كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المحامي ناصيف الخوري في ذمة الخلود

صبيحة الثاني والعشرين من آب 2023 أدركت المنية في ديرعطية المحامي ناصيف بن رفيق الخوري عن عمر بلغ التسعين سنة.
فقيدنا ناصيف خوري هو من الثوريين المجهولين، الذين غيّبهم الموت البارحة وسيشيع جثمانه بعد ظهر الإربعاء إلى مثواه الأخير في مدفن ديرعطية.
فمن هو الثوري المجهول في نظرنا؟..
الثوري هو الإنسان، الذي يرى نواقص مجتمعه وما تتعرض له أكثرية المجتمع من ظلم واضطهاد فيسعى بوعيه الاجتماعي المتفتح لتغيير الأوضاع، التي يعيشها الناس، نحو الأحسن والأفضل. وفي مجرى التاريخ الإنساني شهدت البشرية مئات، بل آلاف الثوريين المجهولين، الذين ضحّوا بوقتهم ومستقبلهم، وأحيانا قدّموا حياتهم قربانا على مذبح القضية العادلة، التي نذروا نفسهم لها.
نادرا ما دوّن التاريخ حياة هؤلاء الثوريين فأصبحوا مجهولين، طُمست أخبارهم، أو لم يُعرف عنهم إلا النذر اليسير . أما زعماء الحركات بمختلف أنواعها وكذلك رجال الفكر، فهؤلاء هم، الذين احتفظ التاريخ بذكراهم. وتسري هذه الظاهرة أيضا على الحركة الوطنية العربية ومن ضمنها الحركة الشيوعية.
***
ومع أننا في عملنا التأريخي سعينا جهد المستطاع عدم الاقتصار على تاريخ القادة من الدرجة الأولى والثانية، بل عملنا على كشف ما أمكن من تاريخ المناضلين في المراتب الدنيا، من الذين لا تاريخ لهم. وكان من الأجدر تتبع حياة الأعداد الكبيرة من الثوريين المجهولين، الذين انضووا تحت لواء الحركات الثورية وطواهم الزمن وعالم النسيان أو القمع. ومع الأسف لم تسمح لنا ظروفنا المحدودة الإمكانيات من الوصول لمعرفة تاريخ هؤلاء الثوريين المجهولين. فهذا الأمر بحاجة إلى مركز أبحاث وإمكانيات مادية وتوفر عدد من "الباحثين الثوريين"، الذين يبحثون للوصول إلى الحقيقة، وليس هدفهم معرفة كم سيتقاضون عن العمل الذي سيقومون به. نكتب هذا الكلام والحزن يغمر قلوبنا لعدم تمكننا من تحقيق هذا الهدف الأسمى. واكتفينا بقاعدة "إذا غاب الماء جاز التيمم".
ولهذا تناولنا في كتابنا: "الحركة الشيوعية السورية.. الصعود والهبوط" الصادر في دمشق حياة أربعة ثوريين مجهولين هم:
- خليل حنا مواليد 1924 من ديرعطية.
- نادر الحلاق مواليد 1933 من حلب باب قنسرين.
- غفران الخطيب مواليد 1938 سلقين غربي حلب وهي زوجة نادر الحلاق.
- ناصيف خوري مواليد 1932 ديرعطية وهو فقيدنا الذي رحل عنّا في عمر بلغ التسعين.
***
باءت جهود كاتب هذه الأحرف بالفشل لمعرفة حياة فقيدنا ناصيف في خضمّ نشاطه الوطني السياسي في صفوف الحزب الشيوعي السوري، الذي كان أحد أعضائه المخلصين.
وعن طريق غيره من رفاقه تمكنّا من معرفة جزء يسير من حياته السرية النضالية وقمنا بنشرها عام 2007 تحت عنوان:
ثمة ثوري مجهول آخر عدا نادر الحلاق عمل أيضا في طباعة جريدة نضال الشعب (الشيوعية السرية) ردحا من الزمن. وكانت ظروف عمله في المطبعة السرية مشابهة في تقنية الطباعة لظروف نادر حلاق ومختلفة عنها من حيث الإقامة في البيت المخصص للمطبعة.. فهو (أي ناصيف) كان يأتي إلى البيت السري مقيما فيه مدة خمسة عشر يوما لا يغادره إلا بعد خروج الجريدة مطبوعة من البيت السري. وبعدها يعود إلى أسرته. ومن شدة تكتمه لم تكن زوجته تعرف شيئا عن طبيعة عمله. ومع الأسف لا يزال هذا الثوري (ن. خ) مصرّا على عدم ذكر اسمه رغم أنه قارب الخامسة والسبعين من العمر (بتاريخ كتابةالنص أعلاه).
