كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عبد اللطيف اليونس... من ذا الذي يكرّم الرسالة؟

       أُبي حسن- تشرين 23/10/2006


تنويه من فينكس

مرّ الآن أكثر من ثلاثة أعوام على رحيل العلّامة والسياسي والمحسن الكبير, فقيد الأدب والمنابر, الدكتور عبد اللطيف اليونس, إذ رحل عن دنيانا بتاريخ 28 آذار 2013 بعد أن عاش نحو قرن من الزمن 1914- 2013م قدّم خلاله أروع الصور الإنسانية وأنبل المواقف الوطنية.. يعيد فينكس هنا نشر مقال سبق أن كتبه الزميل أُبي حسن عن اليونس,  في صحيفة تشرين بتاريخ 23/10/2006.


عبد اللطيف اليونس... من ذا الذي يكرّم الرسالة؟

لا تأتي أهمية الدكتور عبد اللطيف اليونس، من تاريخه السياسي (كنائب في البرلمان السوري لثلاث دورات متتالية أواسط القرن الماضي).

ولا من مواقفه الوطنية المشهودة له خلال الانتداب الفرنسي لسورية وبعده، ولا حتى من القضايا التي أثارها محليا وعربيا أثناء وجوده تحت قبة البرلمان، مثل ذلك طرحه لقضية الوحدة الكونفودرالية (لا الاندماجية) مع مصر مطلع خمسينيات القرن الماضي، أو مطالبته بتأميم البترول في سورية قبل أن تؤممه حكومة محمد مصدق في طهران، برغم أهمية تاريخه ذاك، بما حفل به مما أشرنا اليه وبما لم نُشر. ‏

ولئن صار اليونس في عمله السياسي ونشاطه في هذا الحقل قطعة من قماشة التاريخ السوري في القرن العشرين, وعلى امتداد أكثر من نصف قرن، غير أن أهميته لا تكمن هنا فحسب، فعبد اللطيف اليونس، قبل هذا وذاك هو رجل نهضوي بامتياز، وقد تجلى هذا الأمر جليا في كتابه «الجبل المريض» الصادر عام 1944 والذي رفض سنتذاك الروائي والأديب شكيب الجابري، وقد كان يشغل منصب مدير عام الإعلام، إعطاءه الورق اللازم لطباعته (كان الورق مفقودا نتيجة الحرب العالمية وغير متوفر إلا في وزارة الإعلام)، يعري اليونس في كتابه هذا المشكلات التي كانت تعاني منها الجبال الساحلية، وتحديدا المشكلة الاجتماعية وتفرعاتها من إقطاعية وعشائرية وجمود وما شابه، ولأنه أدرك بوعيه الفطري وحسه المرهف ان لا قضاء لأمراض الجبل ولا إمكان لنشر رسالة الإصلاح التي أخذها على عاتقه إلا بمدّ اليد للإصلاحيين فقد كان من أقرب الناس لرائد الإصلاح في تلك الجبال، أعني العلامة الشيخ سليمان الأحمد (يلقبه البعض بالمعري الجديد)، ومن المعروف أن العلامة الأحمد كان عضوا في المجمع العلمي العربي عام 1919، ولأن د. اليونس يعرف أكثر من غيره مكانة العلامة سليمان الأحمد والدور التنويري الذي لعبه في حياة أبناء الجبال الساحلية، فقد باشر لإقامة يوبيل ذهبي تكريما واحتفاء بالمصلح الأول، وكان ذلك عام 1938م. ‏

يعود الفضل للدكتور اليونس في تدوين تاريخ ثورة الشيخ صالح العلي التي دامت قرابة الثلاث سنوات ونصف ضد الفرنسيين، وكانت مصادره التاريخية سنتذاك مباشرة من قائد الثورة والمجاهدين الأوائل، إضافة لبعض ما جاء في السجل الذهبي (للفرنسيين)، وبهذا فقد أرّخ لجانب مهم من حياة سورية الوطنية، كما إليه يعود الفضل في تكريم الشيخ صالح العلي (الذي لم يطلب لا منصبا ولا تكريما) إبّان حكم الكتلة الوطنية في 17 نسيان عام 1945، وله الفضل في إقامة حفل تأبين للشيخ في اللاذقية. ‏

تمثل الدور التنويري لليونس من خلال ممارسته التعليم في منطقة وادي العيون سنة 1936م، في بيئة كانت تخضع لسيطرة الاقطاع الذين أرادوه حكراً لأبنائهم دون باقي الناس، من هنا كان جهده مضاعفاً، هذا إن لم يكن تعجيزياً! وسيكمل مهمته النبيلة هذه في العراق خلال وجوده لاجئا فيه عام 1939 إذ يُدرّس (وبدوي الجبل) في إحدى ثانويات البصرة، وهناك يشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز. ‏

