تمفصل الكارثة.. ثنائية "الكارثة والبطولة" والإبادة في غزة
أحمد أشقر- فلسطين المحتلة- فينكس
لا يهتم العرب العامة والخاصة، بكارثة اليهود في ألمانيا النازيّة، وأوروبا وتأثيراتها العميقة على مجريات عدم التوصل إلى 'حلّ للصراع' العربي- اليهودي. فهم أغفلوا هذه القضيّة وأخلوا الساحة لليهود ومؤيديهم وحدهم، وفهموها في سياق الصراع معهم. لذا يحاول هذا المقال كشف وشرح عمق وكارثيّة الأسباب الحقيقيّة التي تدفع "إسرائيل" لتخليد ذكرى كارثة اليهود في اليوم الذي يسبق ذكرى نكبة عرب فلسطين واحتفالها بذكرى <استقلالها> في يومين متتالييّن بثنائية "الكارثة والبطولة (في 14 و15 أيار بحسب التقويم العبري من كل سنة)". وعلاقة هذه الثنائيّة بتناسي الكارثة وجرّ كل العداء لألمانيا النازيّة وحلفائها، وتحويله لعداء للعرب تعمل به كل مؤسسات الدولة، تحديداً السياسيّة والتربويّة منها. وهنا نشير إلى النقلة الحرجة والهامة والقول- إن هذا العداء أدى لقيام دولة اليهود بحرب إبادة على قضاء غزّة منذ بدء طوفان الأقصى إلى يومنا الراهن دون توقف. وسيقوم هذا المقال باستنطاق البروفيسور "دَنييل با- طال" المتخصص بتأثير التربيّة النفسيّة على الصراعات التي لم تجدّ حلاً بعد. كما سيذكر المقارنة البسيطة أو ألمحاكاة التي أجرتها "إسرائيل" قبل عملية الإبادة في قطاع غزّة، منذ حصارها له سنة 2007، بما فعله النازيون في معسكرات الاعتقال قبل "الحلّ النهائي" لإبادة اليهود سنة 1941. وفي الختام سيشير المقال إلى أهمية قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدارها قرار اعتقال بحق كل من "نتنياهو" ووزير حرب الكيان "يوآف غالانت".
هنا علينا أن نؤكد على ما يلي: تتم تربية أجيال يهود العالم والمُستعمرين اليهود في فلسطين على هذه الثنائية. كما يتم تخوفهم وتحذيرهم من عدم تكرار الكارثة مرّة أخرى، من قبل العرب والمُسلمين الذين يناضلون من أجل تحرير فلسطين والجولان السوري المُحتليّن. لذا عليهم القيام بكل شيء لمنع العرب من القيام بكارثة ثانية، حتى لو قاموا هم بممارسات نازيّة، لأنهم باتوا يملكون حقّ الدفاع عن النفس- هذه الفكرة التي يجب تسليط الضوء عليها عند الحديث عن "الكارثة والبطولة" في قراءة هذا المقال.
1- تُعدّ كارثة اليهود في أوروبا على أيدي ألمانيا النازية وعملائها في بعض دول أوروبا الشرقية (أوكرانيا وبولندا على سبيل المثال) أهم حدث مؤسس في السردية اليهودية- الصهيونية- "الإسرائيليّة". فقد عملت "الصهيونية على إقناع اليهود بأن إقامة دولة إسرائيل هي "حاجة وضرورة" (وكأنها "واجب الوجود") لا نقاش حولها، يعود إليها، (إلى وطنه)، "اليهودي الجديد مقابل اليهودي القديم" الذي قضى نحبه في الهولوكست- كما كتبت المؤرخة "أنيتا شبيرا" سنة 1977- هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى- عملت على كيّ الوعي الجمعي من حيث الكراهية والعداء للعرب حتى باتت الأكثر تأثيراً في ما يخص مجريات الصراع العربي- اليهودي. فقد بنت "إسرائيل" سرديتها على التخويف من تكرار تلك الكارثة مرة أخرى في سياق الصراع العربي- اليهودي؛ وتحويل الكراهية والعداء إلى عنف منفلت من عقاله تجاه العرب ونضالهم القومي التحرري- كما يتجلى الآن في حرب الإبادة التي تشنه إسرائيل على قضاء غزة ولبنان- كما سنرى لاحقاً.
