كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بدر شاكر السياب وقصيدته عن الزعيم انطون سعادة

أحمد أصفهاني
بعد تعرّفي على أعمال شعراء النهضة القومية الاجتماعية أمثال علي أحمد إسبر (أدونيس) ونذير العظمة وكمال خيربك (قدموس) ومحمد يوسف حمود بُعيد انتمائي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في أواخر الستينات، وقع في يدي سنة 1971 كتاب «بدر شاكر السياب ـ حياته وشعره» للناقد عيسى بلاطة... فكان مدخلي إلى الشعر الحديث الخارج عن الأوزان التقليدية. لكن ما شدّني إلى السيرة الأدبية الشيقة، تلك الحياة المأسوية (سياسياً وصحياً) التي عاشها الشاعر وقضت عليه في ريعان الشباب (1926 ـ 1964).
ثم توسعتْ قراءاتي حول السياب المولود في جيكورـ البصرة (جنوب العراق). وتوقفتُ بتمعن عند مرحلته التموزية أو الواقعية الجديدة الممتدة من 1956 إلى 1960، وتعتبر من أغنى مراحل حياته. إذ أن سنواته الأربع اللاحقة كانت صراعاً مستمراً مع المرض الذي تخيّم عليه أشباح الموت. وقد نشر السياب في تلك الفترة عدداً من قصائده في مجلة «شعر» التي يرأس تحريرها يوسف الخال (القومي الاجتماعي سابقاً)، والتي احتضنت مجموعة من الشعراء والنقاد القوميين منهم أدونيس وقدموس والعظمة ومحمد الماغوط وحليم بركات وغيرهم. وفي سنة 1960 صدر عن دار مجلة شعر ديوان «أنشودة المطر»، الذي يحتل مكانة مميزة بين دواوين السياب.
ودائماً كانت تلفت نظري في الديوان قصيدة «المسيح بعد الصلب» (1957) لما تحتويه من إيحاءات تؤكد على الموت الذي يقهر الموت، مستوحية أساطير القيامة في تاريخنا الأدبي الموغل في القدم. وحدث أن تعرّفت على بعض الفنانين والأدباء العراقيين في الوطن ثم في لندن. وكان معظمهم يشير إلى أن القصيدة متأثرة بالأجواء القومية الاجتماعية كما عايشها السياب في رحاب مجلة «شعر»... إلى أن سمعت من أحدهم ذات يوم أن القصيدة بالفعل مهداة إلى أنطون سعاده. لكن عُتّم على الإهداء لظروف سياسية وحياتية تتعلق بالوضع الصحي والمعيشي للشاعر!
لكن كيف يمكن التأكد من ذلك في غياب أي نص موثق؟
أثرتُ الموضوع مع صديقي الفنان العراقي يوسف الناصر، فاقترح أن نسأل الشاعر العراقي سعدي يوسف (مواليد 1934 في منطقة تبعد كيلومترات قليلة عن مسقط رأس السياب)، وهو مقيم في لندن. ذلك أن سعدي عاصر السياب وعرفه ورافقه في ترسيخ معالم الشعر الحديث. وإذا كان عند أحد معلومة مؤكدة عن قصيدة «المسيح بعد الصلب»، فستكون عند سعدي. وهكذا تركت الأمر في عهدة الصديق يوسف وقتما تسنح له الظروف.
مرّت سنة أو أكثر من دون أن أسمع شيئاً عن الموضوع، إلى أن تلقيت بتاريخ 23 كانون الثاني سنة 2000 رسالة من يوسف جاء فيها التالي:
«كان الجو جميلاً بصورة يندر حدوثها في كانون الثاني في هذه البلاد المظلمة. وزارني الصديق سعدي يوسف مبكراً كعادته، مع أن اليوم هو الأحد. كنا في ذكرك أطول مما استغرقه احتساء آخر قنينة من النبيذ الجيد الثلاث التي حظينا بها من لدنكم الشريف (...) وكان ذلك في شرفة المركز الثقافي Waterman المطلة على نهر التيمز مع خبز وجبن فرنسيين. المهم أنني سألت سعدي عن بدر شاكر السياب، وورد في معرض كلامه أن قصيدة «المسيح بعد الصلب» إنما أهداها إلى أنطون سعاده في حينها. وكان ذلك الأمر في علم العديد من أصدقاء بدر والمقربين منه. ثم عدتُ وسألت سعدي أن يؤكد لي الأمر، فأكده. ثم أني اتصلت به مساء اليوم (قبل كتابة هذه الورقة، وبعد أن أوصلته إلى البيت) من أجل أمر آخر. وعدنا إلى ذكر قصيدة «المسيح بعد الصلب»، فقال سعدي إنه لا يزال يجدها قصيدة رائعة.
