كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من كتاب "غواية الذكريات"

جمانة طه

لم يفارقني القلق وأنا أطير في الفضاء الفسيح إلى النرويج، للمشاركة في مهرجان الثقافة السورية الذي يقيمه اتحاد الكتاب والمترجمين النروجيين. وكيف يفارقني، وبانتظاري مهمة صعبة لم أقم بمثلها من قبل؟ غدًا سأكون على موعد مع مجموعة من القساوسة النروجيين في محاضرة باللغة الإنكليزية عن الدين الإسلامي. محاضرة بهذا العنوان في زمن يعيش فيه العالم مرحلة تنافس وتناحر وتقاتل أيضًا، على الأرض والدين والهوية. شكَّلَ لي هذا الموعد قلقًا كبيرًا لأنها المرة الأولى التي أحاضر فيها على رجال دين مسيحيين بلغة ليست لغتي، تطلعًا إلى تضييق الشقة التي بيننا.
لقاء القساوسة
في الساعة الثالثة من ظهر اليوم الثلاثاء الواقع في 26 من شهر آب العام 2009م، أزف موعدي مع القساوسة في محاضرة عن الإسلام كانت فاتحة المهرجان. جمهور المحاضرة كان كبيرًا من القساوسة الرجال، تتقدمهم القسيسة رئيسة كنيسة مولدى. عرّفت لهم الدين الإسلامي وشرحت لهم مفهوم الإسلام وجوهره ومنهجه الاجتماعي والإنساني، ووضحت لهم بالدليل أنه يكفل الحرية الدينية لجميع الناس. وأنه ليس دينًا عدوانيًا ولا إرهابيًا ولا يمكن أن يكون، لأن الإنسان على اختلاف جنسه وعرقه ودينه هو غاية هذا الدين ومحور اهتمامه. وأشرت إلى أنَّ الإرهاب لا دين له، وإنما هو من صنيعة البشر على اختلاف انتمائهم الديني وتباين مواقعهم. كما وضحت لهم مكانة المسيح وأمه العذراء عليهما السلام في الدين والقرآن وعند المسلمين. أظهر الحضور تقبلهم لما سمعوه عن دين يجهلون حقيقته، وبرغم ضيق الوقت سآل أحدهم عن وضع المسيحيين في سورية ومسألة العيش المشترك، فأجبته بما نحن عليه حقًا من وئام ومحبة في مجتمع لا يفرق بين مسلم ومسيحي حياتيًا وقانونيًا. في المجمل شكلت المحاضرة محاولة قد تساعد في التخفيف من علو الأسوار، التي رفعتها حكومات الغرب بيننا وبين شعوبها. ونحن علينا أن نسمع الأوربيين خطابًا إسلاميًا معتدلًا بعيدًا عن التطرف، وندفع عنّا كراهيتهم لنا التي نشأت بسبب الفكر الإسلامي المتشدد الذي ظهر في الربع الأخير من القرن الماضي، وأضر بعقيدتنا وثقافتنا وأيضًا بقضايانا السياسية.
