كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أول الدروس

قصة قصيرة
محمد صباح الحواصلي
واشنطن ١٩٩٣
عند منتصف الليل، تماماً بين حقول اليقطين وحظائر الأبقار المجاورة لملبنة (سمث اخوان) تعطلت سيارتي. طوقني ذهول مشوب بالخوف عندما سكت كل شيء في السيارة وانعدمت الأنوار وأمسى من المتعذر علي أن أدير المقود لكي أتمكن من جر سيارتي إلى حافة الطريق الترابي. دفعتها قليلاً عن الطريق العام الغارق في ظلمة مسحت معالم المكان ولم تبق إلا رائحة روث البقر التي تسكن فضاء وأنوف الأحياء السكنية جنوب مدينة "أبرن" ولا سيما أيام الصيف الرطبة.
أصغي إلى الصمت الداكن المنتشر في فراغ لا نهائي تشوبه برودة منتصف الليل. ذلك هو الوقت الذي طالما تمنيت ألا أكون أسير قبضته التي لا ترحم. تلفت فيما تراءت لي الاتجاهات كلها بحثاً عن خلاص لمأزقي، وقد تأهبت غريزة الخوف لبغتات المكان الذي عرفت – عندما وطأت قدمي مقاطعة (كينغ) – أن له اسماً آخر هو "الغرب الضاري". فهنا تسرح ضواري الغابات التي هربت من موطنها إثر سماعها أصوات مناشير شركة (ويرهاوزر) لقطع الأخشاب وهي تخترق أسفل جذوع الأشجار المعمّرة العملاقة فتهوي بطولها الأسطوري الواحدة تلو الأخرى لتلقى الأرضُ دوي سقوطها. هو ذا المكان إذن الذي التجأت إليه ضواري تلك الغابات التي بدت مسكينة مستضعفة أمام آلة المدنية الجبارة وجبروت الإنسان. هنا كنت أرى، بُعيد المساءات المغمورة في العتمة، بنات آوى والثعالب السلّالة وهي تندس تحت أسيجة المزارع بحثاً عن فريسة في أقنان الدجاج السائبة. لابد أن خوفي الحقيقي لم يكن مبعثه تلك الضواري التي لا تعتدي على الإنسان إن لم يعتد عليها، بل كان من الإنسان نفسه الذي من طبعه أن يعتدي دون أن يُعتدى عليه، والذي كثيراً ما سمعت وقرأت عن وحشيته في الغرب الضاري، ولا سيما عندما يكون الظلام غطاءً لكل الآثام، والعزلة شرطها المناسب. تلك هي إذن فرصة الآخر المناسبة للإعتداء مهما غلت أو رخصت الغنيمة.
لم يكن أمامي إلا أن أقف في مكاني مكتف اليدين، رجلاً وسط الظلام في بقعة مجهولة، ينتظر أن يأتيه الخلاص. لن يكون هذا الخلاص إلا قدوم سيارة أو شاحنة من الإتجاه الذي أتيت منه المُنْحَدر حتى طريق "أبرن" العام، أو من اتجاه شارع 277 – أو طريق اليقطين كما يحلو لي أن اسميه نسبة إلى مزارع اليقطين الممتدة على جانبي الطريق – لكن هذا الخلاص نفسه هو مكمن الخطر. إنه (الآخر)، المخيف والخائف. فكل منا هو ذلك (الآخر) بالنسبة للثاني.
وتبدّى لي شعاع ضوء سيارة باهت يهرول على طول الطريق الصاعد، ويشتد سطوعه كلما تقدمت السيارة حتى تبلغ مكاني فينقض ضوؤها على مساحة وقوفي مع سيارتي ليكشف لسائق السيارة القادمة عن شبحي المنتصب المجبول بصلصال الليل والعزلة. لوحت للسيارة القادمة أن تقف لي. حركة بلهاء. ولكن سرعان ما اندفعت السيارة من أمامي صاعدة الطريق بسرعة مجنونة، وقد بدا ضوؤها كنقطتين تذوبان في الظلام والبعد وكأنه كيان يهرب مني، فأدركت بسري أنه من الحمق أن يقف لي. ظللت أنظر إلى ضوء السيارة الذي أخذ في الذوبان في العتمة.
