كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

كونفوشيوس حكيم الصين

مروان حبش- فينكس

لا أقاصيص أخرى تضارع الأقاصيص الصينية في خصب خيالها، وهي تصف كيف أعلنت الأشباح، في مدينة "تشو-فو" بمملكة "ليو" عام 551ق. م، إلى الشابة والدة جونغ- فو- تسي (كونفوشيوس) مولده غير الشرعي، وكيف كانت الهولات تحرسها، والأرواح الإناث تعطر لها الهواء، وهي تلده في أحد الكهوف، وتروي تلك الأقاصيص، أنه كان له ظهر سلحفاة، وشفتا ثور، وفم في سعة البحر، وأنه من نسل الامبراطور العظيم "هوانغ- دي".
كان في الثالثة من عمره حين توفي والده، مما اضطره إلى العمل بعد الفراغ من الدراسة لإعانة والدته، ولقد تعود في طفولته الرزانة، وحذق في الرماية والموسيقى، وتزوج وهو في التاسعة عشرة من عمره، وطلَّق بعد أربع سنين من زواجه. واشتغل وهو في سن الثانية والعشرين، بالتعليم، واتخذ من داره مدرسة له، وكان برنامجه في التعليم يشمل الفلسفة، والتاريخ، والشعر، وآداب اللياقة، ومن أقواله: (إن أخلاق الإنسان تُكَونها القصائد، وتنميها المراسم، وتعطرها الموسيقى وأنَّ لا أحد يستطيع أن يدرس الفلسفة الإنسانية بإخلاص دون أن تُصْلح دراستها من خلقه وعقله ويصبح إنساناً صالحاً). وكان في تعليمه يشحذ عقول تلاميذه، ويطلب إليهم شدة اليقظة العقلية، وألا يهاجموا قط، غيرهم من المفكرين وألا يضيعوا الوقت في دحض حججهم، ولم يكن يشك في أن صنفين اثنين من الناس وحدهما اللذان يستطيعان الاستفادة من تعاليمه، وهما "أحكم الحكماء، وأغبى الأغبياء".
تواترت الإشاعات في ولاية "لو"، بأن وراء شفتي الثور والفم الواسع كالبحر، قلباً رقيقاً وعقلاً يفيض بالعلم والحكمة، فقصد الطلاب مدرسته، حتى افتخر في آخر أيام حياته، بأنه قد تخرج على يديه ثلاثة آلاف شاب غادروا مدرسته ليشغلوا مراكز عالية في الصين، وكان يحب طلابه رغم شدته عليهم، ونشأت بينه وبينهم صلات ودٍّ وثيقة، ويردد على مسامعهم: (ما أشقى المرء الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم، دون أن يجهد عقله في شيء...، لا يتواضع في شبابه التواضع الخليق بالأحداث، ولا يفعل في شبابه شيئاً خليقاً بأن يأخذه عنه غيره، إن هذا الإنسان وباء).
كان كونفوشيوس معلماً من طراز خاص، فهو يعتقد أن التنائي عن طلابه ضرورة لنجاح التعليم، وكان شديد المراعاة للمراسم ولقواعد الآداب والمجاملة، ويبذل ما في وسعه للحد من قوة الغرائز والشهوات وكبح جماحها بعقيدته المتزمتة الصارمة، و(ليكُن خُلق الإنسان الكامل أن لا يختلف قوله عن فعله). لذا لم يكن يقبل أي منصب في حكومة ظالمة، وكان يحث طلابه على أن يجهدوا أنفسهم ليكونوا جديرين باستلام مناصب كبيرة، ولكي يَعرفَهم الناس بهذه الصفات، وكان يؤكد في تعاليمه بأن الحكومة الصالحة توجد حيث (يكون الأمير أميراً، والوزير وزيراً، والأب أباً، والابن ابناً). وتقول الرواية الصينية أنه عُيّن في أواخر القرن السادس ق. م، كبير قضاة مدينة "جونغ- دو" وخلال ذلك اجتاحت المدينة موجة جارفة من الشرف والأمانة، ولما رُقي إلى منصب نائب وزير الأشغال العامة، شرع في مسح أراضي الدولة وأدخل إصلاحات جمَّة في الشؤون الزراعية، ولما ترقى بعد ذلك وزيراً للعدل، كان مجرد وجوده في هذا المنصب كافياً لقطع دابر الجريمة، وفي ذلك تقول السجلات الصينية: (لقد خجلت الخيانة، وخجل الفساد أن يطلا برأسيهما واختفيا، وأصبح الوفاء والإخلاص شيمة الرجال، كما غدا العفاف ودماثة الخلق شيمة النساء، وجاء الزوار زرافات من الولايات الأخرى، وأصبح كونفوشيوس معبود الشعب).
