العوامل المؤثرة في تكوّن الأفكار وقيام الأحزاب في المشرق العربي
2023.08.02
د. عبد الله حنا- فينكس:
حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت الإيديولوجية الدينية الصوفية (أهل الطُرُقْ) هي السائدة في المشرق العربي. ومع بداية تكوّن البرجوازية كطبقة، وبفضل الاتصال بأوروبا الرأسمالية، أخذت الأفكار البرجوازية بالانتشار المحدود بين النُخَبْ المتنورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. وهكذا قامت النهضة العربية متأثرة بالدرجة الأولى بالعامل الخارجي الأوروبي البرجوازي، ومتزامنة مع ظهور الدولة الحديثة. ومن ثمَّ متأثرة بالتغيرات الاقتصادية -الاجتماعية الجارية في قلب المجتمعات العربية، وبخاصة عملية الانتقال من أحد أشكال الإقطاعية (الأرض رقبتها للدولة) إلى شكل آخر كرّس الملكية الخاصة الإقطاعية المتلائمة مع بداية انتشار الرأسمالية ومفهومها في التملك والاستثمار.
لقد تأثرت أفكار المجتمع ومفاهيمه في المشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين بالعوامل الثلاثة الرئيسة التالية:
1 - العوامل الإقتصادية- الإجتماعية المغيَّبة من معظم الباحثين العرب. وسنستند عليها قدر استطاعتنا في هذه الدراسة.
2 - التأثيرات التراثية: التراث هو حصيلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية للطبقات والفئات الاجتماعية التي تعاقبت على بوابات عصور التاريخ العربي الاسلامي.. ويلاحظ أن مختلف التيارات تتصارع على تفسير التراث وفقا لمصالحها أولا ودرجة إدراكها الحضاري ثانيا.
والتراث في المشرق العربي ينقسم إلى مجموعتين:
ا – تراث ما قبل الاسلام: فرعوني، قبطي، أرامي، فينيقي، بابلي، أشوري، حميري... الخ.
ب – التراث الاسلامي ويتضمن أربع مراحل:
1 – تراث عهد الرسول والصحابة.
2 – تراث العصور الأموية والعباسية والفاطمية.
3 – تراث المماليك والعثمانيين.
4 – تراث عصر النهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ويُقصد من التراث عموماً، النتاج الحضاري لعصر الرسول والصحابة ومن قام من بعدهم بالتفسير والشرح والتأويل من الأئمة اللاحقين. وهذا ما يُعرف بالأصول . وكما يبدو بوضوح أن هوة زمنية واسعة تفصل بين التراث والحياة الحالية وظروفها المعقدة. ومن المعضلات التي تواجه رجال الفكر أن ثمة أسواراً تحول دون قراءة هذا التراث قراءة نقدية عقلانية. والمعروف أن طابو المنع في عالمنا العربي يشمل ثلاثة مواضيع: الدين والجنس والصراع الطبقي. وقد لاقى المجددون في الاسلام مقاومة ضارية من التقليديين لايتسع المجال هنا لعرضها.
والتأثيرات التراثية هذه متعددة الألوان والأشكال والمشارب، وهي ذات جوانب ثورية تحريضية مضيئة، ومساعدة على الانطلاق والنهضة ورفع سيوف الحرية في وجه الظالمين، وهي من جهة أخرى ذات جوانب محافظة سكونية مرسِّخة للتخلف وداعية إلى الخضوع والإرجاء والابتعاد عن "المشاكل".
ولم تُكلل بالنجاح المحاولات المتعددة، التي قامت بها قوى اليسار والتنوير، لاستخدام التراث وما يختزنه من عوامل النهوض والتنوير لدفع عجلة التطور واشاعة الديموقراطيةفي المجتمعات العربية.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ التراث أثناء تكوّنه في العصور الخوالي كان بنية فوقية ما لبث ان تحوّل مع الزمن إلى بنية تحتية لها دور حاسم في المناطق، التي لم تشهد ثورات اجتماعية عميقة الجذور كالمنطقة العربية تؤدي إلى تغيير المفاهيم وعقلنة الأفكار.
والشمولية ذات ارتباط وثيق بالجوانب المظلمة من التراث العربي الاسلامي. والاستبداد بأشكاله المختلفة ينهل من معين هذه البنية التحتية التي كانت يوما ما بنية فوقية. فافكار وسلوك الفئات الحاكمة وبخاصة في العهدين المملوكي والعثماني صقلت شكلا جديدا من أشكال الاستبداد المعروف بالاستبداد السلطاني، الذي أصبح راسخ الجذور دون منازع. وقد أباد الاستبداد السلطاني الواحات الديموقراطية، وغيّب المظاهر العقلانية، التي أسهمت في إبداع الحضارة العربية الاسلامية في عصر ازدهارها.
فالشمولية الممتدة والمهيمنة اليوم في أرجاء العالم العربي تعود قوتها وترسّخ أقدامها، في رأينا، إلى عوامل كثيرة أهمها:
- تغلغل جذور الاستبداد السلطاني (المملوكي – العثماني) في تربة المجتمع وفكره.
- البنية الفوقية للنظام الإقطاعي لا تزال تتحكم في عدد من المفاتيح الفكرية للمجتمعات العربية.
- النظام الريعي، وتحديدا عائدات النفط تسهم، منذ منتصف القرن العشرين , في ترسيخ دعائم الشمولية في مسارين: الأول تقوية النزعات الشمولية في الدول المعتمدة ميزانياتها على الريع النفطي، والثاني مدّ النشاطات الدينية المتنوعة بالأموال النفطية الوفيرة، التي تُسهّل على التيارات الأصولية ذات المنازع الشمولية من العمل وكسب أفئدة المؤمنين.
ونلاحظ منذ بداية عصر النهضة أن قوى التنوير تعرضت للاستبداد بنوعيه: الاستبداد السلطوي، واستبداد (أو ضغط) العامة الخاضعة لإشارة فقهائها...
3 - التأثيرات الخارجية، والمقصود هنا الأثر الغربي الأوروبي الرأسمالي ومن بعده الاشتراكي. وقد حمل التأثير الرأسمالي طابعاً مزدوجاً متناقضاً:
- تمثل الطابع الأول بالفكر البرجوازي المُبَكِر المناهض للإقطاعية، والداعي إلى التحرر والتطور والانعتاق والثورة. ومن معين هذ الفكر نهل رواد النهضة العربية.
- وتمثّل الطابع الثاني بالفكر الرأسمالي الإستعماري الغازي التسلطي المحتل، الذي هيمن على المنطقة في مرحلة تطور النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
وقد أربكت هذه الازدواجية للفكر الغربي (البرجوازي) رواد النهضة وأوقعتهم في حيرة، وأمام إشكالية صعب عليهم حلّها. فهم متلهفون الى النهوض والتطور والاقتباس من الغرب واللحاق به حضارياً من جهة، ولكن هذا "الغرب" الاستعماري يزحف على بلادهم لاستغلال ثرواتها الطبيعية، وتتنافس رأسمالياته وشركاته الاحتكارية، وتتقاتل على تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها، وتقوم بامتصاص الفائض الاقتصادي وتدمير قسم من الصناعات الحرفية، دون إحلال الصناعة الآلية محلها من جهة أخرى.
أما التأثير الاشتراكي بتنوعاته فقد كان له بصمات واضحة المعالم في منتصف القرن العشرين، ثمّ أخذ في الضمور.