كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الدكتور عبد الله حنا: هكذا أحرقنا الكتب الفرنسية نكاية بفرنسا!.. محطّات في الذاكرة- ح2

يتابع فينكس نشر سلسلة "محطّات في الذاكرة" مع أعلام عرب و سوريين, و ينشر اليوم الحلقة الثانية من بعض ما تختزنه ذاكرة المؤرّخ السوري النهضوي د. عبد الله حنا:

مع تقدم القوات الفرنسية الديغولية المدعومة من الإنكليز لطرد القوات الفرنسية الموالية لحكومة فيشي، التي أقامها الألمان الهتلريون في جنوب فرنسا، ووصول طلائع القوات الديغولية في أوائل صيف 1941 إلى القلمون، انتقلنا إلى حقول العنب البعيدة عن القرية هربا من نيران المعارك. وفي تلك الأثناء ألقت طائرة انكليزية عددا من القنابل على تجمعات الفيشيين في ديرعطية وأصابت عدة منازل بأضرار  إحدى تلك القنابل سقطت في كرمنا القريب من بيوت السكن، وأحدثت حفرة لا تزال صورتها راسخة في مخيلتي. استمرت أيام اللجوء إلى كروم العنب اكثر من اسبوع وعُدْنا إلى البيت بعد انسحاب الفيشيين الموالين لالمانيا الهتلرية وتمركز الديغوليين من انصار الجنرال الفرنسي المتحالف مع البريطانيين، في ديرعطية. وأذكر أن معظم الجنود كانوا من السنغال، وكانوا عندما يرون إمرأة يصيحون "فطمة فطمة" وهي تصغير لفاطمة إشارة منهم إلى شوقهم للنساء.

*
أمضيت خمس سنوات في مدرسة ابتدائية تموّلها وتُشرف عليها البعثة الإرسالية الدانماركية، التي بدأت نشاطها في أمهات قرى القلمون آواخر القرن التاسع عشر. المعلم الذي علمنا اللغة العربية لم يكن ضليعا فيها ولا متخصصا في تدريسها. وعندما انتقلت في خريف 1945 إلى مدرسة المعارف الحكومية وجدت فرقا شاسعا بين معلم مدرسة الدانمارك ومدرسة المعارف و أستاذها القدير والمخلص رضا الخطيب. وفي الأسابيع الأولى صُدمت بما كان يتفوه به تلاميذ مدرسة المعارف من كلمات (بذيئة) لم أكن اسمع بها سابقا. وبعد مرور عدة اسابيع تآلفت مع الجو الجديد، و أخذت تتوطد مع العديد من تلاميذ المدرسة صداقات استمرت في مراحل لاحقة.
*
بدأنا نتعلم اللغة الفرنسية منذ الصف الأول، وكان مفروضا علينا أثناء الفُرص بين الحصص ألا نتحدث إلا بالفرنسية بهدف اتقانها. وفي صيف 1943 وبعد أن جاوزنا الصف الثالث صدر قرار من وزارة المعارف بمنع تدريس اللغة الفرنسية في المدارس الإبتدائية بُغية تمكين التلاميذ من تعلّم لغتهم الأم ،حسب تقديرهم. وهكذا حُرِمت من تعلم اللغة الفرنسية، ولا أزال، إلى اليوم، أتحسر على جهلي اللغة الفرنسية مما حجّم من معارفي وإمكانية الإتصال بالحضارات العالمية. لم يُفرّق القائمون على التعليم بين النضال ضد الاستعمار الفرنسي وبين اللغة الفرنسية كأداة للتواصل بين الحضارات. وذات مساء من صيف 1943 جرى في ساحة القرية (ساحة الشقطي) احتفال تكلم فيه عدد من الخطباء داعين إلى مقاطعة اللغة الفرنسية. ولا تزال كلمات عبد الفتاح مالك من النبك ترن في اذني وهو يردد: "فلا بنجور بعد اليوم ولا مرسي بعد اليوم". أثناء الإحتفال أُشعِلت النيران لحرق الكتب الفرنسية، ولا أزال أذكر تلك اللحظة التي القيت فيها كتاب اللغة الفرنسية للصف الثالث وأنا منتشٍ ِ بالإنتصار على فرنسا. وكلما حضرت مؤتمرا علميا يتحدث فيه الكثيرون باللغة الفرنسية أتذكر رمي الكتاب الفرنسي في النار، غير عارف آنذاك، بأني أحرق أحد أبواب الإتصال بالعالم وحضارته.
 
