الاستبداد و"حيونة" الانسان
أُبي حسن- عدة صحف ومواقع عربية ومحلية- 2005- 2006
مما لا شك فيه أن الحاضن التاريخي للشرق العربي أفرز ظروفاً غير سوية، لكنها بفعل عامل الزمن غدت طبيعية (على الرغم من رداءتها)، فالبقعة الجغرافية التي فيها نعيش اختصت، على مدى قرون، بإنتاج الاستبداد وتعميمه.
في مناخ غير صحي كهذا، كان لا بد للمشتغل بالأدب والإبداع أن يتأزم، وبافتراض أن هذا المشتغل أو ذاك لا يستطيع التعبير عن أزمته على نحو مباشر لأسباب لا نجهلها، عادة ما كان يلجأ إلى التاريخ بغية محاورته ومساءلته عساه يصل إلى إجابات شافية عن علة (أو علل) الواقع المزري، وهذا ما فعله ممدوح عدوان في مسرحياته (ليل العبيد) و(كيف تركت السيف) و(محاكمة الرجل الذي لم يحارب).
على ما يبدو أن ممدوحاً اكتشف أن اللجوء إلى التاريخ هو من صفات الأديب المطعون بخنجر الفساد الناجم عن الاستبداد بقدر ما هو من صفات الأمة المهزومة، وهو ابن أمة مهزومة دون ريب، فقرر أن ينفض غبار الطعنة عن ذاته المجروحة/ ذات المجتمع، بفعل سياسات أنتجت مجتمعاً معوقاً على شاكلتها، موظفاً كل طاقته الثقافية وخبرته الإبداعية لمواجهة هذا الواقع بغية فضحه وتعريته بكل ما فيه من قبح وطغيان دون مداورة من خلال الهروب إلى التاريخ، وهذا ما نجده في كتابه (حيونة الإنسان).
يسلط عدوان، في كتابه هذا، الضوء على أزمة الإنسان/ المجتمع الذي أفسده الاستبداد إلى درجة نتذكر معها ونحن نقرؤه "طبائع الاستبداد" للكواكبي. فالطاغية المستبد الذي يعمل على إفساد مجتمعه بغية توطيد أركان حكمه لا يؤمن بحق الاختلاف ولا يرى في الآخر سوى كم ديموغرافي، إذ الطاغية يفكر بالنيابة عن الآخر ويعمل بالنيابة عنه أيضاً، ويحتكر الوطن وخيراته بالنيابة عنه. وإن كان لا بد له من أن يؤمن بالآخر فيجب أن يكون هذا الآخر كله على شاكلة واحدة (نعجة دوللي)، ومبرر وجوده التملق والمشاركة في مهرجانات النفاق، وأعوان الطاغية كما يورد عدوان نقلاً عن د. إمام عبد الفتاح إمام "يختار الطاغية الفاسدين من البشر في نظام حكمه ليكونوا أصدقاء له، فهم عبيد النفاق والتملق، تسره المداهنة، وينتشي من النفاق، ويريد من يتملقه". ولأنه لا شرعية قانونية لسلطة الطاغية فهو يلجأ إلى تعميم الفساد والذعر في المجتمع. فالمجتمع الفاسد لا يحق له محاكمة الحاكم الفاسد (؟!)، والمجتمع المذعور لا يجرؤ على مساءلة الطاغية. وكي يتم الحكم للطاغية يحتاج، كما يذكر المؤلف عن لينين "الطبقات الحاكمة كلها تحتاج من أجل الحفاظ على سيطرتها إلى وظيفتين اجتماعيتين هما الجلاد الكاهن"، فعلى يدي الجلاد، كما يرى عدوان، يولد الإنسان المقموع والمذعور، وستبرز (حيونة) الجلاد عندما "يحرص على أن لا يموت السجين، ليس فقط خوفاً من المسؤولية التي يتم تبريرها ببساطة، بل للمحافظة على إذلاله حتى الدرجة القصوى وإيصاله إلى حالة مزرية من الكبرياء والقيمة والاحترام". فالجلاد بعد شحنه بفكر معين وعواطف وأحقاد خاصة، يؤمن بأنه يؤدي خدمة (ونعم الخدمة).
