كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

سورية في غابر الأيام

مروان حبش- فينكس

 شرق شواطئ البحر المتوسط تمتد سورية تحت حكم حاضرتها دمشق التي لا تزال تفخر بأنها من أقدم مدن العالم، تحميها الصحراء المحيطة بها، وقد أحالتها إلى حديقة غناء روافد وفروع ذلك النهر الذي سماه الأقدمون "نهر الذهب" اعترافاً منهم بفضله. وكانت تلتقي عندها كثير من طرق القوافل، وتفرغ في أسواقها غلات قارات ثلاث. وظل ملوكها زمناً يسيطرون على اثنتي عشرة أمة صغيرة من حولهم، وأفلحوا في مقاومة ما كان يبذله الآشوريون من جهود لإخضاعها لحكمهم.
كانت دمشق موئلاً للسوريين المتعطشين للحرية، وكان أهلها من التجار الذين استطاعوا أن يجمعوا ثروة طائلة من تجارة القوافل التي كانت تجتاز جبال سورية وسهولها، وقد حذق صناعها بتشكيل الفخار الجميل، ونحت العاج، والخشب، وصقل الحجارة الكريمة، وكانت أزياء الأهلين وعاداتهم وأخلاقهم شديدة الشبه بنظائرها في بابل (باريس الشرق القديم المتحكمة في أذواقه).
وعلى الجزء الشمالي من ساحل البحر الأبيض المتوسط، كانت في القرن التاسع قبل الميلاد مدينة صور الغنية، وكانت (الفضة التي تجمعت فيها كأنها التراب، وكان الذهب كأنه وحل الطرقات)، وقال عنها استرابون: (إن بيوتها من طبقات كثيرة، بل إنها أكثر طبقات من بيوت روما). وقد ظلت بفضل ثرواتها وبسالة أهلها مستقلة حتى أيام الاسكندر. وكانت تصدر منسوجاتها ذات الألوان المتعددة الجميلة. وكانت صيدا في بداية أمرها حصناً، ثم نمت نمواً سريعاً وأصبحت مدينة مزدهرة غنية، واشتهرت بصناعة أحسن المراكب، واكتشفت طريقة صنع الزجاج بالنفخ وتخصصت في صناعته وفي صناعة البرونز. ولقد أبت على سكانها أنفتهم وعزة نفوسهم أن يسلموها للفرس الذين حاصروها، فأضرموا النار في مبانيها ودمروها عن آخرها، ثم أعيد بناؤها فيما بعد حتى إذا جاءها الاسكندر وجدها مدينة مزدهرة.
وكانت مدينة بيبلوس (جبيل) تظن نفسها أقدم مدن العالم كلها، وأنشأها الإله إيل في بداية الزمان، وكان البردي من أهم سلعها التجارية ومن اسمها اشتق اليونان اسم الكتاب بيبلو (Biblo)، ومن هذه الكلمة نفسها اشتقت كلمة (Bible) الإنكليزية اسماً للتوراة.
وبيروت التي اشتهرت بمدارس الطب والبلاغة والقانون.
أما بعلبك وبقايا الهيكلين الفخمين بمدخلهما العظيم، مدينة الشمس السورية- اليونانية- الرومانية، ومركز عبادة الإله بعل، ومن ُثم أقام الرومان في مكان هذا الإله معبداً ضخماً لجوبيتر، وهي ملتقى الطرق الذاهبة إلى دمشق وصيدا وبيروت.
وعبر الصحراء السورية تقع العين على تدمر، مدينة الألف نخلة (بالميرا)، كانت أرضها الخصبة المحيطة بنبعين نضاحين، وكان موقعها المميز على الطريقين من حمص ودمشق إلى نهر الفرات سبباً في ثرائها، فلم تلبث أن أصبحت من أكبر مدائن الشرق، وكان على جانبي شارعها الأوسط الرئيسي أروقة ظليلة تحتوي على 454 عاموداً مع الأقواس الفخمة بعظمتها وجلالها، وكان هيكل معبد الشمس (عام 30م) أعظم وأجمل مبانيها وكان هذا الهيكل للثالوث الأعظم "بعل – الشمس- القمر". ويبدأ من تدمر طريق رئيسي يتجه نحو الشرق ويصل إلى نهر الفرات عند مدينة الصالحية "دورا – أوربوس" وهنا اقتسم التجار (عام 100 م) مكاسبهم مع الثالوث التدمري بأن شيدوا له هيكلاً، وزين فنان سوري جدرانه بمظلات تدل بشكل واضح على أن الفن البيزنطي والفن المسيحي الأول من أصل شرقي. وكان على نهر الفرات شمال هذه المدينة، مدينتان أخريان ذواتا شأن عند ملتقى طريقين بريين كبيرين وهما "ثبساكوس، وزجما" وإلى غربهما مدينة حلب، ومدينة أفاميا، ومنهما إلى مدينة اللاذقية ذلك الثغر الناشط على البحر الأبيض المتوسط.
