كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ذلك النسر الذي حلّق عالياً ثم غاب.. عن عادل

جهاد عطا نعيسة

في خيمته القصبية الصغيرة على سطح غرفة "العِلِّيَّة" الوحيدة في منزل القرية، حيث الوصول الخطير إليه (صعوداً على سلّم خشبي أسفلَه ُهوَّةُ عميقة) وفيما هو يستعدُّ لامتحاناته الجامعية، كنت أُجازِف بالصعود إليه للفوز برسمِ نسرٍ كان يكرره لي يومياً، مع بعض التعديل على ورقة بيضاء بقلمَي الحبر السائل والرصاص، الرسم الذي كنت أعود به فَرِحاً كي أُودِعَهُ "دِرجَ" الخزانة السوداء العتيقة في الحجرة السفلية مع حفنةٍ من حبّات الدَحَلِ الأثيرة المنتَقاة...
كنتُ في الخامسة من العمر...
سألتَني يوماً بعد سنواتٍ طِوال وأنت تتأمل عملاً زيتياً لي لم يكن سوى استعادةٍ حَنونّ لكل النسور التي كنتُ أحتفظ بها في قاع الذاكرة منذ الطفولة:
- لماذا كل هذه النسور ...؟!
- هي نسورُكَ يا عادل.. هل نسيت...؟!
وسألتُكَ حينها: وفاة المعارض السوري عادل نعيسة. – التيار العربي المستقل
- لماذا كنتَ تكرر لي رسم النسر يا عادل.. ؟
- لأنني لم أكن أُجيد رسمَ سواه.. ولكم رغبت أن أكون رساماً دون جدوى. أولُ خذلانٍ لموهبتي كان حين عرضتُ على الوالد رسمي لوجه فتاة؛ إذ نظر إلى مفرق شعرها وسألني: "إلى أين يتجه هذا الطريق..؟
لم يكن الأخَ الأكبرَ المحبوب من الجميع، الذي عددناه جميعاً منارةَ البيت ورجاءَهُ الدائم، ومصدرَ الأمان والفرح فيه فحسب. بل كان أيضاً ما هو أكثر من هذا يكثير، كان الأخَ المعبود. وليس في قولي أيُّ تجديفٍ أو مبالغة.
حين عاد إلينا بعد أعوام دراسته الجامعيه ثم أعوام عمله مدرساً في ثانويات طرطوس ثم بانياس ما كانت الفرحةُ لتسعَني أنا الأخَ الأصغرَ الأكثر تعلقاً به والأكثرَ حاجةً إليه. وحين أبعدته مَهًمَّتُه الحزبية، إذ انتُخِبَ أميناً لفرع الحزب في محافظة اللاذقية عام 1966 عن التواجد اليومي في البيت أحسسنا جميعاً بحجم الخسارة التي مُنينا بها، وبمقدار ما كان غيابُه اليومي عن المنزل وعن السهر والمبيت فيه وحشةً حقيقيةً نتجرعها بصمت، بمقدار ما كان أيُّ اتصالٍ هاتفي ينبئنا فيه أنه قرر السهرَ والمبيتَ في المنزل في يوم الاتصال عرساً حقيقياً لنا جميعاً.
ثم اختاره المؤتمرُ الحزبي القطري الرابع عام 1968عضواً في القيادة القطرية فاضطُّرَّ إلى السكن في دمشق.. أكان ابتعادُكَ المستمر قدرَنا الدائمَ يا عادل...؟!
وإذ قدَّم استقالته من القيادة هو والرفيق محمد عيد عشاوي بعد أشهر قليلة من انتخابهما ٍلخلافٍ في الرؤية "الاستراتيجية" مُعلِنَين التحاقهما بالعمل الفدائي بديلاً، فقد زادنا إمعانُه في الغياب والبعد وحشةً وشوقاً...
"كأنما حرامٌ على الأيام أن تتجمعا"..
لكن ما فرّقته الأيام قد جمَّعَته السجون...
في العام 1984م وفي سجن المزة العسكري، وقد كان مع مجموعة من رفاقنا نزلاءَه المزمنين، التقينا بعد دهرٍ من الغياب.. كنت أمضيت قرابة عامٍ ونصف في فرع التحقيق، فهل أقول: لقد غمرني آنذاك، وهو يلوِّح لمقدمنا من خلف نافذة "غرفته / الزنزانة " إحساسٌ عارم بتحقيق حلم قديم مستمر؛ أن يُتاح لنا العيشُ معاً حتى لو كان داخل أسوار سجن.
كنتُ في المهاجع وكان فيما يدعوه السجّانُ الغرفَ، وأدعوه: "الغرف/ الزنازين"، وأدعوه أيضاً: "خلفَ بوابة العزلة"... نعم، خلف بوابة عزلةٍ قهريةٍ لستةَ عشرَ سجيناً سياسياً لم أعرف في حياتي وقد التحقتُ بعزلتهم القهرية بعد قرابة أربعة أعوام عِجاف من العزلة المهجعية، لم أعرف في حياتي مجموعةً بشرية أكثر وطنية وأكثر صلابة وأكثر استعداداً للموت وقوفاً منهم.. رجال مقدودون من يقين وإرادة غادرَنا معظمهم إلى دار البقاء وتركوا عطر ذكراهم ومرارة فقدهم في أعمق أعماق القلب.