الإنتظار قد يطول إذن وسط هذا الكيان الليلي الذي دلج لتوه في دقائق اليوم التالي. كل شيء وراء هذه العتمة وبعيداً عنها يخلد للنوم، ومخلوقات أخرى، آدمية وغير آدمية، تنشط مع الظلام، آثمة أو ضالة أو جائعة، تبحث عن أسباب بقائها في شقاء الآخرين. قليلة هي السيارات في هذا الطريق الذي أراه خلال النهار ينبض بالحياة والألفة.. ومع قلتها يضعف الأمل ويتضاعف أحتمال الخطر. فها أنا قد أنتظرت أكثر من ساعة.. لا أدري شكل الإنقاذ الذي سينتشلني من هذه البقعة الحالكة السواد، الموحشة، ذات الصمت المريب، وقد أخذ بلل سديم منتصف الليل يترسب هيناً خفيفاً على أديم وجهي المجهد. خلال هذا الانتظار الذي تمطت ثوانيه وبدت دقائقه متناهية في البطء لم تمر إلا بضع سيارات وشاحنة واحدة أطلقت زمورها المتطاول الذي يصم الأذان فيما هي تتجاوز مكاني وكأنها تقول لي ابتعد عن الطريق أيها المأفون.. أوتنتظر من يقف لك أيها الأحمق؟
التفتُ إلى الطريق الصاعد وقد خطر لي أن (ثائر) الذي أنزل في شقته قد استفقد غيابي.. عله يخطر على باله أنني مرمي في بقعة ما في الطريق بين البيت والسوبرماركت الذي أعمل به.
صاحبي غير مضطر أن يتذكر أن سيارتي العتيقة التي انتشلها (ثائر) من موتها المحتوم في مزابل السيارات وأعادها إلى الحياة بالقليل من الدولارات، قد خذلتني فيما أنا عائد للبيت. أنا هنا يا صاحبي.. أتسمعني.. أنا هنا قريب من حقول اليقطين وحظائر الأبقار التي نشتري منها الحليب طازجاً.
ومن بعيد، عبر الطريق الصاعد، يلوح لي من جديد ضوء باهت على طول أفق الطريق. لكنه هذه المرة على الرغم من بعده الذي قد يتجاوز نصف ميل، كان مصحوباً بضجيج محرك متعب، يذكرني بمحرك سيارتي. اشتد صعود الضوء واشتدت جلبة محرك السيارة حتى بانت عند استواء الطريق وهي تدفع نفسها وكأنها جسد مصدور أنهكه الصعود. ها هي تقترب مني.. ألوح لها ملهوفاً متأهباً، وقد اختلطت بأعماقي غريزة الخوف مع رغبة الخلاص. اختلف صوت محرك السيارة قبل أن يصل نحوي فأدركت أن السيارة تخفف من سرعتها، وأنني على وشك أن أواجه للمرة الأولى هذا الضرب من الخطر.. هكذا تماماً تبدأ الحوادث التي تصدّع القلوب حزناً، وتنشر الرعب في قلب المدن وضواحيها. جنحتْ السيارة نحوي وطل سائقها من مقعده نحوي وأنا واقف أمامه ببذلتي وبيدي حقيبة السمسونايت. وكأني به يتساءل من يكون هذا الشبح الأنيق في مثل هذا الوقت من الليل؟ وأنا بدوري تساءلت من يكون هذا السائق الذي لم يبدو عليه الخوف أو حتى الحذر؟ تبادلنا النظرات في الظلام ثم بادرني السائق بالسؤال:
"هل تريد أية مساعدة؟"
"تعطلت سيارتي وأكون ممتناً لك إن أوصلتني إلى أعلى الهضبة عند شارع الباسفيك."
"أصعد.."
