كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

هذا ليس مشهداً من فيلم!

ميلاد أنور الشلفي- فينكس
فتحت عيني بصعوبة ولم أرَ سوى الظلام الحالك… وفي الظلام كانت هناك أصوات بعيدة تقترب مني ببطء ثقيل… قلت لنفسي: "حسناً، يبدو أني نائمة وأحلم أني نائمة "هذا يحدث معي عادة كما في الأفلام التي تسرقك من عالمك لتعيش في عالمها هي، حيث تستطيع أن تقاتل جيشا من المستذئبين وحدك، ثم إذا تعبت تتوقف فجأة لترتشف فنجان قهوة في استراحة مفتوحة… لكن مهلاً، هذا المشهد يبدو لي حقيقيا أكثر من اللازم… أنا ممددة في مكان أضيق من قبر، ولا أستطيع الحركة… كنت اختنق، كأنما على صدري كل جبال الأرض… أحاول بالأنين زحزحتها قليلا، وكل عظمة في جسدي كأنما تنشر بمنشار رهيب…

مر وقت طويل، تخيلته أطول من عمري الذي لا أتذكر تماماً متى إنتهى فجأة وعاد إلا حين صارت تلك الأصوات البعيدة أقرب… صار أنيني أعلى، ليتحول سريعاً إلى صراخ: "أنا هنا"... و أبكي خائفة.
*
بداية المشهد الجديد… ضوء ساطع يصفع وجهي لأستيقظ… ومن ورائه أصوات بلا ملامح تطلب أن لا أخاف..
" ماشاء الله… قمر" قالها أحدهم صارخاً لكثرة الأصوات التي تجمعت حولنا، ثم سألني وهو يحملني بذراعين قويين، عن اسمي! وعن أفراد أسرتي! هل بقي منهم أحد حي!... و… لم أرد… كنت في صدمة من هذا السؤال الذي جعلني أبحث عن نفسي كأني فقدت الذاكرة… هل أنا فعلاً قمر؟… أعني هل إسمي قمر؟… أين أنا؟ وهل بقي أحد حي!؟…
*
فجأة بدأت أستعيد وعيي قليلا حين كانت مجموعة أشخاص تحملني مسرعة إلى سيارة إسعاف عند حافة ركام منزلنا الذي كان… لا بل حارتنا… لا بل مدينتنا التي تم قصفها والناس نيام… هذا ما عرفته لاحقاً، وهذا ما أشاهده الآن من السماء… كأنما فاتني يوم القيامة… الخراب والدمار في كل زاوية، وعلى امتداد النظر، أينما يممت وجهي لا مشهد واحد بلا قصف بلا دماء بلا دموع بلا صراخ… لا غالب إلا الموت هنا… ولا أحياء سوى الشهداء…
*
لحظات الرعب والألم لا يمكن أن ينساها بشر…
وألمح جارنا الطيب من أعلى، كالمجنون يجري مصابا وحافيا نحو سيارة الإسعاف، يدفع الناس يمينا ويسارا ليمر… أعود إلى داخل السيارة، كنت أريد أن أسأله عن أبي وأمي واخوتي، لكني وجدت نفسي مكدسة تحت أشلاء عشرات الجثث لرجال ونساء وحتى أطفال… وإزداد فزعي من رأس طفل بلا جسد، تخيلته بكل براءة الأطفال يقول لي: "إذا وجدتي أبي أخبريه أني سبقته إلى الجنة."... تموء قطة بجانبه فيقول: "وقطتي أيضا؟"... واختفى المشهد على صوت قصف عنيف.
*
في المستشفى، جارنا الطيب يرقد بلا أطراف إلى جانب العشرات من الجرحى على أسرة دامية… كانت رائحة الموت تنبعث من كل شيء في هذا المستشفى كما في الخارج، لا فرق… اختلط الأطباء بالقتلى والجرحى وفوضى المكان… أرى امرأة تبكي وتتوسل الأطباء أن يجدوا إبنها الذي وصفته بـ: "شعره كيرلي و أبيضاني وحلو"... فتاة تصرخ بلا عيون… فتاة أخرى تبكي دماً… طفل مرعوب لا يدري ما الذي يحدث، ولا أين يهرب منه… فتاة ثالثة تصرخ: "هذه أمي، أعرفها من شعرها "... يظهر في وسط المكان شبح طبيب ملتحي، يصرخ هو الآخر في وجه رجل يبكي لموت ابنه بين يديه: "لا تبكي، كلنا مشاريع شهادة "...
مجموعة مسعفين تقتحم المكان بمصاب فوق سرير متحرك، وفوق صدر المصاب ممرض يُجري عملية انعاش يدوي، وفي الممر اصـطدموا باسطوانات أكسجين فارغة قبل أن يقوم طبيب ببتر قدم المصاب بلا تخدير…
" لا وقت، إما أن يسبقنا الموت إلى من نحب أو نسبقه في هذا المستشفى، فقط لنسجل اسمه فيصبح رقما يتداوله رواة الأخبار في مختلف قنوات العالم، بكل لغات العالم "، هكذا أرى وأسمع مراسلا يخاطب بعصبية كاميرا زميله المصور…
*
القليل ممن بقي حيا كان يتمنى لو أنه مات على أن يعيش وحيداً ليدفن كل أفراد أسرته دفعة واحدة… هذا ان وجدهم تحت الأنقاض… أو على الأقل وجد بقايا منهم… لذلك كانت الأسماء تكتب على سواعد الأطفال، حتى يتم التعرف عليهم حين يدفنون أشلاء…
هنا إلتفت إلى ساعدي… كدت أبكي حين لم أجد إسمي… بدلا عن ذلك صرخت رعبا لأني لم أجد ساعدي!…
*
أتذكر جارنا الطيب، وأعود باكية… لم أجده في مكانه، بل في كفن أبيض… تقريباً أبيض، وعليه إسمه… حتى أنا… كان اسمي مكتوبا على قماش أبيض "قمر ".
*
نعم… أنا " فلسطين"... هذا ما حدث لي، وليس مشهداً من فيلم!.