كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حال الشباب السوري في الطبيعي اللاطبيعي

المستقبل - الاحد 8 كانون الثاني 2006 - العدد 2147 - - صفحة 10

دمشق ـ أُبيّ حسن

ليس بالضرورة أن يكون الطبيعي في سوريا الحديثة، من غير أن نغفل إلحاق مفردتي التطوير والتحديث بـ"حداثتها"، هو الطبيعي ذاته في دول أخرى. فإذا كان من الطبيعي أن يتظاهر الناس، في فرنسا أو الأرجنتين أو البرازيل وسنغافورة وماليزيا أو حتى الصومال...، مثلاً، ضد حكوماتهم احتجاجاً على قانون جائر، أو جرّاء غلاء الأسعار وتدني الرواتب، أو رفضاً للبطالة ـ في حال وجدت ـ مطالبة بإيجاد فرص عمل للعاطلين عنه، أو بغية التضامن مع سجين رأي، فمن غير الطبيعي أن يتظاهر الناس في سوريا الأسد للأسباب السابق ذكرها! لا بل الطبيعي في سوريا (الحديثة) هو مسيرات الولاء "العفوية" وترديد الهتافات التي يعلن مردّدوها فداءهم للشخص بـ "تلقائية" عزّ نظيرها (وبحكم العادة ومرور الزمن غدت فعلاً عفوية وتلقائية)! ومن الطبيعي أن هذه المسيرات "العفوية" مناسبة للتأكيد على "الالتفاف" الجماهيري حول "الرمز" و"الملهم" (بكسر الهاء وفتحها، إذ يجوز الوجهان)، وهي في الوقت نفسه مناسبة لالتقاء العشاق وطالبي الوصال من الشباب والشابات. وإذا كان الطبيعي أن تكون نتائج صناديق الاقتراع لمنصب الرئاسة، في أي بلد يحترم نفسه ولو قليلاً، متباينة بين المتنافسين، فالطبيعي أن لا يكون في سوريا منافسون لـ"العقل" المبتدع للتسعات الثلاث التي مع بالغ "الآسف" لم يكتشف أو ينعم الغرب بـ"ميزاتها" بعد.
وإذا كان الطبيعي أن يشكِّل الناس أحزابهم التي يرون في وجودها تحقيقاً لمصالحهم، وينظموا حياتهم في جمعيات ومنتديات ثقافية واجتماعية وأهلية حرة (حتى في جبال تورا بورا أصبحت توجد مثل هذه الحرية)، فمن غير الطبيعي أن يكون شيء من هذا القبيل في قلعة "الصمود والتصدي". وإذا كان الطبيعي أن تكون مهمة أي جهاز أمني في أي بلد يهمه شعبه هي أمن المجتمع والدولة والمؤسسات، فالطبيعي أن تكون مهمة الأجهزة ذاتها في بلاد الحزب الواحد هي النهب والسطو والقمع والإرهاب وتخوين المواطنين وبث الرعب في المجتمع وتفكيك أوصاله، بذرائع "أمنية" تارة، وقومية ووطنية تارة أخرى. ومن اللافت للانتباه أن كل "العملاء" و"الخونة" الذين كان لأجهزة "الأمن" السورية "شرف" القبض عليهم هم مواطنون سوريون أقحاح، فلم يسبق أن سمعنا أنهم ألقوا القبض على جاسوس إسرائيلي في سوريا!؟ ولِمِ الغرابة في ذلك؟ أليس الخراب الذي خلفّته(وما تزال) هذه الأجهزة ورعاتها أخطر من أي عمل تخريبي أو تجسسي خارجي؟