2- بعد 4 سنوات من قيام الكيان، أي عام 1952، وقعّت "إسرائيل" اتفاق التعويضات المالية مع ألمانيا الغربيّة. وفي سنة 1956 أقامت "إسرائيل" علاقات دبلوماسية، تجارية وثقافية مع ألمانيا. وبدأت بالحصول على تعويضات للناجين منها. كما حصلت ولا تزال على مساعدات ماليّة، صناعية، عسكريّة وأكاديميّة أخرى، الأمر الذي أسهم كثيراً في تطورها. وتقدر هذه المساعدات بمئات مليارات الدولارت. هذا ناهيك عن الدعم السياسي في المحافل الدولية المختلفة، إلى درجة أن وزيرة الخارجية الألمانية "أنالينا بيربوك" أعلنت أمام البرلمان الألماني أنها تؤيد استهداف الأبرياء من أجل البحث عن مقاومين، وكأنها لا تزال في فترة الرايخ الثالث.
3- في سنة 1953 سّنت الكنيست "الإسرائيليّة" قانوناً لتخليد ذكرى ضحايا الكارثة أسمته بـ"يوم الكارثة والبطولة". وتعمّدت أن يسبق يوم الكارثة ونشاطاته (في 14 أيار) يوم "الإستقلال" (في 15 أيار بحسب التقويم العبري من كل سنة)، أي ذكرى نكبة عرب فلسطين سنة 1948. هنا يُطرح السؤال الأهم والأكثر خطورة على العرب- ما هي محرقة يهود ألمانيا وأوروبا بنكبة ومأساة عرب فلسطين وهزيمتهم؟ ولماذا قررت "إسرائيل" أن يكون يوم حزنها لصيقاً وضمن ثنائيّة بذكرى انتصارها واقترافها جريمة نكبة عرب فلسطين وأحزانهم المتواصلة؟ هنا يمكن القول بناء على ثنائية "الكارثة والبطولة" إن الهدف هو جعل الكارثة وانتصارهم في سياق الصراع العربي- اليهودي، لإنتاج رافعة سيكولوجية- تربويّة لتذويت وشرعنة كراهيتهم للعرب والمسلمين وممارسة العنف ضدهم، والقول إن مقاومة العرب لدولة ومشروع اليهود الاستعماري وكيانهم في فلسطين هو محاولة إبادة ثانية- كما تتردد عند النخب اليهوديّة المختلفة في الكيان. وتكثفت هذه الثيمة منذ طوفان الأقصى..
4- في سياق اهتمام الدولة بتخليد ذكرى الكارثة، اهتم القادة السياسيون والعسكريون، كل بحسب فهمه، من خلال تصريحات قد تكون غريبة و"تبخيس" ذكراها- كما يقول نقادهم. هنا نذكر بعض هذه التصريحات لهؤلاء القادة: فقد قال رئيس الدولة السابق "رؤوبين رفلين": يوجد لكل واحد منّا رقم على يده (أي أن كل اليهود شركاء في ذكرى الكارثة وقد يواجهونها مرة أخرى). أما "يسرائل كاتس"، وزير الحرب الحالي، ووزير المواصلات السابق فقد ربطها بتحديث شبكة القطارات قائلاً: "كل قطار هنا هو جواب على قطار من الكارثة" (علماً أن شركات صينية وتركيّة وأجنبية أخرى هي التي تنفذ وتمول شبكة القطارات في الكيان). وأثناء جائحة الكورونا ربط "نتنياهو" في 20 نيسان 2020 بين الكارثة والكورونا وضرورة محاربتها. في المقابل استحضرها بعض معارضي اللقاحات على أنها محاولة إبادة جماعية..
كذلك حضرت الكارثة في الخلافات السياسيّة الداخلية- في الذكرى السنوية الثانية أي سنة 1997 اغتيال "رابين"، حيث أعد أتباعه ملصقاً مقسماً إلى قسمين، العلوي منه يحمل صورة "رابين" بخلفية زرقاء وبيضاء (إشارة إلى علم الدولة) والأسفل صورة "نتنياهو" بالألوان الأصفر والأسود، إشارة لعلم النازية.. وتصريحات بالآلاف من هذه الشاكلة الني يمكن أن نجدها.
وأخطر ما قيل في هذا السياق هو الافتراء التي أطلقه "نتنياهو" بحقّ الحاج أمين الحسيني، بأنه هو الذي أقنع "هتلر" بإبادة اليهود.