تلك هي الخطوة الأولى. لا، ربما تكون الثانية، لأن الأولى هي ظهور السيارة ووقوفها. ركبتُ السيارة، فكان أول ما غمرني هو رائحة دفء فاسد مخلوط بأنفاس مخمورة وطبقات من دخان السجائر الممزوج برائحة جسده التي تحمل عبق مهنة ما لم اتبينها.
قلت له: "صعب أن ينتظر الإنسان وقتاً طويلاً في مكان مظلم غير مأهول."
أجابني السائق الذي لم يظهر من ملامحه إلا قبعة وجسد على شيء من البدانة:
"أين تريدني أو أوصلك؟"
"مجمع (وترستون) السكني عند شارع الباسفيك."
ثم عاد السائق إلى صمته. صمت مريب لا تتخلله كلمات المجاملة، أو لعله صمت مخمور متعب. وظللت حذراً متأهباً لصد أي حركة مشبوهة ستشرع من يد السائق اليمنى القريبة مني. لو امتدت يد السائق إلى جيبه يكون قد بدأ المكروه. لكن اليد لم تمتد إلى جيبه بل إلى الأعلى خلف غطاء الشمس ليخرج علبة سجائر قائلا:
"سيجارة؟"
"لا شكراً.. لا أدخن."
أشعل سيجارته وسعل بعنف وعاد إلى هدوئه الذي أخذ ينشر بعضاً من الطمأنينة في نفسي التي بدأت تألف جو السيارة الفاسد، وأرخيت بدني المتوتر.. وما أن وجد الارتياح طريقه إلى نفسي حتى أبرق عقلي لكافة حواسي أن تتأهب من جديد لدفع أي محاولة اعتداء ممكنة. وقد لمحت بطرف عيني التفاتة قصيرة من السائق إلي. أتراه يدرس فريسته قبل الانقضاض عليها؟ أم تراه يقدر طريق ضربته التي ستباغتني؟ أو ربما سيخرج مطواة يدسها في خاصرتي، أو مسدساً يشرعه صوب صدغي؟ احتمالات لا مهرب من تصورها، ولا مناص من أن تزيد من ضربات قلبي وتسرع من أنفاسي. لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وغاب الطريق المظلم وراء السيارة التي شرعت تسير في طريق تنيره أعمدة الكهرباء وتقطعه إشارات المرور، وبدأ إحساس الأمان بكثير من الغرابة والإندهاش يعود إلى نفسي.
"هو ذا المجمع السكني.." قلت للسائق غير مصدق أن رحلتي انتهت دون احتمالات الخطر التي كانت ممكنة خلال الألف ساعة التي قضيتها في هذه السيارة خلال الدقائق العشرة الماضية.
دخلت السيارة المجمع وسارت حتى وصلت أمام البناء (M 21)
"هنا من فضلك."
وقفت السيارة ومددت يدي مصافحاً الرجل الذي بدت ملامحة أكثر وضوحاً لأول مرة تحت مصباح البناء الأصفر، رجل عله في الأربعين، وغضون وجهه مرهقة، وملامحه لا توحي بالثقة وعينه اليمني بيضاء مطفأة.
"أشكرك على ايصالي."
وشددت على يد السائق الخشنة ممتناً ونزلت من السيارة. وفيما أنا أخطو الخطوة الأولى بعيداً عن سيارته، سمعته يناديني:
"مستر.."
التفت إليه وقد عاودني الحذر، ونظرت إليه دون أن تنبس شفتاي بكلمة وأنا أصغي إليه:
"احذر من أن تركب مع أحد مرة أخرى، ولا سيما في الليل.. انتظر أول سيارة شرطة تعبر الطريق، وإن لم تمر ابق داخل سيارتك حتى يطلع الصباح."
"شكراً على نصيحتك.."
"أنت محظوظ هذه المرة أيها السيد."

وغابت السيارة بجلبة محركها المتعب مخلفة وراءها دخان كثيف أزرق اللون له رائحة احتراق غير كامل، وانطوى الليل بحكاياته.. لا ينقصه إلا حكاية واحدة لم تكتب.