إذاً ليس غريباً أن يدين المؤلف سلطات القمع المولودة من رحم الأنظمة الشمولية التي تعمل على غرس الخوف في نفس كل واحد منا، "الخوف الذي يشجع كل من حوله على التطاول، فضلاً عن أن الطغيان يريد غرس هذه الرهبة الدائمة لكي يضمن استقراره" طبعاً بذريعة استتباب الأمن وإن غرس الفساد أنيابه في المجتمع المقموع أصلاً.
قبل الانتقال إلى الشق الثاني من الوظيفة التي يحتاجها الطاغية/ الطبقات الحاكمة، وأعني رجل الدين، يجب علي الاستطراد بغية التنويه أن المؤلف لا يؤمن بأن الوحشية التي يتحلى بها الجلاد والتي ستنعكس أيضاً على الآخر (السجين أو المجتمع) غريزة عدوانية قدر ما هي ممارسة وتطوير، إذ ليست الوحشية قدراً أمام الإنسان لا مفر منه، فليس هناك، حسب رأيه "قدر محتوم على البشر كي يتحولوا إلى جلادين وضحايا، لكن أنظمة القمع والاستغلال هي التي تريد إبقاء البشر عند مرحلة الحيوانية الغريزية، وحين يحاولون الخروج من هذه الشروط تثبتهم فيها، من خلال القسر" ليرى أن السلطة هي كما يقول لسبيون ويل: "القدرة على تحويل الكائن الحي إلى جثمان ومن ثم إلى شيء".
فيما يخص تحالف الاستبدادين الديني والسياسي، فهو ليس أمراً عارضاً في حياتنا قدر ما هو متجذر، تاريخياً، في بنيتنا المجتمعية، وهنا تأتي الوظيفة الاجتماعية (التاريخية) لرجل الدين الذي يتحالف مع السلطة التي "تدرك أن شرعيتها التي تشك هي فيها تحتاج إلى مؤازرة من المرجعيات الدينية". وسيكون لهذا التحالف ثمنه كما يبين عدوان بين طيات الكتاب. ومن بعض نتائج مثل ذلك التحالف (المظلم) ما بين السياسي والديني كأن "يبدأ رجال الدين بابتزاز السلطة ذات الضحالة الجماهيرية من نقطة ضعفها هذه، فبقدر ما تريد السلطة أن توحي بعلمانيتها أمام الناس والعصر و(الأجانب) فإنها تزيد من التمسك الظاهري بالأمور الدينية".
في ضوء ما ذكرت عن بعض ما تطرق إليه كتاب (حيونة الإنسان) سندرك أن لجوء السلطات العربية وتحت غطاءات عدة، قد يكون في مقدمتها الشماعة التي اعتادت وعودتنا أن نعلق عليها أسباب تخلفنا وأعني الصراع مع العدو، إلى تحوين الإنسان من خلال عدم الارتقاء به من مجرد رقم عددي وكم ديموغرافي إلى مستوى الإحساس والشعور بذاته كمواطن، وكذلك من خلال عدم ثقتها بإنسانها الذي تنتجه بدليل وجود قوانين وصاية على إنتاجات الفكر والفن والإبداع.. إلخ، يجعلنا نفقد الأمل بأن سلطات كهذه يمكن أن تخطئ وتقدم على إنتاج ما يمكن تسميته بضدها الطبيعي وأعني الديمقراطية وما تبقى من مفاهيم حضارية أخرى تساهم في رقي البشر من مستوى الرعية (التي تقاد كالبهائم) إلى مستوى المواطن الحر بما له وبما عليه.
الكتاب: حيونة الإنسان
المؤلف: ممدوح عدوان
الناشر: دار قدمس