لم يقتصر الأمر على ما تقدم به مسؤولون وشخصيات، بل تعداها ليصل إلى قادة الجيش الذين يزورون ألمانيا للمشاركة في نشاطات ذكرى الكارثة فنسمعهم يرددون قائلين: لو كان الجيش "الإسرائيلي" هنا لما حدثت الكارثة!
في المقابل يقول رجال الدين الحريديم أن الكارثة هي عقاب من الله على ما اقترفه اليهود من خطايا.
5- في بداية نشأة الكيان لم يحظ الناجون من الكارثة الذين تم استجلابهم من أوطانهم الأصلية إلى "دولة اليهود" بالتعاطف والاحترام الكافيين، بل على العكس فقد نظر إليهم المستعمرون اليهود الذين لم يختبروا الكارثة باحتقار وازدراء لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم، ولأنهم، أي الناجين، قاموا بأعمال مهينة مثل العمل التجاري في المعتقلات لصالح الضباط النازيين، والتجسس والوشاية للحصول على امتيازات غذائية، والبغاء مثلاً- فقد كانت الشكوك تحيط بقطاع واسع من الناجيات بأنهن عملن بغايا في معسكرات الاعتقال. ولم تتغير هذه الصورة عنهم إلا بعد محاكمة أيخمان سنة 1961 وقيام بعض الناجين بالإدلاء بشهاداتهم في المحكمة. وفي ثمانينات القرن الماضي وخروج الجيل الثاني من الناجين إلى التقاعد وانخراطهم في الحياة العامة لتخليد ذكرى الكارثة، بدأ الاهتمام الجدي بها فوصل إلى مستويات عالية يتم فيها استخدام كل المناهج البحثية والتقنيات الفنيّة التي تؤثر على كل يهودي في الكيان من جميع الأعراق. ووصل بعضها إلى العرب أثناء دراستهم (موضوع عرب فلسطين وتخليد ذكرى الكارثة فله باب خاص لن أتطرق في هذا المقال). كما يمكن ملاحظة تدريس تاريخ أوروبا في الجامعات الإسرائيلية وكأنه جزء من تاريخ "إسرائيل" وليس تاريخ اليهود في أوروبا.
6- أثناء محاكمة "آيخمان" عمل "بن غوريون" الذي كان رئيس حكومة الكيان آنذاك على إبعاد أية شبهة وعلاقة بين ألمانيا الجديدة والنازيّة. فقد أعطى تعليماته لمحرري وسائل الإعلام والصحف والكتّاب على ضرورة صياغة الأخبار بشأن "ألمانيا النازيّة" وعدم ذكر تسمية "ألمانيا" وحدها، بل "ألمانيا النازيّة" لسببين- الأول؛ أراد أن يفصل اليهودي المُستعمر "الجديد" عن اليهودي الشتاتي"- كما جاء عند "أنيتا شبيرا". والثاني؛ لأنه كان يدرك سياق تطور ألمانيا الاقتصادي ودورها السياسي المحوري في أوروبا والمنطقة. لذا عمل على عدم استفزاز "ألمانيا ما بعد النازيّة" لحصول "إسرائيل" على مبتغاها منها وابتزازها ماليّا والحصول على الدعم العسكري وفي المحافل الدوليّة.
7- سمعنا في السنوات الأولى لنشأة الكيان تنظيرات نازيّة في سياق الصراع العربي- اليهودي للتعامل مع العرب. دعونا نستمع الآن لـما يسمى "أبو اليسار الإسرائيلي"، المفكر والمتصوف اليهودي (مارتن بوبر/ 1887- 1965): "يبدأ من القصة التالية: "يقولون إن (ماكس نوردو 1849- 1923) جاء ذات مرة إلى هرتسل مذعورا وقال: سمعت أنه في أرض إسرائيل يوجد سكان عرب، إذا كان الأمر كذلك، فالعدل ليس إلى جانبنا!"؛ وبدأ بوبر في الحديث: "إذا صحّت هذه المقولة نكتشف فيها بساطة عجيبة الحياة، من كونها حياة، مقرونة بالظلم. أعتقد أن أنكسمندر (فيلسوف يوناني من القرن الرابع قبل الميلاد)، قال على ما يبدو، إن وجودنا الإنساني فيه ظلم تجاه وجود 'الكلّ'. على كل حال، لا توجد حياة دون إبادة حياة. فإذا تمعنّا جيداً، نلاحظ في كل لحظة يسرق كل منا إنسان 'مجال حياته'". ويضيف: "خلال فترة مشروعنا، الذي كان عمليّا احتلالاً بطرق سلمية، لم يفكر الأحسن بيننا بالبقاء دون ردّ في حرب وجودنا الوطني، بما أننا أتينا [إلى فلسطين] لضمان مكان لأجيالنا القادمة، لذا كنا مجبرين على تضييق المكان للأجيال القادمة للشعب العربي". عمليّا هذا هو منطق النازية، التي عانى منها يهود ألمانيا وأوروبا كثيرا وكادت تنهي وجودهم البشري لولا انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية في تلك الحرب.. ومن ثم إن العرب الفلسطينيين يؤدون هنا دور "كبش فداء" كلاسيكي (Homo Sacer).