نلت شهادة السرتفيكا (أهلية التعليم الإبتدائي ) في حزيران 1946 بمعدّل جيّد فتح الطريق لحصولي على "كرسي مجاني" لمدة اربع سنوات للدراسة على نفقة "الدولة الوطنية" الناشئة. و "الكرسي المجاني" لا يعني الدراسة فقط بل المبيت والطعام المجاني. وهكذا دخلت مدرسة التجهيز الثالثة في دمشق. وكان بناء المدرسة ثكنة عسكرية فرنسية حوّلتها الحكومة الوطنية إلى مدرسة للدراسة المتوسطة والثانوية ضمّت، تلاميذ نهاريين معظمهم من دمشق، وتلاميذ ليليين، أي يبيتون في الطابق العلوي وهم الحاصلين على منح مجانية ن وغالبيتهم من أرياف حوران وجبل العرب والقلمون. في الأشهر الأولى اشتد حنيني إلى أهلي وضيعتنا، ومع الزمن اندمجت في الحياة المدرسية صارفا جهدي لتلقي العلم والحصول على شهادة البروفيه (الصف التاسع)، التي كانت تؤهل حاملها ليصبح معلما ابتدائيا أو يدخل دار المعلمين الإبتدائية ليصبح معلما مؤهلا براتب معقول ومكانة اجتماعية محترمة في ذلك الحين. ولكن الرياح سارت بما لا تشتهي "سفينة عبد الله". فقد رسبتُ في امتحان القبول لدار المعلمين في صيف 1950. واضطررتُ مرغما لمتابعة الدراسة للمرحلة الثانوية على نفقة أهلي في دمشق، إلى أن حصلت على شهادة البكالوريا صيف 1952.

ذات مساء من شتاء 1953 كنت في زيارة موسى بلبوص عامل يكبرني سنا من قريتنا مهنته مُبلِّط. وأثناء الزيارة دخل شاب طويل القامة عرفت انه عبد الغني عرفات، الذي كان طالبا نشيطا في قيادة المظاهرات في مدرسة التجهيز الثالثة. لم يمكث عبد الغني طويلا معنا. عرفتُ، فيما بعد، أن عبد الغني جلب مناشير شيوعية إلى موسى البلبوص، الذي لم يكن يعرف اسمه الحقيقي. وبعد مرور فترة وجيزة اعتقل رجال "المكتب الثاني" {وهو فرع في الأركان العامة للجيش مهمته كالشرطة السرية "التحري" ولكنه اكثر نفوذا منها} موسى البلبوص وهو يوزّع مناشير شيوعية. واثناء التحقيق معه المترافق بالضرب والتعذيب اضطر موسى للبوح أن من اعطاه المناشير شخص لا يعرف اسمه، ولكن عبد الله حنا عرفه عندما جاء بالمناشير إلى غرفتي، أي غرفة موسى. وسرعان ما قام رجال المكتب الثاني بمداهمة الغرفة المستأجَرة التي كنت اسكن فيها، ولحسن الحظ لم أكن موجودا في الغرفة. ولدى عودتي إلى الغرفة، وقبل دخولها، أخبرني الجيران أن المكتب الثاني داهم الغرفة ويريد اعتقالي. فلجأت إلى مكان آمن للمبيت فيه، ريثما تنجلي الأمور.
وبعد عدة أيام عرفت السبب وعشت في اضطراب نفسي لا أعلم كيف اتصرف. ومثَلتُ لنصيحة ابن عمي خليل حنا، وهو كما ذكرت عضو في الحزب الشيوعي، بأن استأجر غرفة سرية وأتوارى عن انظار الأمن كي لا استسلم لهم وأعطيهم اسم عبد الغني عرفات من كوادر الحزب الشيوعي السرية.
استأجرت غرفة في حيّ القيمرية في بيت قديم عند إمراة مسلمة متقدمة في السن تسكن في غرفة في الطابق الأرضي، وفيها المطبخ والمرحاض، و أنا سكنت في غرفة مرتفعة نسبيا تسمى "علية". وكان عليّ كلما دخلت إلى المنزل أن اعلم بقدومي بترداد عبارة "يا الله.. يالله" كي تتستر صاحبة المنزل العجوز. كانت هذه الغرفة ملائمة للتخفي في حي شوارعه ضيقة ومتعرجة، واتخذت اسم نزار للتمويه، ولم يكن رجال الأمن في المكتب الثاني لأركان الجيش، على خبرة كافية في الملاحقة واكتشاف الناشطين السياسيين في ذلك الحين.
في تلك الأثناء كنت طالبا في في الجامعة السورية في كلية الآداب السنة الأولى للعام الدراسي 1952 – 1953، والعقيد اديب الشيشكلي قائد الإنقلاب العسكري الثالث في أوج حكمه المسمى دكتاتورية، وهو بالمقارنة مع الدكتاتوريات اللاحقة يمكن ان يسمى "دكتاتورية ديموقراطية". فجذورالاستبداد السلطاني لم تكن قد تغلغلت عميقا في الأرض السورية بعد تحررها من الحكم العثماني. والقضاء كان نسبيا مستقلا ولا يخضع لتوجيهات المباحث السلطانية. و أضرب مثلا على تبرئة القاضي حمدي الصالح لمجموعتين شيوعيتين، دون الخوف من الحكام.
 
رابط الحلقة الأولى:

د. عبد الله حنا: من ذكريات ابن الخمس سنوات (السلق) و (السيل).. محطّات في الذاكرة.. ح1

http://www.fenks.co/index.php/%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/34991-1-2