المتنبي وأبو فراس الحمداني
2024.09.13
علي سليمان يونس- فينكس
أن يكون بين أبي فراس الحمْداني والمتنبي قطيعة أو جفاء فأمر طبيعي، خاصة وأن أبا فراس شاعر له جولته وصولته في الدولة الحمْدانية، وموسوعة شعرية ,وسيفه بتار للأعداء.. ويشهد له العدو قبل الصديق بذلك، وهو ابن عم سيف الدولة أمير حلب، وتربى في حجره.. وها قد وفد إليها شاعر غريب حظي برضا الأمير سيف الدولة وإعجابه، فيستأثر بحبه، بل هو يجيزه بما لا يجيز غيره، ناهيك أقول: ربما علم أبو فراس عن حب المتنبي لخولة أخت سيف الدولة بالسر... وقد غمر المتنبي شعراء عصره وحجبهم إلا أبا فراس، فهو صاحب ملَكة شعرية ترفِدها مكانته فارسًا في الدولة الحمْدانية. مما جعل أبا فراس يخاطب ابن عمه، فيقول:
"إن هذا المتشدّق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار عن ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره".
لكن الغريب، بل المدهش أن نرى في أبي فراس هذه الحافظة التي ذُكرت عنه، فالمتنبي ينشد قصيدته في عتاب سيف الدولة، وأبو فراس يتصدّى له بعد كل بيت ليثبت له وللمجلس أنه لم يأت بجديد، وكأنه قد أعد الردود مسبقًا.
اعترضَ أبو فراس المتنبي عدة مرات، واستوقفه وهو يلقي قصيدته التي مطلعها:
"واحرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شبِمُ.. ومَن بجسمي وحالي عنده سقمُ"
الشاعر الحمْداني يذكر المآخذ على هذا البيت أو ذاك، بل يتهمه بأنه طرق معنى تلو المعنى مما قاله غيره من الشعراء الأوائل.
يقرأ المتنبي قصيدته التي أعدّها، فيوقفه أبو فراس ليردّ عليه مما اختزنه في محفوظه، حتى البيت الذي أضافه المتنبي بعد أن أهين في مجلس الأمير:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
يجد هذا "الحاسد" الرد عليه، بأنك "سرقت" المعنى من شاعر قبلك، ولم يكتف بشاعر واحد بل أتى بشاعر ثان، وقد سبقا في المعنى نفسه.
لنقرأ هذه المسرحية الأدبية النادرة وقد أوردها البديعي:
"وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي، وانقطع يعمل القصيدة التي أولها:
وأحرَّ قلباهُ مّمن قلبه شَبِمُ ومَنْ بجسمي وحاليِ عنده سَقَمُ
وجاء وأنشدها، وجعل يتظلّم فيها من التقصير في حقّه كقوله:
مالي أكتَّمُ حُبًّا قد برى جَسدي وتدَّعي حبَّ سيف الدّولة الأممُ
إن كان يجمعُنا حُبٌّ لغُرَّته فليت أنَّا بقدر الحبّ نَقتسمُ
قد زرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغْمَدَةٌ وقد نظرتُ إليه والسيوف دَمُ
فهمّ جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة؛ لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصْمُ والحَكمُ
فقال أبو فراس: مسختَ قول دِعْبِل وادّعيته وهو:
ولست أرجو انتصافًا منك ما ذَرَفَتْ عيني دموعًا وأنتَ الخصمُ والحكمُ
فقال المتنبي:
أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً أن تحَسَب الشحمَ فيمنْ شحمُه وَرَمُ
فعلم أبو فراس أنه يعنيه؛ فقال:
ومن أنت يا دعيَّ كندة حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟
فاستمر المتنبي في إنشاده، ولم يردّ إلى أن قال:
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ
أنَا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي مَن به صمَمُ
فزاد ذلك غيظًا في أبي فراس، وقال:
سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد في قوله:
أوضحتُ من طُرُق الآداب ما اشتكلتْ دهرًا وأظهرتُ إغرابًا وإبداعا
حتى فتحتُ بإعجاز خُصِصْتُ به للعُمْي والصَّمّ أبْصارًا وأسْماعا
ولما وصل إلى قوله:
والخيلُ والليلُ والبيْداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاسُ والقلمُ
(في الديوان: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم)
قال أبو فراس:
وما أبقيت للأمير، إذا وصفتَ نفسكَ بالشجاعة والفصاحة، والرياسة والسماحة، تمدح نفسك بما سرقتَه من كلام غيرك، وتأخذ جوائز الأمير؟
أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسوَد النَّخَعي الكُوفّي المعروف بابن العريان العثماني، وهو:
أعاذلتي كم مَهمهٍ قد قطعتُهُ أليفَ وُحوش ساكنًا غيرَ هائبِ
أنا ابن الفلا والطعنِ والضرب والسُّرَى وجُرْدِ المَذاكِي والقَنا والقواضَبِ
حليمٌ وَقورٌ في البوادي وهيبتي *لها في قلوب الناس بطشُ الكتائبِ
فقال المتنبي:
وما انتفاعُ أخيِ الدُّنيا بناظره إذا استوتْ عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ
قال أبو فراس: وسرقت هذا من مَعْقِل العِجْلي، وهو:
إذا لم أُميَّز بين نورٍ وظُلْمة بعينيَّ فالعيَنان زُورٌ وباطِلُ
ولمحمد بن أحمد بن أبي مُرّة المكّي مثله، وهو:
إذا المرءُ لم يدركْ بعينيه ما يُرَى فما الفرق بين العُمْيِ والبُصَرَاء
فغضبَ سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال:
إن كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنا فما لجرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ
فقال أبو فراس: أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتُمْ بأن نُجْفَى وسَرَّكُمُ قَولُ الوُشاةِ فلا شَكْوَى ولا ضَجَر
ومثله لابن الرومي وهو:
إذا ما الفجائُع أكسبني رضاك فما الدهرُ بالفاجع
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قاله أبو فراس، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي عنه في الحال، وأدناه إليه، وقَبَّل رأسه، وأجازه بألف دينار، ثم أردفهُ بألف أخرى.
كل ذلك لم يفتّ من عضد المتنبي، فالبيت الذي يقوله- حتى لو كان هناك ما سُبق فيه - بالمعنى نفسه، فإنه تظل له مكانته واشتهاره، فمثلاً في بيت أبي العتاهية:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه رب امرئ حتفُه فيما تمنّاه
فقد أورده المتنبي باختلاف العجز، وبتشبيه تمثيلي مبدع بارع:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
هذه مسألة تناولها النقاد بآراء متباينة، لكني هنا أتوقف عند أبي فراس متسائلاً:
هل حقًا كان بهذه الموسوعية؟
يرتجل الإجابة والأدباء في مجلس سيف الدولة ينصتون، وكأن المسرحية لعبة (بنغ بونغ)، يقول المتنبي، فيصده أبو فراس ويتحداه، وكأنك لم تقل جديدًا.
لقد بدا أبو فراس دارسًا خطيرًا للشعر، بل عارفًا بما يعنيه المتنبي، يردّ ردّه باندفاع، وكأنه على انتظار لما سيقال.
مسرحية جميلة، ولا ننسَ استمرار المتنبي في إلقائه، ومن جهة أخرى يقرأ أبو فراس في حماسة معينة الأبيات التي يراها أنها الأصل. وأمامنا مشهد الأمير المتقلب في التعامل مع المتنبي، ولنتخيل بعد ذلك الشعراء في المجلس وهم يستمعون إلى الشاعر وإلى أبي فراس!
وأخيراً: هل نجد في أيامنا هذه شعراء كأبي فراس والمتنبي؟