8- في السياق ذاته، بشأن وجود نازيّة في الكيان- عرضت القناة 13 مساء التاسع والعشرين من شهر نيسان 2019 تقريراً يكشف فيه عن وجود يهود يعترفون صراحة بأنهم نازيون. في التقرير المذكور اعترف الرابي (الحاخام) (إليعازر قتشئيل) أنه نازي ويؤيد نظرية "هتلر" في التفوّق العرقي. والرابي (قتشئيل) هو رئيس المدرسة الدينية- أو المثيبة، كما ترد في الأدبيات العربية القديمة- (بني دافيد) في مستعمرة (عيلي) في الضفة الغربية، عشية احتفالات "إسرائيل" بذكرى النصر على النازية (وكأنها هي التي حاربت وانتصرت). فقال: "نحن أفضل من غيرنا، والأفضل أن تكون عبدًا لدى يهودي، فهم سعداء بأن يكونوا عبيدًا". (...) و"توجد حولنا شعوب تعاني مشكلات جينيّة (هكذا ادعى النازيون عن اليهود أيضاً). العربي يريد أن يكون تحت الاحتلال لأنه يوجد لدى العرب مشكلة جينية، فهم لايعرفون كيف يديرون دولة، ولا يعرفون فعل أي شيء. أنظر الى شكلهم" [(غالبيّة الكاريكاتيرات النازيّة عيّرت اليهود بأشكالهم)]. و"هناك أعراق في العالم، توجد ميزات جينية لدى الشعوب، وهذا يتطلب منا أن نفكر كيف نساعدهم، فاليهود هم عرق أنجح من غيره"! [(وهذا ما قاله النازيون أيضاً)] (...). أما زميله الرابي (جيورا رادلر)، الذي يدرّس في المدرسة الدينية ذاتها، فسُمع يقول في إحدى المحاضرات إن "هتلر كان على حق"! (...) وأضاف: "هو محق بالأيديولوجيا. هناك عالم رجولي يحارب، ويسعى للاحترام وأخوّة الشعوب، ويوجد العالم النسوي الضعيف، الأخلاقي، الذي يدعو لتقديم الخدّ الآخر للضرب، ونحن نعتقد أن اليهود هم الذين يحملون هذا الميراث، ولذلك فهم العدو الحقيقي. وهو محق مائة بالمائة. عدا عن ذلك فهو لم يكن على حق".
قبل أن يعترف (قتشئيل) و(رادلر) بأنهما يؤيدان التفوّق العرقي النازي تحديداً (هناك تفوق عرقي يهودي- مقابل الجوييم) وكان الدكتور الرابي (يونتان فرينتس) قد بارك صعود النازية وأيّد مبدأ التفوق العرقي النازي في كتاب نشره سنة 1934 وأسماه "نحن اليهود"، وجاء فيه: "سيتحوّل معنى الثورة الألمانية للأمة الألمانية في نهاية المطاف عن الذين أوجدوها وشكلّوا صورتها. إن أهميتها بالنسبة لنا يجب أن تُقال هنا بوضوح: لقد ضاعت أصول الليبرالية. والشكل الوحيد للحياة السياسية التي ساعدت على اندماج اليهود غرقت واختفت". هذا ما أورده الكيميائي والباحث في اليهودية، (يسرائيل شاحك) في كتابه الشهير اليهودية وطأة ثلاثة آلاف عام (الصادر سنة 1991 بالإنكليزية، وبالعربية سنة 1996 وبالعبرية سنة 2011)، ويذكر فيه (شاحك) أن الغالبيّة العظمى من القادة الصهاينة كانوا سعداء بمبدأ التفوّق العرقي. وينتمي كل من (قتشئيل) و(رادلر) لتيار "الصهيونيّة القومجية الدينية" التي يتزعمها "بن غفير" في الحكومة الفاشنازية الحالية.