ويمكننا مقارنة سوريا الأسد غير الطبيعية بالنسبة لغيرها، مع سوريا الوطنية الطبيعية في زمن ولى ومضى. فقبل أن تُغتصَب الدولة السورية ويدمّر المجتمع في 8/3/1963 كان من البديهي أن يتظاهر الناس عندنا بملء إرادتهم من أجل سوريا السوريين، أو من أجل الوجه القومي المشرق لسوريا، لا من أجل سوريا زيد أو عمرو من الناس. لذلك كان من الطبيعي أن ينطلق الشباب الجامعي السوري عام 1956 في مظاهرة إلى أمام البرلمان السوري، هدفها الضغط عليه بغية إسقاط صفقة القمح الموقعة مع فرنسا، تضامناً مع ثورة الشعب الجزائري ضد الفرنسيين. تلك المظاهرة لم تنظمها مخابرات القائد (أو الحزب "العملاق"، لا فرق)، ولم تنظمها أجهزة السلطة رغم أنها كانت وطنية بامتياز، إنما نظمتها قوى مدنية وسياسية وطلابية كانت تعكس واقع الحياة الطبيعية لسورية، بما تنطوي عليه من حراك سياسي انخرط فيه الشباب على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والعرقية والدينية. ولسنا في حاجة للتأكيد أنه حراك يتماشى وسنن الطبيعة والحياة والتاريخ وفق منطق جدلي طبيعي، ومن المؤكد أنه لا يمكن مقارنته أو مقاربته بحال الشباب الجامعي الذي حمل عصياً مموهة بأعلامٍ وطنية ذات ظهيرة من ظهيرات "التطوير والتحديث" ليقمع بها اعتصاماً نظمه العشرات ممن بقي فيه "شرش" حياء احتجاجاً على قانون "الطوارئ".. لا غرابة إطلاقاً أن تشهد سوريا مسيرة شبابية هدفها تأييد قانون الطوارئ، إذ ببساطة هم لا يعرفون ما هو هذا القانون!
ولأن الحياة في سوريا كانت حقاً طبيعية، فقد أنشأت مجموعة من الشباب في سنيهم الجامعية الأولى، وفي عهد الانفصال "الرجعي" 1962منتدى ثقافياً، أطلقوا عليه اسم "المنتدى الاجتماعي"، كان هذا المنتدى (الذي بقي مغلقاً طوال عقود من حكم البعث "التصحيحي")، ثمرة من ثمار المناخ الصحي الذي يعيش في ظله البشر أينما تواجدوا!
إذاً نحن أمام سوريتين، سوريا الطبيعية التي كانت موجودة قبل كارثة 1963، وسوريا غير الطبيعية التي ولدت بعيد الكارثة التي تكرست بمجيء 1970. وبين هاتين السوريتين تغيرت حال الشباب السوري وآلية تفكيره ووعيه بصورة كلية إلى درجة صار من الصعب معها تسميته وعياً، إذ هو أقرب إلى المسوخية العقلية إن جاز التعبير، وفي أكثر الحالات تفاؤلاً هو وعي شقي كما سماه هيغل. وما هذا التغير أو المسخ سوى نتيجة طبيعية لطريقة حكم الأنظمة الشمولية التي تعمل على إلغاء العقل الجمعي للمجتمع بما فيه من وعي فطري، لتجعل من كل دابٍ على اثنتين مجرد دابة (على أربع) تأكل وتشرب وتنام وتهتف بنعم، أو رقم وكمّ ديمواغرافي لا أكثر، يتذكرونه في المناسبات "الوطنية" إن شئتم.
تكمن خطورة ذلك المسخ العقلي المتعمد من قبل الأجهزة المعنية في أنه طال (وما يزال) عنصر الشباب صنّاع المستقبل وزاد معركة المصير (إن كان ثمة معركة بعد)، ولنا أن نتساءل والحال هذه: أي مستقبل ينتظر من شباب لا يجيد سوى الهتاف للرمز والشخص والقائد "الضرورة" ولعن الإمبريالية والصهيونية وإسقاطهما (في هتافات الشارع فقط) وإحالة كل شيء إلى نظرية المؤامرة، في وقت هو أجبن فيه من أن يطالب بأبسط حقوقه السياسية في وطنه؟! أي أمل يرجى من شباب جدله السياسي ومنطقه الاجتماعي هو نتاج ثقافة الخوف التي يمكن اختزالها بـ"مانك مطوّل بدك تروح لبيت خالتك"، أو "لسه ما صارت نمرة رجلك خمسة وأربعين؟"، وفي أحسن الحالات تفاؤلاً هو"وعي" يتسلح بسياسة هروبية من "عطاءات" الذعر الذي بثّه الاستبداد كـ"مئة أم تبكي ولا أمي تبكي"..
