراديو بنا والتصقنا به وانتقل من جانب الأسرّة الى داخل الأسرّة وقبع الى جانبنا في الفراش.
أعتقد أن معظم أبناء جيلي يخلدون الى النوم وهم ملتصقون بهذا الشريك 'المضارب'!