9- هنا سنقوم باستنطاق "دَنييل بار- طال" عن تأثير استخدام ذكرى الكارثة على الصراع العربي- اليهودي. "بار- طال"، بروفيسور متقاعد في جامعة تل أبيبن ومتخصص في بحث الأبعاد التربوية والنفسيّة للصراعات الإثنيّة غير المحلولة وعلاقاتها مع عمليات التسوية والسلام. في مقابلة له مع الكاتب وعضو الكنيست السابق، "يزهار بئير"، في (هآرتس 11. آذار 2024) أثناء حرب الإبادة على قضاء غزة- يقول ما يلي:
"تشرح في أبحاثك كيف طوّر المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة آليات للحفاظ على إرث الكارثة لتلبية الاحتياجات القومية. ما هي الطرق التي يمكن للإسرائيليين أن يستخدموها كمدماك في بناء علاقتنا مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"؟
- "تسمح على سبيل المثال، أن تفعل 'الفصل الأخلاقي'. الذي يسمى أيضا 'ذاكرة أخلاقيّة'. أي لأنك كنت ضحية، يمكنك القيام بأشياء غير أخلاقية لمجموعة أخرى. يجب [على جميع منتقدينا] أن يصمتوا، لأنهم خلال الكارثة لم يتدخلوا وسمحوا بموت 6 ملايين شخص، لذلك ليس لديهم اليوم الحق في الكلام". هكذا فصل اليهود بين ممارساتهم القمعيّة والإبادة في غزّة عن أية نزعه أخلاقيّة أو وازع ضميري يحتفظون به القليل من الإنسانيّة وأعطوا لأنفسم الحق في الإبادة.
هل يمكن لهذا أن يفسر الدعم الجماهري الواسع لممارسات الجيش القاسية في غزّة؟
- "تقريباً كل العمليات العسكريّة للجيش في غزّة على طول السنين حظيت بدعم جماهيري يتراوح ما بين 88- 90%". هذا يفسر النسبة العالية من اليهود الذين يؤيدون حرب الإبادة التي بلغت في بدايتها وقبل أن تتعثر أهدافها إلى 94% في أيار 2024 بحسب معهد "بيو" الأمريكي لاستطلاعات الرأي!
وقد استخدم كل رؤساء حكومات إسرائيل، دون استثناء، الكارثة لأغراض سياسيّة.
"قمت بتحليل، على سبيل المثال، كل خطابات نتنياهو وعنده الأمن [انعدام الأمن] بارز جداً. فالأمن هو الثيمة الأكثر أهميّة في كل تلك الخطابات. فهو يدّعي أن انعدام الأمن نابع من اللاسامية، والكارثة وأحداث أخرى على تلك الشاكلة. بعد ذلك يعرض نفسه بأنه "السيد أمن"، وأن بإمكانه أن يجلب الأمن لشعب إسرائيل".
"قُلت إن مؤسسات الدولة تستغل الكارثة استغلالاً سيئاً لبناء وعي يخدم الأهداف السياسيّة للقيادة السياسية الإسرائيليّة. كيف؟"
"قبل كل شيء، تم الإعلاء من شأن الجيش، الذي يدافع عنا لذا يجب التجند له، وسرب الطيران المعروف الذي يطير فوق أوشفيتس الذي يُعدّ الرمز الأبرز لهذا. هذا معناه، لو كنّا مثل اليوم وكان لنا جيش ، لم يكن ليحدث مثلما حدث في الكارثة. لذا يمكن القول إنه في السابع من أكتوبر، تم تدمير هذا الإيمان بالكامل. فالناس انتظروا الجيش يوماً كاملاً تقريباً. هذا يعني أنه في الكارثة لم يكن لنا جيش، وهنا كان لنا جيش لم يتم تفعيله ولم يصل إلى الكيبوتسات [مستعمرات النقب الغربي]". من هذا نفهم كيفيّة اختراع اليهود صفة "الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم"، الذي نفى عنه قائده السابق، "بوجي يعلون" هذه الصفة بقوله أن الجيش لم يعد الأكثر أخلاقية في العالم وأنه يمارس التطهير العرقي. وكيفيّة تماهي الرأي العالمي مع هذا المفهوم. هذا عدا عن ضرورة التجند له، وكلما التحق الشاب اليهودي بوحدة قتاليّة أو سلاح البحريّة أو الطيران تُصبح مكانته أعلى في أعين البيئة المحيطة به.