لقد كان المبدأ الأول من مبادئ الحكم الصالح بتعاليمه، هو "القدوة الصالحة"، ولمَّا أغفل حاكم "لو" عن نصيحة كونفوشيوس، وأهمل شؤون الدولة اهمالاً معيباً، استقال من منصبه وغادر الولاية، وبدأ عهد تجوال وتشرد دام ثلاثة عشر عاماً، وأصبح مع عدد من مريديه المخلصين مغضوباً عليهم في وطنهم، فأخذوا يتنقلون من ولاية إلى ولاية، يلقون في بعضها ترحاباً، ويتعرضون في أخرى لضروب من الحرمان والأذى ولمهاجمة الرعاع، وكانوا في فترات كثيرة يتضورون جوعاً. وعرض عليه حاكم ولاية "وي" أن يتولى رئاسة الحكومة، ولكنه رفض هذا العرض، لأنه لم تعجبه مبادئ الحاكم. ورغم النصائح له ولمريديه من بعض المعتزلين، بالاعتزال بدل التشرد بين الولايات وجميعها يسود فيها الاضطراب والفساد اجتياح السيل الجارف، فإنه لم يفقد الرجاء في أن يتاح له في أحد الولايات فرصة يتزعم فيها حركة الإصلاح والسلم.
ولمَّا أصبح "جيه" حاكماً على ولاية "لو" أرسل ثلاثة من كبار الموظفين إلى كونفوشيوس، الذي كان قد بلغ التاسعة والستين من عمره، يحملون إليه من الهدايا بما يليق بمقامه، ويدعونه أن يعود إلى وطنه، وقضى الأعوام الخمسة الباقية من حياته يعيش معيشة بسيطة معززاً مكرماً، وكان يسره أن غرائزه تتفق مع عقله، وكثيراً ما كان يتردد عليه زعماء "لو" يستنصحونه، وانكب معظم وقته منصرفاً إلى نشر روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصينيين.
توفي في الثانية والسبعين من عمره، وواراه مريدوه التراب باحتفال مهيب، وأحاطوا قبره بأكواخ لهم أقاموا فيها ثلاث سنين، واجمين حزينين تنهشهم الهموم.
وضع كونفوشيوس الحكمة لشعبه، وترك وهو يرى نفسه معلماً ومهذباً لجيل الشباب، "كتب القانون الخمسة"، أولها "سجل المراسم"، الذي يرسخ فيه آداب اللياقة لأنها أساس تكوين الأخلاق ونضجها، واستقرار النظام الاجتماعي والسلام. وبعده تعليقات على كتاب "التغيرات" الذي يلج ميدان علم ما وراء الطبيعة، ثم كتاب "الأناشيد" وشرح فيه كنه الحياة البشرية ومبادئ الأخلاق الفاضلة، وأتبعه بـ"حوليات الربيع والخريف" الذي سجل فيه موجزاً عن أهم ما وقع من أحداث في "لو" موطنه الأصلي، وكان خامس كتبه "كتاب التاريخ" الذي جمع فيه أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع، حينما كانت الصين امبراطورية موحدة، ويعمل قادتها في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه.
كان كونفوشيوس "لا أدرياً"، ولكن ليس عنده نظاماً فلسفياً منسقاً من علوم المنطق، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، والسياسة، تسري فيه فكرة واحدة شاملة. بل كان يعلم طلابه كيف يفكروا ويعبروا بكل أمانة ووضوح ودقة، ويصرفهم عن التفكير في الأمور الغامضة أو الأمور السماوية، ولكنه كان يعترف بالبحث عمَّا بين الظواهر المختلفة جميعها من وحدة شاملة، ومعرفة ما يوجد من تناغم وانسجام بين قواعد السلوك الحسن واطراد النظم الطبيعية. وكان حريصاً على تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك وعلى الحكم. وكانت الأخلاق مطلبه وهمَّه الرئيس، ويرى أن الفوضى السائدة في البلاد، هي فوضى خلقية لعلها ناشئة من انتشار الشك السوفسطائي في ماهية الصواب والخطأ، وعلاجها يكون بتجديد أخلاقي قائم على تنظيم حياة الأسرة على أساس صالح قويم، وعن طريق المعرفة والإخلاص وليس بالمواعظ، بل بالقدوة الحسنة بما لها من قوة صامتة، وحينها يتهيأ للبلاد نظامٌ اجتماعي يتيسر معه قيام حكم صالح من تلقاء نفسه.
كان كونفوشيوس يرى أن الرقي الذاتي أساس الرقي الاجتماعي، "والإنسان الكامل" هو الذي يثقف نفسه بعناية ممزوجة بالاحترام، وتجتمع فيه الفلسفة والقداسة فيتكون منهما الحكيم المتواضع في حديثه والمتفوق في سلوكه بحيث تتخذه جميع الأجيال قانوناً عاماً، كان يخشى ألا يصل إلى الحقيقة، وهو واسع الفكر غير متشيع إلى فئة، ويحرص على ألاَّ يكون فيما يقوله شيء غير صحيح.