تنبه الدكتور اليونس الى أهمية الجالية السورية في المغتربات (لاسميا أميركا الجنوبية)، وباح بهاجسه هذا للرئيس القوتلي (لليونس كتاب مهم عن القوتلي بعنوان: «حياة رجل في تاريخ أمة) فكلّفه بزيارتها ولقاء المغتربين بغية وضعهم في صورة الصراع العربي­ الاسرائيلي، وكان ذلك؛ وكم كان الشاعر عبد اللطيف محرز دقيقا في وصفه وموفّقاً في التعبير عندما قال عنه: «عاش في المهجر سفيرا متنقلا للعروبة عامة وللقضية الفلسطينية بشكل خاص»، وقد أتت زيارات اليونس للمغتربين أُكلها، فلم يتوان المغتربون عن مد يد العون الى وطنهم الأم، وفي مرة لاحقة سيمضي اليونس أكثر من عشرين عاما (9 سنوات في البرازيل و12 سنة في الأرجنتين) حيث يصدر جريدة (الانباء) في البرازيل باللغتين العربية والبرتغالية، وجريدة (الوطن) في الارجنتين، وقد كان لتينك الجريدتين أثرهما في تعزيز علاقة المغتربين بوطنهم الأم وتواصلهم معه. ‏

وكما أدرك اليونس أهمية المغتربين للوطن كذلك عرف معنى ان يحتضنهم الوطن، ولو رمزيا من خلال احترام الوطن للبلاد التي يسكنها سوريون، من هنا أتت مطالبته البرلمان السوري بتسمية شارعين في دمشق واحد باسم البرازيل والثاني (على مقربة منه) باسم الارجنتين، باعتبار ان أكبر تجمع سوري موجود في كلا البلدين، إذ يقدر عدد المغتربين العرب في البرازيل بنحو عشرة ملايين، وفي الارجنتين قرابة الأربعة ملايين (من الطبيعي ان أغلبهم من سورية، وما تبقى من لبنان وفلسطين). ‏

أول ما يصافحك وأنت ذاهب الى صافيتا من جهة طرطوس، منزل الدكتور اليونس الذي عرفه ابناء المحافظة منزلا لكل ذي حاجة، ومن ناقل القول انه كان (وما يزال) ملتقى للأدباء والشعراء، كثيرا ما شعرت بالمرارة في زيارتي الأخيرة إليه، إذ طلبت من السائق أن ينزلني قرابة المنزل (المفترض انه ليس بحاجة الى تعريف) لكن دون جدوى، آنئذ تساءلت بيني وبين نفسي: إذا كان المسؤلون عن محافظة طرطوس، اللاحقون والسابقون، لم يدركوا أهمية اليونس ومكانته ودوره النهضوي والتنويري في حياة آبائنا وأجدادنا وبلادنا، فكيف لسائق نصف أمي ان يعرف من يكون الدكتور عبد اللطيف اليونس أو أين يقع منزله (من الطريق العام في مدخل صافيتا)؟ ‏

ولعل العتب يشمل هنا مثقفي المحافظة الذين لم يسارعوا أو يطالبوا بإقامة تكريم لِعَلَم قدم الكثير دون منّة، فباستثناء ما قام به الاستاذ الشاعر عبد اللطيف محرز من جمع لقصائد مديح قيلت في رجلنا الكبير وحفل تكريم طالب بعض اصدقاء اليونس بعيد منحه جائزة جبران خليل جبران العالمية تقديرا من القائمين عليها لجهود الدكتور اليونس ودوره الريادي، لا أعلم أن احدا نادى الى تكريمه التكريم اللائق به وبالمكانة التي يستحقها تاريخه النضالي ودوره التنويري على أكثر من صعيد، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن شملت مساحة الوطن والمهجر دون كلل أو تعب. ‏

ها هو اليونس يحبو نحو عامه الثالث والتسعين، ولاتزال تدهشك ذاكرته المتقدة دائما، تماما كما يذهلك تواضعه وأدبه، إذ يشعرك انه بحاجة للتعلم منك لا أنت بحاجة اليه أو الى طيات ذاكرته! في كل مرة أزوره فيها يزداد خجلي من تواضعه، بقدر ما يزداد احساسي بالذنب كوني أشعر أني مقصر إزاء أحد أعلام بلادي! ‏

يمضي خريف حياته في بيته الكائن في صافيتا وسط غابة صغيرة من الاشجار مثابرا على القراءة وأعماله الخيرية من بناء مستوصفات وما شابه مما ينتفع به الناس، وبالتأكيد من جيبه الخاص، وكالعادة دون أي ضجيج اعلامي. ‏

كي لا أطيل، ترى: ألا يحق لي التساؤل: لماذا لا تقدم محافظة طرطوس على تسمية شارع باسم الدكتور عبد اللطيف اليونس على غرار نديم محمد وسواه، وألا يتوجب على مثقفي المحافظة، بافتراض انهم ضميرنا، ان يطالبوا الجهات المعنية بهذا! وهذا أضعف الإيمان! لا تكريما للرجل فحسب، وإنما تكريما لرسالة حمل لواءها وكان أهلا لها، فهل نحن فاعلون؟ آمل ذلك، رغم إحساسي ان الرجل سيرفض ذلك..‏