عرفته... وتعرفت إليه (عن الراحل الكبير جبرائيل سعادة)
2022.05.31
جمانة طه:
"الناس كلهم يعيشون.. ولكن قِلّة منهم مَنْ يحييون".
عندما نأتي على ذكر الأعلام الذين تركوا بصمة على جدران أوطانهم علمية أو فنية أو أدبية، نُلحق بأسمائهم صفة الخلود. فما معنى أن نقول عن فلان إنه خالد، ونحن لم نقرأ له كتابًا ولم نسمع له لحنًا ولم نزر له معرضاً؟ فالخلود لا يكون إلّا في الحفاظ على إرثه الفكري والعلمي والأدبي، من خلال تذكير الأجيال المتعاقبة به. فإن لم نفعل فهو ميت حتى وإن كان حياً. فنسيان الكبار وتناسيهم موات.
لقد شعرت بسعادة وفخار عندما وصلتني دعوة من جمعية العاديات في اللاذقية لحضور الفعالية الثقافية المقامة بتاريخ 15/5 إلى 25/5 بمناسبة مرور مائة عام على ولادة الآثاري الكبير والمؤرخ جبرائيل سعادة وربع قرن على وفاته. إن استعادة الجمعية هذا التراث الثقافي الثري ل جبرائيل سعادة (الصورة) بتنوعاته العلمية والأدبية والتاريخية والفنية، يعبر عن وعي وجهد وطني كبير. وأمام هذه المبادرة الطيبة لا أمتلك غير الإشادة بالتصرف الحضاري الذي تجلى في الدقة بالمواقيت المحددة في البرنامج، وهذا أمر يندر حصوله في منتدياتنا الثقافية والرسمية. وأيضاً بالعمل الجاد المبذول من قبل لجنة الإشراف في الجمعية، وأخص بالتحية الأستاذ بسام جبلاوي والأستاذ مأمون زيدان.
ولد جبرائيل سعادة عام 1922 بمدينة اللاذقية، وتوفي فيها عام 1997. درس المراحل التعليمية المختلفة في اللاذقية وبيروت، وتخرج في كلية الحقوق من الجامعة اليسوعية. باحث في التراث والتاريخ والموسيقا، وأديب يكتب باللغتين العربية والفرنسية، ومنقب آثاري كبير.
أحب جبرائيل عمله، وأخلص له. أعطاه عمره، وأوقف عليه شغفه بالترحال في المناطق الأثرية بين أوغاريت ورأس شمرة ورأس ابن هانئ وتدمر. فقد نقل اللاذقية إلى العالم، ونشر عن مواقعها الأثرية والتاريخية بحوثًا ومقالات في دوريات عربية وأجنبية. وإلى ذلك كله، هو رجل بناء. فهو لم يقصر وقته على التنقيب في تراث الأولين، بل سعى بجهد وإيمان إلى تأسيس نهضة فكرية وفنية ورياضية لأجيال الشباب في مدينته اللاذقية. فأسهم في تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية، وفي تأسيس الثانوية الوطنية الخاصة في اللاذقية. وأسس نادي الشباب الرياضي الذي عرف فيما بعد باسم نادي تشرين، وشارك في تأسيس النادي الموسيقي، وأنشأ فرقة اللاذقية للغناء الشعبي. هذا إلى جانب إنجازه الثقافي المهم الذي جاء بعد سعي حثيث مع السلطة السياسية، بمنع بناء فندق على أرض دار المندوبية الفرنسية، وجعلها مقرًا للمتحف الوطني.
قال الأديب حنا مينة في معرض حديثه عن جبرائيل: "في اللاذقية بحران: بحر الماء وبحر الآثار. وقبطان مركب بحر الآثار، العظيم جبرائيل سعادة". وهذا الرأي الباذخ من عَلَم كبير بحق عَلَم كبير، يقودني إلى الاقتراح الذي جاء في كلمة الدكتور محمد بصل رئيس فرع اتحاد الكتاب في اللاذقية، بأن تُرفع توصية في ختام الاحتفالية تقضي بوضع قصة حياة العالم جبرائيل سعادة في مناهج التعليم لتعرفه الأجيال، ومن خلال إرثه الثقافي والتاريخي يتعرفون إلى تراثهم الوطني.
جعل جبرائيل من مكتبته قبلة بعثات التنقيب وعلماء الآثار، ودارسي الرُقُم المكتشفة في أوغاريت. ويعد كتابه عن أوغاريت بالفرنسية، من أهم المراجع وأكثرها توثيقاً. وأنا أيضاً كان لي شرف المرور بهذه المكتبة النادرة، كماً ونوعاً.