أخي أحمد أرجو أن يكون ذلك مفيداً...».
إن القراءة المتأنية، في ضوء الإهداء الموجه إلى سعاده، تكشف في القصيدة عن عوالم أليفة بالنسبة إلى القوميين الاجتماعيين. إنها الدورة الأبدية من الموت إلى القيامة... من تموز إلى آذار!
المسيح بعد الصلب
بعدما أنزلوني، سمعت الرياحْ
في نواحٍ طويل تسفُّ النخيلْ
والخطى وهي تنأى إذن فالجراحْ
والصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تُمتني. وأنصتُّ: كان العويلْ
يعبر السهل بيني وبين المدينةْ
مثل حبل يشدّ السفينةْ
وهي تهوي إلى القاع كان النواحْ
مثل خيط من النور بين الصباحْ
والدجى في سماء الشتاء الحزينهْ
ثم تغفو على ما تحس المدينهْ
حينما يزهر التوت والبرتقالْ
حين تمتدّ «جيكور» حتى حدود الخيالْ
حين تخضرُّ عشباً يغني شذاها
و الشموس التي أرضعتها سناها
حين يخضرُّ حتى دجاها
يلمس الدفء قلبي، فيجري دمي في ثراها
قلبي الشمس إذْ تنبضُ الشمس نورَا
قلبي الأرض، تنبض قمحاً و زهراً وماءً نميرَا
قلبي الماء، قلبي هو السنبلُ
موته البعث، يحيا بمن يأكلُ
في العجين الذي يستديرْ
ويُدْحَى كنهدٍ صغير، كثدي الحياهْ
مت بالنار: أحرقت ظلماء طيني، فظل الإلهْ
كنت بدءاً، وفي البدء كان الفقيرْ
متُّ، كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ
كم حياة سأحيا: ففي كل حفرهْ
صرت مستقبلاً، صرت بذرهْ
صرت جيلاً من الناس، في كل قلبٍ دمي
قطرةٌ منه أو بعضُ قطرهْ
هكذا عدتُ، فاصفرَّ لمّا رآني يهوذا
فقد كنت سِرَّهْ
كان ظلّا، قد اسودَّ مني، وتمثالَ فكرهْ
جُمِّدت فيه واستُلَّتِ الروح منها
خاف أن تفضح الموت في ماء عينيه ...
(عيناه صخرهْ
راح فيها يواري عن الناس قبرهْ)
خاف من دفئها، من محالٍ عليه، فخبَّر عنها:
«أنت؟ أم ذاك ظلّي قد ابيضَّ وارفضَّ نوراً؟
أنت من عالم الموت تسعى؟ هو الموت مرهْ
هكذا قال آباؤنا، هكذا علّمونا، فهل كان زورا؟»
ذاك ما ظنّ لما رآني ، وقالته نظرهْ
قدمٌ تعدو، قدمٌ، قدمُ
القبر يكاد بوقع خطاها ينهدمُ
أترى جاءوا؟ من غيرهمُ؟
قدمٌ .. قدمٌ .. قدمُ
ألقيت الصخر على صدري
أوما صلبوني أمس؟ ... فها أنا في قبري
فليأتوا. إني في قبري
من يدري أني...؟ من يدري؟
ورفاق يهوذا! من سيصدق ما زعموا؟
قدمٌ قدمُ
ها أنا الآن عريان في قبري المظلمِ
كنت بالأمس ألتف كالظن، كالبرعمِ
تحت أكفاني الثلج يخضل زهر الدمِ
كنت كالظل بين الدجى و النهارْ
ثم فجرت نفسي كنوزاً فعرّيتها كالثمارْ
حين فصلت جيبي قماطاً وكُمِّي دثارْ
حين دفأت يوماً بلحمي عظام الصغار
حين عريت جرحي، وضمدت جرحاً سواه
حطم السور بيني وبين الإلهْ
فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي
فاجأوا كل ما ليس موتاً و إن كان في مقبرَهْ
فاجأوني كما فاجأ النخلة المثمرهَ
سربُ جَوْعَى من الطير في قريةٍ مقفرهْ
أعينُ البندقيات يأكلن دربي
شرعٌ تحلم النار فيها بصلبي
إن تكن من حديد ونار، فأحداق شعبي
من ضياء السموات، من ذكريات وحبِّ
تحمل العبءَ عني فيندى صليبي، فما أصغرهْ
ذلك الموت، موتي، وما أكبرهْ!
بعد أن سمروني وألقيت عيني نحو المدينهْ
كدت لا أعرف السهل والسور والمقبره
كان شئٌ، مدى ما ترى العين
كالغابة المزهرهْ
كان، في كل مرمى، صليب وأم حزينه
قُدِّسَ الربُّ!

هذا مخاض المدينهْ. 

من صفحة أسامة سلامة