قطعاً لم تكن حال الشباب السوري طوال عهودها كما بينّا أعلاه، حتى في عهد ديكتاتورياتي حسني الزعيم وأديب الشيشكلي (رزق الله لهدنك الديكتاتورية ريتها ترجع) لم تبلغ الحال بشباب سوريا السوء الذي بلغته في عهد "الطلائع الثورية"، لكن ما مكن النظام الشمولي الراهن من السيطرة على العقل الشاب هو: 1ـ الإعلام السلطوي (ومن يدور في فلكه من إعلام القطط المدللة داخلياً ـ مؤخراً ـ و الإعلام المأجور خارجياً)، وهو إعلام فعله في عقل الداخل (خاصة أنه لم تكن ثمة فضائيات ووسائل اتصال متقدمة) ليس أقل من فعل المخدرات أو المسكرات؛ ناهيك عن أن من أبرز مهماته تأليه الشخص وإقناع الرعية بأن الشخص ينحدر من سلالة الآلهة لا البشر. ولا شك بأن إعلاماً يسهل عليه هذا، لن يجد غضاضة في تصوير الاستبداد ديموقراطية، والتطرف اعتدالاً، والإرهاب الداخلي رحمة وطنية، ونهب ثروات البلاد نعمة، والفساد مكرمة، والنقد خيانة، والمعارضة عمالة، وقيام الشخص "الرمز" بواجبه عطاء، وإهانة المجتمع وإذلاله منحة، واللانظام نظاماً، والتسلط هبة، والهزيمة نصرا، والمقامرة بوجود الوطن حكمة، إلخ....
2ـ أما الأمر الثاني فهو عن طريق تجفيف الذاكرة الوطنية الجمعية لتاريخ سوريا القرن العشرين. وقد تم ذلك من بوابتين اثنتين، أولاهما بوابة مناهج التعليم المدرسي، لا سيما مادتي التاريخ والتربية الوطنية (أصبحت تربية قومية لاحقاً)، وحتى كتب التربية الإسلامية المفترض أن لا علاقة لها بالسياسة كان من المحال أن لا تتطرق إلى حكمة الفرد والإطراء عليها.. وإذا أخذنا كتب التاريخ ككتاب "تاريخ العرب الحديث والمعاصر" لصف الثالث الثانوي الأدبي مثالاً، نشهد كيف ينهك واضعو الكتاب عقل الطالب بتفاصيل صراع عشائر اليمن في ما بينها ويدخلون به في تفاصيل قتل الابن لأبيه أو الصهر لحميه بإيعاز من الخارج في "سبيل" اليمن "السعيد"، وما ينطبق على اليمن ينطبق على الأردن والسعودية وما تبقى من دول عربية من جهة الإسهاب في الشرح والوصف المدرسي، اللهم لا غضاضة في هذا، لكن لو كانوا يفعلون الأمر ذاته أثناء تدريسهم ذات الطالب تاريخ بلاده، وتحديداً الانقلابات العسكرية التي عصفت بسوريا مغيرة خارطتها السياسية والاجتماعية والعقلية، إذ تختزل بأربعة أسطر فقط (!؟)، وذات الاختصار يتكرر حين التطرق لـ"ثورة" الثامن من آذار "المجيدة"، طبعاً من دون التطرق لأي من شخصيات سوريا السياسية أو العسكرية أو الوطنية ـ كأن ذكرها رجس من عمل الشيطان!ـ التي كان لوجودها دور مفصلي في حياة البلاد ابتداء من الشهيد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مروراً بفارس الخوري وهاشم الأتاسي وخالد العظم ومعروف الدواليبي وناظم القدسي وسعد الله الجابري وأكرم الحوراني وزياد الحريري وأمين الحافظ ومحمد عمران ونور الدين الأتاسي وصلاح جديد (والأربعة الأُخر كانوا من رفاق الأمس) إلخ... أما أثناء الحديث عن "الحركة التصحيحية" فإن الفيض الإلهي يفيض على واضعي هكذا مناهج وفهمكم كفاية.. السؤال المشروع الآن: كيف سأثق كقارئ بواضعي هكذا مناهج وبالغرض المنشود منها؟ وهل يدركون أي جريمة يرتكبونها بحق العلم والمعرفة، وبحق الإرث الوطني لسوريا الذي كان من "ثماره" افتقاد الشباب السوري لذاكرته الوطنية؟
وقبل أن أغلق هذه البوابة، يمكننا إضافة مغذٍّ رئيسٍ لها، ألا وهو منظمة طلائع البعث التي تعتبر بحق حاضنة حقيقية لتفريخ المسوخية الفكرية والمعوقات العقلية لدى الأطفال (شباب المستقبل).
