مُظفَّر النّوّاب.. المُقاوِمُ المُشاكس والعاشقُ المُتمرّد
د. محمد الحوراني
أنْ تتحدّثَ عن مُظفَّر النّوّاب يعني أن تفتحَ صفحاتِ التاريخ بما فيها من وجعٍ وصدمات، وبما تَحمِلُهُ بُطونُها من أجِنّةٍ يُمكِنُ أن تُخلَقَ مُشوَّهةً في يوم مولدِها المُنتظَر، فهو المُثقّفُ الأصيل، والنّاقدُ الخبير، والسياسيُّ الذي لا يُمكِنُ أن يُؤسِّسَ فِكْرَهُ وشِعْرَهُ على الانتهازيّةِ والأنانية اللّتَينِ يلوذُ بهما مُعظمُ الشُّعراء والمُثقَّفينَ من أبناءِ جِلْدَتِه.
هو العاشقُ لوطنِهِ حدَّ السَّرَيانِ في الدَّمِ والتماهي معَ الرُّوح، وهو الثائرُ على رداءةِ واقعِه السياسيِّ الذي أرادَ تدميرَ الإرادةِ والكبرياء وروح المُقاوَمة لدى أبناءِ شعبِه، ولهذا تَجِدُهُ يستخدمُ مُفرداتٍ غيرَ مألوفةٍ لدى أقرانِهِ في كثيرٍ من الأحيان، لا لِعَجْزِ قامُوسِهِ اللُّغويّ، بل لألَمِهِ وحِدّةِ نزيفِهِ لضياعِ فلسطين وغيرِها من البُلدانِ العربية، بينَ طمعِ المُحتلّ وجَبَرُوتِه، وجَشَعِ الحُكّامِ واستبدادِهمْ ورغبتِهمْ في البقاءِ على عُروشِ السُّلْطَةِ، ولو على جماجمِ الأبرياءِ وجُثَثِ الأنقياءِ من أبناءِ أُمّتِهم الراغبينَ في إصلاحِ واقعِها السياسيِّ والمُجتمعيِّ والنُّهوضِ به، ولهذا أتَتْ نُصوصُهُ لاذعةً وجارحةً، لقناعَتِهِ المُطْلَقَةِ بأنّ رجالَ السُّلْطةِ والحُكّامَ لا يُتْقِنُونَ سِوى النِّفاقِ والمُتاجَرةِ بالأوطان:
فالبعضُ يبيعُ اليابسَ والأخضر
ويُدافِعُ عن كُلِّ قضايا الكون
ويَهْرُبُ مِنْ وَجْهِ قَضِيّتِه…
لهذا كانتْ نُصوصُهُ، في غالبِيّتِها، تنزعُ نحوَ التغيير، لكنَّ التغييرَ الذي أرادَهُ النّوّابُ، وسعى إليهِ، لم يكُنْ قائماً على تخريبِ الأوطانِ وتدميرِها وتمزيقِ مُجتمعاتِها، بل أرادَهُ تغييراً في بنيةِ المجتمع ومنظومتِه السياسيّة الحاكمة، حتّى إنّهُ حذّرَ من التغيير الفوضويِّ المُرتبطِ بالأجندات الخارجيّة والهادفِ إلى تقويضِ الدولةِ وتفكيكِ المجتمع. يقولُ مُظفّر النّوّاب في رائعتِهِ “وتريّات ليليّة” التي رآها بعضُهمْ تتنبّأُ بما سُمِّيَ بـ”ثورات الربيع العربي” المُدمِّرةِ للإنسانِ والأوطانِ معاً:
سيكونُ خراباً
سيكونُ خراباً
سيكونُ خراباً…
هذي الأمّةُ لا بُدَّ لها أنْ تأخُذَ دَرْساً في التَّخْريب.