وما كنا نلتقي إلا في تلويحةِ يدّ، أو همسٍ حَذِرٍ سريعٍ؛ هو خلف قضبان نافذة عزلتهم وأنا في مسيري الدوراني الرتيب في ساحة التنفس "المستديرة مثل حجر رحىً"... أربعةُ أعوام واللقاءُ القسري العابر إياه يتكرر وتتكرر معه عقوباتٌ دورية لي كانت تدفع إليها وشاياتٌ مخزية لمأجورٍ بلا ضمير مُتَخَفٍّ بين صفوف ناس مهاجعنا. وما كنا نتنازل عن ذلك الحق الصغير؛ تلك التلويحة وذلك الهمس... ثم اجتمعنا في حصار غرفة صغيرة من الغرف/ الزنازين.."خلف بوابة العزلة" تماماً.
وتحقق الحلم يا عادل.. وها هي أربعةُ أعوام أخرى وعيشٌ ٌيومي مشترك يملأ سجننا معنىً... لكم تحادثنا، ولكم تحاورنا، ولكم تذكَّرنا، ولكم حلمنا، ولكم عشنا رغم أنف كل أقانيم الظلمة في تلك الغرفة المنفية مع ثلاثة سواها "خلف بوابة العزلة".
ثم تباعدنا مرة أخرى؛ إذ مضيتُ إلى صيدنايا بانتظار محاكمة صورية تَذَكَّرَها السجّان بعد عشرة أعوامٍ من سجني.. يا لَلعدالة...! وبقيتَ في غرفتكَ/ الزنزانة تستعيد زمناً لن يستعاد... وفي لقائنا الأول بعد حصولي على حريتي كنتَ تبدو في غاية السعادة وكأنك أنت مَن استعاد حريته... فيما كنتُ أداري في داخلي شعوراً حارقاً بالذنب، وكأني أنا من أوصد بوّاباتِ سجنك؛ إذ كيف أنعم بحريةٍ كنتَ لا تزال محروماً منها...؟!
بعد عامين من حريتي نلتَ حريتّك...
وهل أنسى تلك الصرخةَ التي انطلقت من أخي فؤاد، وهو ينحني ويُقَبِّل الأرض ثم يقف ويعاود الانحناء وتقبيل الأرض. مرةً إثر أخرى ...؟
صرخة ٌهي مزيج عجيب من الشوق واللهفة والدهشة والحب وعدم التصديق والوجع أيضاً .. نعم الوجع يا عادل؛ إذ ماذا تركوا لنا بعد قرابة ربع قرنٍ من غيابك القسري:
- أهلا ااا أهلا ااا أهلا ااا...!!!
ثلاثون عاماً وها هو الزمن المتسارع ينطوي بنا تباعاً عقداً إثر آخر..
يا لَغدرِ زماننا يا عادل...!!! لم نكن قد استفقنا من سفاهة الأسوار وحصارها المزمن حتى تلقفتنا سفاهةُ المرض وحصاره المزمن أيضاً.. جراحةٌ مخفقةٌ بعد أخرى ارتكب أولاها بحقي جرّاحٌ جشع باع ضميره وخلّاني جسداً مهدوماً سنواتٍ عشر متعاقبة.. وأنت وحدَكَ رفيقُ رحلات علاجي المكوكي الخائب بين اللاذقية ودمشق ومن مشفى إلى آخر.. لَكَم أتعبتُكَ يا عادل وما استطعتُ أن أردَّ جمائلك...! ما استطعت أن أردَّها أبداً حبن اختارك المرضُ وطرحك ثلاثة أعوامٍ أخيرة على فراشه الغاشم.. (هل تحن توأمٌ سيامي..؟!)...
لطالما سألتَني في السجن؛ إذ لا يكاد أحدنا يتعافى من مرض ما حتى يُيتَلى الآخر به، دون أن يكون المرض مُعدِياً...!!!
حين انطوت بنا تلك الثلاثون فقدناكَ يا عادل...
فقدناكَ.. فقدناكَ.. فقدناك ...
فمن أين لنا بحلاوةِ عيشٍ لم تعد فيه...!!!
"تاري الأ حِبَّة عَغفلي بيروحو ما بيعطو خبر... عغفلي بيروحو...بيروحو" ...فهل من وجعٍ في الأرض يفوق وجعَ فقدان الأحبة يا عادل...؟
بين يوم الرحيل وبوم نيلك حريتك ثلاثون عاماً كنتَ فيها الأمين حتى نقيِّ العِظام على قضيتنا وقضيتك.. قضيةِ كل المظلومين في الأرض؛ أعليتَ شأن الوطن وأدرتَ الظهر لكل مسوخ التدحيل والتبجيل ولم يدر في حسبانك يوماً أن تحصد ثمناً لموقفٍ تقتضيه إنسانيةُ الإنسان.. يقتضيه معنى أن نكون بشراً لا ضواريَ غابٍ، فيما تهالك آخرون حول مناصبَ أو مواقعَ تصدَّقوا بها عليهم داخلاً أو خارجاً، لا فَرقَ... وبقيتَ شامخاً وحراً مثلَ راية...
فالسلام السلام عليك والسلام السلام لك حياً وميتاً أيها العادل الحبيب..
يا عادلنا وعادل كل الأوفياء للوطن ولمعنى الوطن.