وتمتد قرى غنية على شاطئي نهر العاصي في مسيرته نحو الشمال السوري، حتى يصل مدينة انطاكية عاصمة سورية في عهدي اليونان والرومان، وكان النهر بمعاونة شبكة عظيمة من الطرق البرية يحمل بضائع الشرق إلى انطاكية. بينما كانت مدينة السويدية أحد ثغور سورية المزدهر على البحر الأبيض المتوسط، وعلى بعد خمسة وعشرين كيلو متراً من انطاكية نحو مصب النهر تأتي إليها بحاصلات الغرب.
كانت انطاكية من أجمل مدائن الشرق الهلنستي، وكانت شوارعها تضاء بالليل فتكسبها بهجة وجمالاً، وشارعها الرئيسي مرصوفاً بأحجار كبيرة صلبة، ويقوم على جانبيه صفان من العمد المسقفة، فكان في وسع المرء أن يسير راجلاً من أحد ظرفي المدينة إلى طرفها الآخر وهو آمن من المطر والشمس، وكان الماء النقي يصل بوفرة إلى كل بيت من بيوتها، وكان سكانها آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم، كما اشتهروا بإفراطهم في اللهو والمرح ويسخرون من الرومان المتباهين الذين جاؤوا ليحكموهم، وكان للأهلين أعياد كثيرة، تستمتع الإلهة "أفروديت" بنصيب فيها كلها، وفي عيد "بروماليا" الذي كان يدوم معظم شهر كانون الأول، كانت المدينة كلها تبدو كأنها حانة واحدة، وكانت الشوارع تعج طول الليل بالغناء والقصف والمرح.
كان في انطاكية مدارس لتعليم البلاغة والفلسفة والطب، وكان أهلها إذا احتاجوا للدين لجأوا إلى المنجمين، والسحرة، والمشعوذين.
إن المشاهد التي تطالعنا لسورية في ذلك الزمن الغابر، وأيضا، في عهد الحكم الروماني 64 ق.م- 637 م، هي مشاهد البلد الرخي رخاء أدوم من رخاء أية ولاية أخرى من ولايات الإمبراطورية الرومانية، وكان معظم سكانها من الأحرار. وكانت التماثيل المنحوتة والصور الملونة ذوات وجوه وأشكال نصف شرقية، وكانت أهم لغات السكان هي الآرامية لغة التخاطب بين الأهلين، أما اللغة اليونانية كانت السائدة في الأدب ودور الحكومة، وقد طبقت شهرة علمائها الكثيرين العالم كله.
كانت سورية في ذلك الزمن تفوق كثيراً من البلدان في صناعاتها ورخائها، وكان يسكنها في القرن الأول الميلادي عشرة ملايين من السكان.
كان في سورية نحو خمسين مدينة تستمتع بالماء النقي، والحمامات العامة، والمجاري الممتدة تحت الأرض، والأسواق النظيفة، ومدارس التدريب الرياضي، وساحات الألعاب، وصالات المحاضرات، والموسيقى، والهياكل، والباسقات، والأروقة المعمدة، والأقواس، والتماثيل، ومعارض الفن العمومية.
وازدهرت المدن السورية التي كانت تغذيها التجارة الواسعة، والتي كانت تحكمها طبقة من التجار الأثرياء حذقت فنون السياسة الخارجية والمالية وأصبحت من أغنى مدن العالم.
وكان خصب التربة في سورية يرمز له بأم عظيمة أو إلهة اتصالها الجنسي بعشيقها هو الذي يوحي إلى أن جميع جهود الطبيعة وعملياتها الإنتاجية. وكان عيد عشتار السورية يحتفل به بالانقلاب الربيعي، بحرارة تكاد تبلغ حد الجنون.
دامت سورية زمناً طويلاً على رخائها وانتاجها المتنوع وحركتها التجارية في البر وعبر البحار إلى كل مكان معروف على ظهر الأرض، بفضل عمالها البارعين المجدين، وتجارها المهرة، وبفضل موقعها الجغرافي.
بينما سكانها الآن، وفي الألفية الثالثة بعد الميلاد، فقراء ولا يجدون ما يكفيهم من أسباب العيش.