وله تاريخ مجيد في الحزب الشيوعي في ظروف االعمل السري. فقد اضطر لترك وظيفته معلما ابتدائيا عندما شرعت المخابرات السلطانية عام 1959 في ملاحقته. فالتجأ إلى لبنان وعمل هناك معلما لتأمين قوته اليومي. وسرعان ما عاد إلى سورية في الأشهر الأولى من الانفصال، فاعتقل على الحدود وأمضى في السجن عدة أشهر. وبعد خروجه من السجن نشط ناصيف خوري كادرا سريا في الحزب الشيوعي ثمّ في مطبعة جريدة الحزب نضال الشعب، إلى أن عصفت الانقسامات وتفرق "الرفاق أيدي سبأ".
وإذا كان نادر حلاق، الذي عمل أيضا في الطباعة السرية، قد أمضى شهرين سياحة في الاتحاد السوفياتي ثم قضى سنة في الدراسة في موسكو وعاد إلى عمله السابق معلما بعد إنهاء تفرغه، فإن (ن. خ) ناصيف خوري لم يغادر البلاد إلا مرة واحدة ولمدة شهر إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية.
بعد انتهاء عمله السري في الحزب عمل محاميا بسبب حصوله على الإجازة في الحقوق. وهو لا يتقاضى الآن 2015 سوى 2007 ليرة سورية راتبا تقاعديا من نقابة المحامين، ولم يحصل على أي تعويض من الحزب شأن عدد من "رفاق الكادر". وكانت ثالثة الأثافي وفاة زوجته، التي حملت عنه أثناء نضاله عبئا لا يستهان به... فسبحان مدبّر الأكوان.
***
كنا نتمنى أن يكتب (ن. خ) ملخصا لحياته في الحزب الشيوعي والأحزان، التي انتابته بعد الانقسامات. وقد انضمّ عن مبدئية وقناعة إلى أحد التنظيمات وكان أفقرها وأكثرها راديكالية. وبعد مدة ترك التنظيم لأسباب نجهلها ولم يَبُحْ بها بسبب تكتمه الشديد كعادته. وهو يعيش عيشة الكفاف متابعا الأحداث السياسية ومتحسرا على ما آلت إليه الأمور...
تُرى كم يبلغ عدد هؤلاء الثوريين المجهولين من أمثال (ن. خ)؟..
***
وبقلب حزين ننعي صديقنا الغالي ورفيق الدرب الطويل ناقلين ملخص حياته مما تحفظه الذاكرة في هذه الأيام الصعبة:
ولد ناصيف الخوري في ديرعطية أوائل 1933 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الارسالية الدانماركية. ودرس المرحلة الإعدادية في النبك حيث حصل على شهادة البروفه. وبعد أن نجح في اجتياز مقابلة القبول في دار المعلمين الابتدائية في دمشق، درس فيها لمدة ثلاث سنوات . عُيّن بموجبها معلما ابتدائيا وكان نصيبه مدرسة قرية سكوفية في الجولان.
واستمر في سلك التعليم إلى أن لاحقته المباحث السلطانية بسبب نشاطه الشيوعي عام1960 فهرب سرا عن طريق ممر وادي الزمراني الواصل بين ديرعطية والبقاع. ومن رأس بعلبك انتفل إلى بيروت إلى غرفة سرية خصصها الحزب الشيوعي اللبناني للهاربين من جحيم المخابرات السلطانية ورئيسها وزير الداخلية عبد الحميد السراج.
وبعد عودته إلى دمشق نشط أولا في العمل السري لمطبوعات الحزب، ثمّ انتسب إلى نقابة المحامين حتى سن التقاعد.
***
والبارحة صباحا أزفت ساعة الرحيل. سيشيّع جثمانه الساعة الخامسة من يوم الإربعاء بعد الصلاة عليه في الكنيسة إلى مثواه الأخير في مدفن ديرعطية.
***
مينستر – المانيا في 23 آب 2023
عبد الله حنا
باسمي وباسم زوجتي سكريد ينسن نتقدم بأحر التعازي إلى ذوي الفقيد، والحزن يغمر قلبينا لعدم استطاعتنا السير وراء جثمان الفقيد إلى مثواه الأخير.
المجد والخلود للثوري المجهول ناصيف خوري

وله الرحمة