كتب الدكتور عبد الله حنا: نشوء الدولة العثمانية
2020.07.24
عاشت الدولة العثمانية قرابة ستمئة سنة من عام 1300 إلى 1922، و شهدت في عمرها الطويل مرحلتي الصعود المذهل المترافق مع الزحف العسكري و الهبوط، الذي استغرق مدة طويلة. وفي عصر الصعود كانت الدولة تنتقل من نصر إلى نصر، ومع فتح القسطنطينية عام 1453 أصبحت دولة عظمى و تحولت إلى إمبراطورية بسطت سلطانها من مكة المكرمة إلى أبواب فيينا. استندت هذه الامبراطورية في عصر صعودها على فن الحرب القائم على الجيش الإنكشاري، الذي سنتحدث عنه، وعلى التعبئة الدينية ودور رجال الدين فيها، كما استخدمت الدبلوماسية بحنكة.
و قطعت شوطا في ترسيخ تقاليد الحريم في قصور الأمراء و السلاطين. و عوامل الصعود هذه تحولت في زمن الهبوط بعد 1800 إلى عوامل ضعف وتفكك كما سنرى.
هذه الدولة العظمى نشأت من إمارة صغيرة في غرب الأناضول محاذية لحدود التماس مع الدولة البيزنطة. فقد أقطع السلطان السلجوقي زعيم هذه الإمارة ارطغل منطقة في الزاوية الشمالية الغربية من سلطنته في الأناضول على الحدود البيزنطية. وهذا ما جذب إليها كل راغب في الجهاد أو طامع في الحصول على الغنائم، لأن هذه الإمارة كانت تشن الغزوات على الإمبراطورية البيزنطية وتتوسع على حسابها. هذه الإمارة الصغيرة استمدت قوتها البشرية من قبائل تركية رعوية كانت انظارها تتجه إلى الغرب الغني بحقوله الخصبة وسكانه الوادعين من الحرفيين في المدن والفلاحين في الارياف.
1
خلف ارطغل في الإمارة ابنه عثمان، ومنه استمدت الإمارة وبالتالي الدولة اسمها. لم يكتف عثمان بما حققه من انتصارات على البيزنطيين في غرب الأناضول بل مدّ بأبصاره إلى القسم الأوروبي من ممتلكات الدولة البيزنطية. وقد شجعته الانتصارات السهلة في البلقان والتوسع في سائر الاتجاهات والإحاطة بالقسطنطينية من الغرب وتضييق الخناق على عاصمة امبراطورية كان لها صولة وجولة في أواخر العصور الوسطى.
هذه الامبراطورية البيزنطية، وريثة الدولة الرومانية، تلقت ضربة قاسمة بعد هزيمتها على يد السلاجقة الأتراك في معركة ملاذكرد 1071، وجاءت الضربة الثانية باحتلال الحملة الصليبية الرابعة لها عام 1204 و تأسيس دولة لاتينية فيها. ومع أن البيزنطيين استعادوا القسطنطينية من اللاتين عام 1261، إلا أنّ دعائم هذه الدولة اصبحت متصدعة بسبب الخلافات الداخلية فيها و ضغط الإمارة العثمانية الفتية عليها. وفي عام 1453 سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح، الذي اتخذ منها عاصمة له باسم استنبول.
وهكذا تمكنت هذه الإمارة الصغيرة العثمانية من التحوّل إلى أعظم امبراطورية، بعد الامبراطوريتين الرومانية و وريثتها البيزنطية. فقد حكمت أوروبا الشرقية وآسيا الغربية ومعظم المغرب، وامسكت بزمام شعوب متنوعة: يونان، صرب، بلغار، رومانيين، أرمن، عرب، أتراك، أكراد. و كانت هذه الشعوب تدين بالمسيحية على مختلف كنائسها، أو بالاسلام السني والشيعي، أو اليهود بمختلف طوائفهم. و استمرت السيطرة العثمانية على هذه الشعوب نحو 400 سنة، و على بعضها قرابة 700 سنة. أي أنها عاشت من عام 1299 إلى 1923، أوقبل هذا التاريخ بقليل مع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب عام 1918.
يرى المؤرخ البرت حوراني ان الدولة العثمانية استمدت قوتها (كالدولتين الصفوية والمغولية) من مناطق رعوية تقطنها قبائل تركية استخدمت البارود، الذي الذي كان قد بدأ استعماله في القسم الغربي من العالم. ونجحت هذه الدولة في إنشاء سياسات ثابتة مستديمة، قوية عسكريا، مركزية و منظمة إداريا، قادرة على جباية الضرائب والحفاظ على الأمن والنظام في منطقة واسعة لوقت طويل.
2
وصف حاجي خليفة تركيبة الدولة العثمانية في إحدى رسائله قائلا: "أركان الدولة أربعة: العسكر، العلماء، التجار، و الرعية. و كان يقصد بالعلماء رجال الدين وبالرعية دافعي الضرائب وأكثريتهم من الفلاحين والحرفيين والباعة.
3
والواقع ان الركن الأول للدولة العثمانية هو العسكر، الذي انضوى تحت لواء فرق الانكشارية، كما سنرى في الفقرة التالية.