كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"أحمدُ اللّهَ على العَمى حتّى لا أرى الثُّقَلاءَ".. أبو العلاء المعرّيّ

محسن سلامة- فينكس

. أحمدُ اللّهَ على العَمى حتّى لا أرى الثُّقَلاءَ
. إنّهُ
- أبو العلاء المعرّيّ
__ أحمد بن عبد الله بن سليمان، تنوخيّ النسب من قحطان، خرج إلى الدنيا والشمس غاربة، والنهار مدبر يوم الجمعة 363 هجريّة، فقد أُصيبَ بالجُدَريّ في الثالثة من عمره فذهب بيسرى عينيه، وعمي في السنة الرابعة:
قُضِيَ عليَّ وأنا ابنُ أربعٍ لا أفرّقُ بين البازلِ والرُّبَعِ
كان يقول: أنا أحمدُ اللّه على العمى كما يحمده غيري على البصر حتّى لا أرى الثّقلاء:قد تكون صورة ‏نصب تذكاري‏
قالوا: العمى منظرٌ قبيحٌ قلتُ بفقدانكم يهونُ
كان يقول:
دُعيتُ أبا العلاء وذاكَ مينٌ ولكنّ الصحيح أبو النزولِ
لا يتذكّر إلّا اللون الأحمر لأنّه لبس ثوباً أحمر أثناء علّته،
استعاض عن فقد بصره بحدّة باصرته، لم يسمع شيئاً إلّا حفظه،
أبوه من العلماء، وأجداده تولّوا القضاء، كانت الفتاوى في بيتهم على المذهب الشافعيّ.
-زار في حداثته بلاد الشام كلّها يتلقّى العلوم من رجالاتها. وقد روى ياقوت الحمويّ في كتابه الشهير معجم البلدان:
زار أبو العلاء اللاذقيّة، وكان للمسلمين فيها مسجدٌ وقاضٍ، فإذا أذّنَ المؤذّنُ، دقّ الرّوم نواقيسهم كياداً لهم، فقال أبو العلاء:
في اللاذقيّة ضجّةٌ ما بين أحمد والمسيح
قسٌّ يعالجُ دلبةً والشيخُ من حنقٍ يصيح
كلٌّ يعزّزُ دينَهُ ياليت شعري ماالصحيح
-كانت الدنيا لاتتّسع لفرط طموحه ومواهبه، كان يقول:
وإنّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائل
-هاجر إلى بغداد في الخامسة والثلاثين من عمره، فعليها أن تعترف به وبمجده وطموحه.
أخذ الشريف المرتضى في بغداد يتنقّص من مكانة المتنبّي، وأبو العلاء ساكت على مضض، بالغ الشريف المرتضى بالذّمّ، وكان المتنبّي الأب الروحيّ للشاعر أبي العلاء، فقال أبو العلاء: يكفي المتنبّي فضلاً قوله:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ
فوجئ الحضور بغضب الشريف المرتضى، وأمر بسحبِ أبي العلاء برجليه ورميه في الشارع، وقال لمن بحضرته: أراد هذا الأعمى البيت الذي يلي الشّطر السابق:
وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأنّي كاملُ
وهكذا كانت نهاية الشاعر في بغداد، فعاد إلى المعرّة ولزم بيته، ولقّبَ نفسه برهين المحبسين، وقال:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسألْ عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث
-قال أبو العلاء في الإمام عليّ بن أبي طالب أجمل ما قيل في رجل على وجه الأرص، مندّداً باغتيال الإمام عليّ وبمن قتل نجله شهيد كربلاء الحُسَين:
عللّاني فإنّ بيضَ الأماني فَنِيَتْ و الظّلامُ ليس بفانِ
كم أردْنا ذاكَ الزّمانَ بمدحٍ فَشُغِلْنا بذمّ ذاكَ الزّمانِ
وعلى الأفق من دماء الشهيدينِ عليٍّ ونجلِهِ شاهدانِ
فهما في أواخر الليلِ فجرا نِ وفي أوليائهِ شفقانِ
يا بنَ مستعرضِ الصّفوفِ ببدرٍ و مبيدِ الجموعِ من غطَفانِ
أحدِ الخمسةِ الذين هم الأغراضِ في كلّ منطقٍ والمعاني
والشّخوصِ التي خُلِقْنَ ضياءً قبلَ خَلْقِ المرّيخ والميزانِ
قبلَ أن تُخْلَقَ السماواتُ أو تُؤْ مرَ أفلاكهنَّ بالدّورانِ
-كان المعرّيّ ملمّاً بالمذاهب والعقائد والتاريخ واللغة والأدب والفلسفة حتّى أنّ التبريزيّ قال فيه: لم تنطق العرب بكلمة إلّا وكان أبو العلاء يعرفها.
ساعدت عزلته وعماه على أن يكون متشائماً، فشكّ بكثير ممّا تواضع عليه المجتمع، وهو الذي يقول عندما وصفوا له في مرضه طير الحمام:
استضعفوك فوصفوك، هلّا وصفوا شبل الأسد
-سبق المعرّيّ المبصرين في الوصف، يقول في تشبيه الليل بعروس من الزنج يجمع بينهما السواد:
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائدٌ من جمانِ
هربَ النومُ عن جفوني فيها هربَ الأمن عن فؤاد الجبانِ
ومن روائع ما قال في قيمة الحياة إزاء الموت والموتى:
صاح هذي قبورُرنا تملأُ الرحبَ فأين القبورُ من عهد عادِ
خفّفِ الوطءَ ما أظنُّ أديم الأرض إلّا من هذه الأجساد
ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ إلّا من راغبٍ في ازدباد
-جاوز الشاعر الثمانين من عمره، وقد ترك وصيّة، وهي أن يكتبوا على قبره:
هذا جناهْ أبي عليَّ وما جنيْتُ على أحدْ