هل ترى فرقاً بين الاستخدام السياسي في مصطلحات الكارثة والضحايا من قبل الحكومة الحاليّة وبين الحكومات التي سبقتها؟
- "لقد استخدم جميع رؤساء الوزراء تقريبًا الصور ذاتها في يوم الكارثة. حتى رابين تحدث عن الكارثة التي يمكن أن تتكرر، لأنها لا تقتصر على الزمان والمكان. وبالتالي، فهي نفسها ليست من صنع نتنياهو. فقد استخدمتها غولدا أيضًا على سبيل المثال في المحادثة الشهيرة عندما قالت: 'نحن جيل تريبلينكا' [معسكر اعتقال في تشيكوسلوفاكيا]. هكذا حوّل اليهود الكارثة إلى عقيدة يجب الإيمان بها ولا تهمهم أيّا كانت النتائج.
لقد شرحت وقلت إن التربية والحفاظ على تراث الكارثة كواحد من العوائق للسلام والتسوية مقابل الطرف الآخر. كأنك تجد عوائق أخرى للتسوية عندنا؟
- "التهديد" هو مفهوم نفسي، يحتل حيّزاً كبيراً في المفاهيم النفسية عند الجمهور الإسرائيلي- اليهودي. فالناس يقولون: شخصيا أنا مستعد للتنازل عن الجدار والضفة والقدس، لكنني لا أثق بالفلسطينيين. أعتقد أنهم مستعدون كما يقولون عندنا، أن يطعنونا من الخلف". هذا ما يؤكد التأثير العميق لتخليد ذكرى الكارثة على استعصاء حل الصراع مع اليهود حتى لو كان ضمن "الإتفاقيات الأبرَهاميّة" التي جردت العربي في فلسطين من حقّه فيها.
شاركت في المقابلة الصحفية المذكورة، ابنته "نوعا" التي تبلغ من العمر 19 سنة. فتقدم "بئير" بالحديث معها فسألها قائلاً: إن زيارة أبناء الشبيبة [إلى المعسكرات النازية سابقاً] تربطهم بالانتماء الوطني ويعطيهم الدافعيّة للخدمة الوطنيّة والتجند للجيش، ما هي المشكلة التي تجدينها في ذلك؟
- "إن عقلية الضحية هي أداة تمكننا، إن جاز التعبير، من القيام بأشياء غير أخلاقية. وفي النهاية، أصبحت الكارثة أيضًا أداة سياسية. وأعتقد أن هذا ليس صدفة، فعندما يزور قائد [من العالم] فإنهم في الحال يأخذونه إلى "ياد فَشيم"[متحف الكارثة في القدس]. أنا أقول هذا كابنة الجيل الثالث من الناجين من الكارثة، أقول هذا بألم، أقول هذا بألم لأن الكارثة شيء أسمى. لكنهم يستخدمونها كأداة لتعميق الخوف والقومجية بين الناس...! نفهم من هذا أن الأرضيّة الذهنية، الأخلاقيّة، العسكريّة والسياسيّة كانت جاهزة لما ستقوم بها دولة اليهود من إبادة في غزّة. وأنها تبتز ضيوفها بإجبارهم على زيارة المتحف المذكور.
