كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أصل اسم مار جرجس - الخضر.. الحارث الأوغاريتي

كتب الدكتور فايز مقدسي:

نصوص أوغاريتية

معظم الناس في بلادنا يعتقدون أنّ اسم جرجس أو جورج كما دخل إلى اللغات الأوروبية هو اسم أجنبي أوروبي يستعمله المسيحيون فقط، لأنه اسم قديس معروف باسم القديس مار جرجس الذي قاتل التنّين ودحره وأنقذ العروس التي كان التنّين يستعدّ لافتراسها. ولقد شاعت هذه الحكاية حتى أننا صرنا نرى في الكنائس في الشرق والغرب أيقونات تمثل مار جرجس يطعن التنّين برمحه وينقذ الفتاة منه ويحرّرها.
واعتقد الكثيرون أن هذه الحكاية دخلت إلى أوروبا عن طريق الإغريق وفاتهم أن اسم جرجس هو اسم سوري قديم، وأنه دخل عن طريق اللغة السورية القديمة إلى اليونانية في صيغة /خرخيوس/ وعن هذه الصيغة اليونانية انتقل إلى أوروبا في العصر المسيحي في صيغة /جورج/ وهو اسم لا يزال يُكتب إلى اليوم بالفرنسية مع حرف السين، ولكن دون لفظ حرف السين. ولقد حلّ حرف الجيم محل حرف الخاء اليوناني الذي نقل حرف الحاء السوري القديم والموجود في الاسم السوري القديم. أما صيغة جرجس فقد استعارها السوريون من الصيغة اليونانية /خورخيوس/، وهم لا يعلمون أن اليونانية استعارت هذا الاسم منهم.
ولو رجعنا إلى السجلات التاريخية اللغوية المدوّنة بالسورية القديمة (اللغة الأمورية -الكنعانية) وكما تبيّنها مدوّنات أوغاريت - موقع رأس الشمرة على الساحل السوري، فإننا نعثر على اسم جرجس كما كان يُلفظ بالسورية القديمة في جذر /ح ر ث/ أي الذي يحرث الأرض أو الحارث، والذي كان لقبًا يُطلَق على السيد البعل باعتباره سيد الخصب والزراعة وهو، من الناحية الرمزية، الذي يحرث الحقول ويجعلها صالحة للزراعة، ويتعهّدها بالسقاية عن طريق المطر، ولذلك كان يلقّب بسيد المطر. البرق يعلن مجيئه والرعد صوته والغيوم مركبته أو حصانه كما نقرأ في قصائد أوغاريت الأسطورية.
اسم الحارث دخل إلى اليونانية في صيغة /خارث/ لعدم وجود حرف الحاء في اليونانية. ولما كانت اللغة اليونانية تقتضي إلحاق كلّ اسم علم مذكّر بحرف السين فقد أصبح اسم خارث /خارخوس/، وعن هذه الصيغة دخل إلى اللغات الأوروبية في صيغة جورج، ثم عاد إلينا في صيغة جرجس منقولًا عن اللفظ اليوناني. ولمّا كان لهذا الاسم صفة قدسية فقد جعلته التقاليد اسمًا لقديس، وأطلقت على هذا القديس اسم جرجس الذي يحارب التنّين. ولا شكّ أن الذاكرة الشعبية السورية قد احتفظت بهذه الحكاية شفهيًّا، وتمّ تغيير الأسماء وأصولها وتاريخها الحقيقيّ. أما اليوم، وبعد اكتشاف نصوص أوغاريت، فإننا أصبحنا نعرف من تلك النصوص أن البعل - الحارث يتصدّى للتنّين ويحاربه ويتغلّب عليه لينقذ بني البشر من شروره، وليعود الخصب إلى الأرض فتصير السماوات تمطر سمنًا، والسواقي تسيل عسلًا، كما نقرأ في قصيدة البعل والموت. ولذلك أطلق أجدادنا السوريون على البعل أو الحارث لقب / نعمان/ يعني الذي يفيض بالنِعَم على بني الإنسان.