إنّهُ استشرافُ الشّاعرِ الحقيقيِّ المُلْتَحِمِ معَ قضايا أمّتِهِ لحقيقةٍ ما يُخطِّطُ لها، وهو استشرافٌ نابعٌ من عُمقِ قراءتِهِ وتنقيبهِ في مُعاناةِ أبناءِ وطنِه الجريحِ المُتّسِعِ بحَجْمِ جراحاتِهِ ومُعاناةِ أطفالِه ونسائِه وخَواءِ قِمَمِ الذُّلِّ العربيّة التي تُعْقَدُ لبيعِ دِماءِ المُقاوِمينَ والنَّيلِ منها، ولكنْ هيهاتَ منّا المُساوَمةُ والبيعُ أو التَّخلِّي عن المُقاوَمةِ والكِفاح:
فأنتَ المُحالُ الذي لا يُباع
وأنتَ التُّرابُ الذي لا يُباع
وأنتَ السّماءُ
وأنتَ القِصاص…
إنّهُ القدَرُ الذي لا مناصَ منهُ، حتّى وإنْ عَجَزَ الأغبياءُ عن فَهْمِ مُعادَلتِه، أو حاوَلُوا النَّيلَ من قُدْسِيّتِهِ بدَعْمِ العَدُوِّ والتَّخلِّي عن المُقاوِمِ المُدافِعِ عن كرامةِ الأمّةِ جمعاء، ولهذا اتَّهَمَ النّوّابُ الجميعَ، ولم يُبرِّئْ إلّا ذلكَ المُقاوِمَ الذي يَحمِلُ البُندقيّةَ في قلبِهِ، ويَطْوِي عليها الشّغاف.
هذا هُوَ مُظفَّر النّوّاب الآتي من أقصى الحُزنِ ليُغْلِقَ أبوابَ بُيوتِ المَهْزُومِينَ، ويُبشِّرَ الإنسانَ بالإنسانِ بقُدْرَتِهِ على الفِعلِ والتغيير، مُطالِباً إيّاهُ بالتزوُّدِ بقطرةِ ماءٍ قبلَ وُلوجِ الرّبعِ الخالي، ولأنّهُ كانَ المسكونَ أبداً بالأصالةِ والعراقةِ والانتماء، فقد اختارَ الإقامةَ في دمشق مُدّةً من الزّمنِ، لعلّها تُنْسِيهِ شيئاً من ألَمِهِ ومُعاناتِهِ التي أمْسَكَتْ بناصيةِ قلبِه، واسْتَحْكَمَتْ بنقاءِ رُوحِه، لكنَّ المدينةَ العريقةَ بغنجِها وأصالتِها ورِقّةِ ياسمينها لم تتمكّنَ من إبْعادِهِ عن عُروبةِ عِراقِهِ و تاريخِهِ الحضاريّ، وهو التاريخُ الذي رآهُ حاضراً في لحظاتِ إقامتِهِ في سورية وجَوْلاتِهِ في شوارعِها وأزِقّتِها، وهي الإقامةُ التي كانَ يأملُ منها أن تكونَ رئيفةً به، حتّى لا يموتَ مِيتةَ الشَّبَح، وكيفَ لهُ أن يموتَ فيها مِيتةً كهذِه، وهي مَحطُّ سياجِ العربِ ومَحطُّ مَطِيِّهمْ؟! هكذا هيَ دمشقُ التي احتَضنَتْ شِعريّةَ النّوّابِ ومُشاكساتِه، تماماً كما احتَضنَتْ صُوفيّةَ ابْنِ عربي وشَطَحاتِهِ بعدَ أنْ ضاقَتْ بهِ الأرضُ، فخَصّتْهُ بواحِدٍ من أحيائها.
رَحِمَكَ اللهُ يا أبا عادل، وأنتَ الحاضرُ أبداً في فِكْرالشعب السوري وعَقْلِه وثقافَتِه، وهو الشّعبُ الذي أحْبَبْتَهُ، فعَشِقَ نقاءَ رُوحِكَ وأصالةَ ثقافَتِكَ ووَعْيَ تَمرُّدِك.
ستبقى دائمَ الحُضورِ في أزقّةِ دمشقَ وشوارعِها وبينَ عبقِ الياسمينِ الدِّمشقيِّ المُعَرْبشِ على أطرافِ الطريقِ الواصلةِ بينَ شارعِ الباكستان ومقهى الهافانا، وسيبقى بهاءُ حُضورِكَ مُمْسِكاً بتلابيبِ عُقول الشعراء والمثقفين والمُبدِعينَ السُّوريّينَ والعرَبِ أينَما حَلُّوا، وارْتَحَلُوا