10- في الحديث عن الإبادة الفعلية في غزة، فإنه بإمكاننا أن نعقد محاكاة بسيطة مع ما حدث في معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازيّة. في البداية اعتقل النازيون اليهود (وغيرهم من جماعات عرقيّة وإثنيّة أخرى)، وحاصروهم وأنهكوهم إلى مستويات لم يعرفها قمع السلطات في التاريخ. وعندما قرروا سنة 1941 "الحل النهائي" قاموا بإبادتهم. أما دولة اليهود، وبعد قيام حماس بفرض سلطتها على قطاع غزّة سنة 2007، فقد حاصرت وبدأت بتقنين الغذاء وكل احتياجات حياة الغزيّين إلى درجة وصولهم إلى حافة الهلاك. كما شنت عليهم أربع حروب- 2007، 2012، 2014 و2021. وعندما قامت المقاومة بطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 قررت إسرائيل القيام بعمل تبيد فيه أكبر عدد من الغزيّين، بدليل- ما ورد في كتاب الحرب لوود وودورد عندما سأل "بلينكين" "نتياهو" في أول لقاء بينهما ماذا تريدون؟ أجابه نتنياهو: الذخيرة، ثم الذخيرة، ثم الذخيرة! (ثلاث مرات). فأجابة "بلينكين بالإيجاب ثلاث مرات أيضاً. ومما تقدم نفهم أن خطة الإبادة كانت جاهزة في غزّة، التي أودت بقتل مئات آلاف الغزّيين وفقاً للمعيار الذي تحدثت عنه مجلة "ذا لانسيت" العلمية في شهر تموز 2024 وقالت أن عدد القتلى يصل إلى 186 ألفاً. أي يمككنا القول إن عدد القتلى اليوم بلغ 250 ألف على أقل تقدير وأكثر من 3- 4 أضعاف هذا العدد من الجرحى والمرضى بسبب الجوع والعطش والإهمال بكل أنواعه ومستوياته. إذن، نحن تحت وطأة أكبر كارثة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية في كل جبهاتها. ويمكن القول أن الإبادة تمّت بمثل هذه البساطة، لأن التربيّة السيكلوجيّة لليهود أوصلتهم إلى إرتكاب المجزرة دون التوقف على أية قضيّة إنسانيّة، وأن الجريمة تحصيل حاصل (كما جاء في الدراسة الهامة للباحث إبراهيم عبد الكريم بعنوان "البيئة الاجتماعيّة الإسرائيليّة لحرب الإبادة على قطاع غزّة"، تشرين الثاني 2024، مركز الزيتونة بيروت).
ختاما- سواءً تم إلقاء القبض على "نتنياهو" ومحاكمة هو و"غالانت" أو أيّاً منهما، فإن قرار محكمة الجنايات الدوليّة بحقهما مهم جدا من هذا الباب على الأقل (رغم أهمية المسوغات القانونية والسياسيّة الأخرى): احتكر اليهود و"إسرائيل" شخصيّة الضحيّة ووضعوها فوق المنطق التاريخي الواقعي حيث تحولت إلى سبب مركزي في عدوانيتهم ضد العرب والإبادة في غزّة؛ وها هي محكمة الجنايات الدوليّة التي شكلتها أوروبا التي اقترفت بعض دولها كارثتهم وأنشأت هذه المحكمة لتدين قادة روسيا والصين وأفريقيا- كما صرحت إحدى الشخصيات الأمريكيّة، تتهم قادتهم أنهم مارسوا جرائم حرب. ولن يتمكن اليهود و"إسرائيل" من فكّ ربطهم هم (أيضاً) بالجرائم التي أقترفت بحقهم في الحرب العالميّة الثانيّة، أي أنهم صاروا ضمن ثنائية- المجرم والضحيّة. والمستقبل سيكشف لنا الكثير في هذا السياق خاصة وأن أراضي أوروبا المسيحيّة مليئة بالذئاب والأفاعي ضدهم. إذن، بتنا الآن أمام ثُنائيتين- "الكارثة والبطولة" مقابل المجرم والضحيّة. أعتقد أن هذا ما يخشاه اليهود كثيراً. فقد نشر الموقع الاقتصادي (Calcalist. Co. il) بتاريخ 28 كانون الثاني 2024 تقرير يشير فيه إلى أن إسرائيل (قبل قرار محكمة الجنيات الدوليّة أصبحت "جزيرة معزولة" تعاني مؤسساتها من مقاطعة غير مسبوقة لا يُعلن عنها خوفا من اتساعها. كما أكد التقرير أن أخطر ما تواجهه إسرائيل هو المقاطعة الأكاديميّة ، مثل رفض مئات المقالات لباحثين، ورفض التعاون معهم، وعدم دعوتهم لمؤتمرات أكاديمية.. والأخطر من ذلك هو أن الطلبة الذين شاركوا ويشاركون في الاحتجاجات ضد الحرب هم قادة دولهم بعد 20 سنة. باختصار صاروا يخافون من تقويض سرديتهم ونشوء سردية موازية أو بديلة لها. هذه هي الجبهة الثامنة كما وصفتها إسرائيل بعد اعتداء مشجعين يهود على منازل وبيوت الذين رفعوا على بيوتهم الأعلام الفلسطينية في أمستردام، ثم اندلعت صدامات بين هؤلاء المشجعين- المعتدين ومحتجين ضدهم من عرب ومسلمين وهولنديين واتسعت فيما بعد إلى فرنسا.