المشهد الثقافي في بلاد الشام
يوم الجمعة الموافق 28/8، كان موعد ندوتي عن المشهد الثقافي في بلاد الشام. التأم الحضور في قاعة بمبنى المسرح بإدارة أستاذة الأدب العربي الحديث في جامعة أوسلو (Gunvor Mejdell غونفر ميدل)، وكانت بين الحاضرين الدكتورة نوال السعداوي ضيفة المهرجان بوصفها شخصية مميزة فكرًا وإبداعًا. تناولتُ في ورقتي، التي قدمتها بالإنكليزية، المشهد الثقافي في بلاد الشام قبل معاهدة سايكس - بيكو وبعدها، وأهمية هذه البلاد من النواحي التاريخية والاجتماعية والسياسية وما قدمته للحضارة وللعالم ثقافيًا ومعرفيًا. وكانت واسطة العقد في الندوة سورية درة بلاد الشام وكنز إرثها الحضاري الثقافي والمعرفي، ودورها التاريخي والحضاري في انتشار الدين المسيحي إلى العالم. وفي كل هذا أردت أن أقول إن العرب ليسوا قومًا همجًا ولا قتلة، وإنما هم حفدة صناع حضارة قدمت للإنسانية أول أبجدية وأول نوتة موسيقية. وما درسوه في كتبهم وما تعلموه في مدارسهم، ليس سوى اعتقال للنور والحقيقة. بعد أن أنهيت موضوعي كان في انتظاري مفاجأة لم أحسب لها حسابًا، إذ طلبت مني الأستاذة ميدل أن أتشارك مع شابين نروجيين هما وائل جلاب المتحدر من أصول مصرية وغونستين بكّا، في محور عنوانه (من المتنبي إلى محمود درويش) والغاية من ذلك هي إتاحة الفرصة لهما ليتحدثا عن كتابهما الذي وضعاه عن محمود درويش. أبديت اندهاشي من عنوان الندوة واعتراضي عليه لأن شعر محمود درويش من حيث موضوعاته وبنيته الشعرية لا يُعد امتدادًا للمتنبي، وأشرت إلى ذلك في أثناء حديثي عن حياة المتنبي وشعره وأفكاره. ومن حسن الحظ أن ذاكرتي أسعفتني بقراءة سبعة أبيات من قصيدة (ما لنا كلنا جَوٍ يا رسول)، في حين تحدث الشابان باقتضاب عن الشاعر محمود درويش، ولم يقدما أي شاهد من أشعاره. ولم تكتفِ الأستاذة ميدل بهذا المحور بل جددت الحوار بموضوع عن اللغة العربية الفصيحة والدارجة، وأبدت تحمسها للدارجة وأنها يجب أن تسود في الكتابة والتعليم كما هي سائدة في التخاطب اليومي. وأيدها في رأيها وائل جلاب لأنه، بحسب قوله، لم يظهر في مصر شعراء كبار أمثال الذين ظهروا في بلاد الشام. فرددت فكرته، وذكرته بشعراء مصر الكبار مثل شوقي وحافظ والبارودي وغيرهم وأشعارهم التي هي امتدادًا لشعر المتنبي من حيث الصياغة العروضية والمتانة في السبك. وقلت لهم إن اللغة العربية المحكية على أهميتها، لا يمكن أن تكون بديلة عن الفصيحة التي تشكل وسيلة تواصل بين العرب في شتى بلدانهم.
الانطباعات الرائعة التي وصلتني من الحضور، جعلتني راضية جدًا عما قدمت. فقد فاجأتني صحفية شابة، بقولها: لقد وضعتني فوق السحاب في قراءتك لشعر المتنبي، بدرجة شعرت فيها بالحزن لأني لا أعرف العربية.
أما أكثر ما أسعدني فهو إطراء الصحفي النرويجي الشهير ( Odd Karsten Tveit أود كارستين تفيت)، وقوله لي: أنا شخصيًا أعرف كثيرًا عن بلاد الشام، زرت سورية وعشت في لبنان سنوات عديدة بحكم عملي كمراسل لصحف النرويج زمن الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي، لكن الموضوع الذي عرضته علينا رائع ومهم جدًا وقد أفدت منه، وفي رأيي يجب أن يتكرر في أماكن أخرى من النرويج. وأضاف: لقد أخبرت هيغا (مديرة المهرجان)، بأن مهرجان هذا العام هو الأفضل في تاريخ اتحاد الكتاب والمترجمين النروجيين.
والجميل أيضًا في هذه النشاطات أن حضور أي فعالية منها أدبية أو شعرية أو فكرية أو موسيقية يتم بشراء بطاقة، في حين أن المؤسسات الثقافية في بلداننا توجه الدعوات عن نشاطاتها للمثقفين وللعامة ويبخلون عليها بالحضور!