البوابة الثانية التي ساهمت في هذا التجفيف المعرفي وقطع الصلة الطبيعية ما بين الشباب وإرثهم الوطني هي ـ مرة أخرى ـ الإعلام الذي كان شأنه في هذا المنحى شأن مناهج التعليم ومنظمة طلائع البعث. وهنا سأكتفي بذكر حادثة رواها لي أحد الزملاء المقربين من النظام، قال: أوائل ثمانينات القرن الماضي، أراد صحافي في جريدة "الثورة" أن ينشر تحقيقاً عن وضع المستشفيات في سوريا، ولسبب ما لم يأخذ صوراً حية، إنما استعان بالأرشيف حيث ظن أنه وجد مطلوبه. تفاجأ إدارة الجريدة (والناس كذلك) صباح توزيع العدد بسحبه من المكتبات والأسواق. وعندما حاول البعض معرفة السبب تبين أنه كامن في الصورة المأخوذة من أرشيف الجريدة. لم تكن الصورة لموشي دايان أو ديفيد بن غوريون أو أي مسؤول إسرائيلي آخر، فقد كان من المحرم ظهور أمثالهم في الصحافة البعثية. ببساطة كانت الصورة للرئيس السوري الراحل نور الدين الأتاسي وهو في جولة تفقدية لإحدى المستشفيات. لكن، وبافتراض أن المحرر لا يعرف الرئيس الأتاسي اسماً حتى يعرفه شكلاً، ارتكب سهواً هذا "الجرم" الوطني. اكتفي بهذا المثل البسيط والمعبِّر عن كيفية تواطؤ الإعلام السلطوي في تجفيف ينابيع الذاكرة الوطنية لسوريا.
هذا هو الجو السياسي والثقافي السلطوي الذي عاش فيه الشباب السوري منذ نعومة أظفاره حتى الآن، وفي مثل هكذا أجواء غير صحية من البديهي أن يكون الرأي العام (في حال وجد) صدى باهتاً وممجوجاً لرأي النظام، وهو، بطبيعة الحال، رأي لا يعتد به، ولا يعوّل عليه، فهو أبعد ما يكون عن العقل. ولا حاجة بنا لذكر استشهادات وأمثلة من الماضي القريب، سواء أكان في أزمة سوريا مع فرنسا (الصديقة سابقاً، "العدوة" لاحقاً)، أم من خلال ما آل إليه الوضع السوري اللبناني جرّاء السياسات "الحكيمة"..

يبقى القول إنه لمن الإجحاف أن نحمّل ما آل إليه وضع الشباب إلى النظام وحده، إنما هم من يتحمل القسط الأوفر من خلال تكاسلهم وابتعادهم عن الشأن العام تماشياً مع مقولة "امشي الحيط الحيط ويا ربي السترة". وكذلك أحزاب المعارضة تتحمل مسؤولياتها في هذا الجانب. فهي بابتعادها عن هموم الشباب ومشاكلهم، تركتهم لقمة سائغة في فم ثقافة الخوف.. ثقافة السلطة. ومهما يكن الأمر تبقى حالهم من حال المجتمع السوري ككل، وأمراضهم من أمراضه التي رعتها السلطة إما تصديراً وإما تكريساً.. السلطة التي تذكرنا بـ"مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل.. يا إلهي كم من الضروري أن يقرأ الشباب السوري اليوم هذه الرواية عساها تساعدهم في الخروج من أوهام سكنت عقولهم طوال عقود.