عرفتُ الأستاذ جبرائيل من مقالاته عن عمليات التنقيب التي قام بها في أوغاريت موطن الأبجدية الأولى، وموطن أول نوتة موسيقية في العالم. وفي العام 1990 تعرفت إليه شخصيًا في زيارة له برفقة أحد أصدقائه المقربين، للإفادة من بعض ما تحتوي مكتبته عن الأمثال في الحضارات القديمة. وفي نهاية الزيارة خرجت من مكتبته وفي يدي كنز: كتابان له وبإهدائه، وأوراق تضم أمثالاً سومرية وفرعونية وأكادية وآرامية باللغتين الإنكليزية والفرنسية. وهذه الأمثال التي قمت بترجمة معظمها منحت كتابي "الجُمان في الأمثال" عمقاً وفرادة، ووضعته في مرتبة لا يدانيه كتاب في الموضوع ذاته.
شغل جبرائيل مناصب تعليمية وثقافية عديدة، منها:
* رئيس جمعية العاديات في اللاذقية مدة عشرين عامًا.
* رئيس فرع اتحاد الكتاب في اللاذقية مدة سنتين.
* قنصلًا فخريًا لليونان، وعميدًا للهيئة القنصلية في اللاذقية.
*رئيس عمدة الثانوية الوطنية.
*عضو في مركز الأبحاث التاريخية والأثرية التابع لمديرية الآثار.
*عضو لجنة الفنون الشعبية في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدمشق.
*له مؤلفات كثيرة، منها: محافظة اللاذقية، أبحاث تاريخية أثرية، رأس شمرا وآثار أوغاريت، عندما تغني اللاذقية.
*كرمته مديرية الثقافة في اللاذقية وأطلقت اسمه على قاعة المطالعة في المكتبة العامة بالمركز الثقافي.
*كرمه مجلس بلدية اللاذقية، وأطلق اسمه على الشارع الذي كان يسكن فيه.
*منحته حكومة اليونان وسام الصليب الذهبي في العام 1970.
*منحته فرنسا وسامًا من رتبة فارس في العام 1989.
*منحته البطريركية الأرثوذكسية في اللاذقية مفتاحاً من ذهب تقديراً له عن خدماته في الثانوية الوطنية.
ومن الطرائف التي مرت مع الأستاذ جبرائيل، أنه عندما كان القنصل الفخري لليونان في اللاذقية، هتف له السفير اليوناني في دمشق طالبًا منه أن يكون في شرف استقبال الأمير ميشيل ابن عم الملك في زيارته اللاذقية، وتقديم كل مساعدة يحتاجها. فذهب جبرائيل إلى فندق السياحة والاصطياف للترحيب بسمو الأمير، فوجده برفقة زوجته وبعض الضيوف. حياه... وقدم له نفسه بصفته الرسمية. نظر إليه الأمير، وهو مازال ممدداً على الأريكة، وقال له: شكراً، لا أريد شيئاً. فاستدار القنصل جبرائيل وَهَمَّ بالذهاب، وهو حانق من استقبال الأمير الفاتر. فناداه الأمير، قائلاً له: عفواً سعادة القنصل، أريد أن ألتقي جبرائيل سعادة، وقد قرأت له وسمعت عنه. فقال له جبرائيل: أنا هو. وهنا وقف الأمير الذي لم يقف للقنصل، بل وقف للباحث والآثاري جبرائيل سعادة.
وأخيراً، كلمة لا بد منها
في ساحة المبنى المسمى بـ"مديرية الآثار والمتاحف في اللاذقية" المكان الذي استضاف الافتتاح، يشتم الزائر عبق التاريخ الدافق بالحب والأصالة من أعمدة ضخمة بتيجان منقوشة ومزخرفة مزروعة هنا وهناك، تجاورها أشجار عملاقة وشجيرات مزهرة. وبما أن المبنى لم يحمل اسم جبرائيل سعادة، فكان يجمل بالمشرفين عليه أن يردوا الفضل إليه، من خلال العناية بالمبنى وتوفير كل ما يجعله قبلة للزائرين. وكم شعرت بالوجع عندما كانت خطواتي تغوص في الأعشاب الجافة وهي تبحث عن دورة مياه تليق بالمكان والإنسان. دورات مياه معطلة وأبوابها مخلعة، والمغاسل خربة والحنفيات جافة. كل هذا في مكان يفترض أنه متحف وطني، يستقبل زواراً من الداخل ومن الخارج، عرباً وأجانب.!