كان كونفوشيوس يركز على مبدأي الطاعة والأخلاق، لذلك لم يكن ثوري النزعة، ولكنه يؤكد بأن الشعب هو المصدر الحقيقي للسلطة السياسية، وكل حكومة لا تحتفظ بثقة الشعب تسقط لا محالة. لأن الأساس الرئيس الذي يقوم عليه الحكم هو الإخلاص والقدوة الصالحة ونهج الفضيلة وحسن الاختيار للمناصب، وسبيل ذلك أن يكون الحاكم نفسه صالحاً، وبذلك تعمل الدولة على الارتفاع بالشعب إلى مستوى عال من الحضارة، وتمنع من ترف بطانة الملوك، وتوزع الثروة على الشعب في أوسع نطاق، وتنشر التعليم، وتخفف العقاب، وتُعنى بغرس الأخلاق الطيبة، وبآداب اللياقة، وتعلم الموسيقى للناس أجمعين لما فيها من تقويم للعقل والقلب، وإصلاحٍ للأخلاق والعادات.
لقد كان لكونفوشيوس أحلامه ومثله العليا في الحكومات والدول، وقد اعتنق في آخر الأمر المبادئ الاشتراكية وأطلق فيها لخياله العنان، ويرى، إذا ساد (مبدأ التماثل الأعظم) أصبح العالم كله جمهورية واحدة، ويختار الناس لحكمهم ذوي المواهب والفضائل والكفايات، وينشروا السلم الشامل، ووقتذاك يكون لكل إنسان حقه، وتصان شخصية المرأة من أي اعتداء، وينتج الناس الثروة، من غير أن يكون الهدف منفعتهم الشخصية، وبذلك يُقضى على الأنانية والمآرب الذاتية، وتبقى أبواب المنازل الخارجية مفتحة غير مغلقة، لأنه لن يبقى وجود للصوص والنشالين والخونة المارقين، وهذا ما يسميه (التماثل الأعظم).
كان نجاح كونفوشيوس بعد موته، لأنه كان يركز في فلسفته على نغمة سياسية عملية حببتها إلى قلوب الصينين، واستمسك مفكرو القرون التي أعقبت موته بمبادئه، واتخذوها سبيلاً إلى تسلم المناصب العامة، وغدوا أقوى فئة في الإمبراطورية بأجمعها، وانتشرت المدارس لتعلم الناس فلسفته وآراءه السياسية، رغم مناهضتها من فئة عرفت بـ "القانونيين" ظهرت آراؤهم ثم اختفت مرة بعد مرة في تاريخ الحكم الصيني، ولكن النصر في آخر الأمر كُتب لفلسفة كونفوشيوس، وتبين أن (قوة البيان أقوى من قوة السنان). واستلم الكونفوشييين مناصب الدواة، أيام حكم أسرة هان، وبعدها أسرة تانج، وقُرِّبت القرابين تكريماً لكونفوشيوس، وشُيِّد هيكل له في كل مدينة وقرية في جميع أنحاء الإمبراطورية في عهد الامبراطور تايزونج الأعظم 598- 649م. وأصبحت الكونفوشيية، التي طورها أحد أحفاده ومريدو مريديه، مسيطرة على العقلية الصينية وتصوغها في قالبها ما يقرب من ألفي عام، واعتمدت ديناً رسمياً للدولة، وأكسبت الشعب الصيني كرامة وعمقاً في التفكير، وحياة اجتماعية متناسقة متآلفة، وبعثت في نفوس أبنائه إعجاباً شديداً بالعلم والحكمة، ورسخت ثقافة مستقرة هادئة بما مكنها أن تشكل غزاة الصين على صورتها وتطبعهم بطابعها.
ويمكن القول إن العقيدة الكونفوشية، هي فلسفة وضعية، اتجهت إلى عقل الإنسان، وليس فيها لأية روحانية، ولا اعتماد على قوى خارقة للعادة، وتنفي كل ما له علاقة بما وراء الطبيعة، وإن ما نعرفه يجب أن نعرف أننا نعرفه (إنك من الحياة لا تعرف شيئاً، فكيف لك أن تعرف شيئاً من الموت؟). ولم يشغل كونفوشيوس باله إلّا بالإنسان وبالأشياء الإنسانية، ويجب أن ينشئ، بعيداً عن كل ميتافيزياء، منطقاً يجعل الإنسان يفكر جيداً، ويعبِّر بصورة جيدة، وأخلاقاً تقود الإنسان إلى السعادة، إنه يريد إنشاء علم للغة والأخلاق والأعراف، ويتجاهل كلياَّ، مشكلة وجود الله أو عدم وجوده.
وبهذا تغليت الكونفوشية وتقديس الأسلاف على كثير من الديانات المنافسة، وقاومتا هجمات كثير من أعدائهما، وخرجتا ظافرتين، لأن الصينيين وجدوا فيهما الضمانتين الدينيتين لهذه الحياة.