ولقد تجذّر هذا الاسم في الذاكرة السورية فأطلقوا اسم النعمان على الزهر الأحمر اللون وسمّوه شقائق النعمان يعني الجروح التي أصيب بها البعل أثناء قتاله مع التنّين. ولما جاءت المسيحية نرى أن الأشياء لم تتغيّر، فقد أخذ البعل الحارث اسم مار جرجس أي الحارث العظيم كما يعني اسم مار جرجس. ولما كان البعل يعتلي صهوة الغيوم وكأنها حصانه حين يأتي، فقد تمّ إعطاء صفة "الفارس" أيضًا لمار جرجس، واطلقوا عليه اسم مار جرجس الخيّال أو الفارس.
نقرأ في قصيدة البعل والموت السورية القديمة (1500 على الأقل قبل الميلاد) أنّ الناس كانوا في الاحتفالات الطقسية يخاطبون الربّ البعل فيقولون له:
هوذا عدوّك أيها البعل
هوذا عدوّك فاضربه
هوذا عدوّك التنّين الذي يناهضك
فاصرعه واقضِ عليه
***
أنت أيها البعل -السيد
تضرب التنّين الأفعى المنسلّة
أنت تسحق رأس هذا الثعبان الهارب
أنت ترضّ رؤوس التنّين السبعة
فإذا انتقلنا إلى الأدب السوري الشعبي في المسيحية، فإننا نقرأ في قصيدة فيها الكلام نفسه، ولكن حول مار جرجس:
لمّا كان في ذاك الحين
في بيروت ظهر تنّين
ريحتو تهلك العالمين
ويُعرف باسم الثعبان
***
أسرع مار جرجس وتقدّم إليه
ورفع رمحو وهجم عليه
وضربو ضربة بين عينيه
والرمح من خلفه داني
ومن يقرأ هذا النصّ الشعبي يقرأ في الحقيقة النصّ الشعري القديم كما هو في مدوّنات أوغاريت.
ولا يزال الناس في بلادنا يحتفلون إلى اليوم بعيد مار جرجس، وهو يقع في الربيع (عودة الخصوبة، إلى الطبيعة) ولما جاء الإسلام إلى سورية، فقد تم إطلاق اسم (الخضر) على مار جرجس، ظنًّا منهم أن اسم جرجس اسم أوروبي. ولما كان اسم الخضر يأتي من اللون الأخضر الذي يدلّ على الطبيعة المزدهرة، فإننا نلاحظ أن اللفظ تغيّر غير أنّ الدلالة بقيت كما هي.
ونستطيع أن نلاحظ أن الصلوات والتضرّعات لإنزال المطر كان يرفعها الملك بنفسه إلى السيد- البعل لاستنزال المطر، ممّا يجعلنا نلاحظ الأصل السوري القديم لما نسميه اليوم بصلاة الاستسقاء، والتي نعتقد أنها "إسلامية" الطابع، وجاءت من الجزيرة العربية، كما نفعل بكلّ تراثنا السوري.
وإليكم هذا المقطع الذي يمثل صلاة الاستسقاء السورية (1500 سنة قبل الميلاد) كما يرفعها الملك السوري /دانيل/ أو دينونة الله، وكما هي في مدوّنات أوغاريت.
يقول النص إن الجفاف ضرب الحقول وغطتها أسراب الجراد، فرفع الملك /دانيل/ صوته إلى الله متضرّعًا، وقال:
ربّ
اجعل المطر يهطل في فصل الجفاف
أرسِل السُحُب وفيها رذاذ مياه الخريف
وليهطلِ الندى ويسقي عناقيد العنب في الكروم
وهكذا نرى أنّ مار جرجس - الخضر ليس سوى البعل السوري نفسه الحارث الأكبر. ويجب أن نشير أن الملوك السوريين الأنباط الذين جعلوا مدينة البتراء في الأردنّ اليوم عاصمةً لمملكتهم، قد أطلقوا على أنفسهم لقب "الحارث"، فكان هناك الحارث الأول والحارث الثاني وهكذا. ولقد امتدّ حكمهم في فترة القوة إلى دمشق. وكان نائب الملك الحارث يحكم دمشق عندما دخلها بولس بعد الرؤيا التي حدثت له على أبواب دمشق والتي غيّرت تاريخ العالم فيما بعد.
اما اسم الحارث السوري فقد دخل كما رأينا، وبصيغته اليونانية، إلى كلّ لغات العالم، وأصبح اسمًا عالميًّا في صيغة جورج.