كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الفَرَزْدَق

محسن سلامة- فينكس:

الفَرَزْدَق سُمّي كذلك لأنّ وجهه يشبه الرغيف الضخم الناضج، شُبِّهَ بذلك لأنّه كان غليظاً جَهماً.
اسمه هَمَّامُ بنُ غالب بن صَعْصَعَة، كنيتُه أبو فراس.
عميق الإحساس بتفوّقه، فجدّه صَعْصَعه محيي الموئدات، يفدي كلّ موْءُودة بثلاثمئة ناقة، وقد فدى أربعمئة موْءُودة.
فنشأ الفرزدق في حضن جدّه عظيم النفس مولعاً بالمشاكسة حتّى أنّه ساءَت علاقته بالولاة جميعاً.
قال يهجو خصميه جرير والأخطل:
أنا القطرانُ والشعراءُ جربى وفي القطران للجربى شفاء
ردّ الأخطل قائلاً:
فإنْ تكُ زِقّ زاملة فإنّي أنا الطاعون ليس له دواء
و قام جرير منتصراً عليهما:
أنا الموتُ الذي آتي عليكم فليس لهاربٍ منّي نجاء
وهذا خالد القَسْري يرميه في السجن لمشاكته وصلفه في وجه الولاة، فيخاطب الشاعرُ من سجنه الخليفةَ أن يأمر بالعفو عنه:
فيا خيرَ أهل الأرض إنّكَ لو ترى بساقيَّ آثارَ القيودِ النواسفِ (أي التي نسفت الجلد والشعر)
إذاً لرجوتُ العفوَ منكَ ورحمةً وعدلَ إمامٍ بالرعيّة رائفِ
كان يرعى الغنم في طفولته، فرأى عن بعد ذئباً جائعاً فزجرَ الكلابَ وأعطى للذئب الفرصة في اقتناص كبش، فعلمت أمُّهُ بالأمر، فغضبتْ أشدَّ الغضب، فقال:
تلومُ على أن صبَّحَ الذئبُ ضأنَها فألوى بكبشٍ وهو في الرّعي راتعُ
وقد مرّ حولٌ بعد حولٍ وأشهرٍ عليه ببؤسٍ وهو ظمآنُ جائعُ
ومَن منّا لايحفظ قصيدته: دعوة الذئب إلى طعام العشاء، فكان بذلك أوّل إنسان على الأرض يرفق بالحيوان،
وأطلسَ عسّالٍ وما كان صاحباً دعوتُ بناري مَوهناً فأتاني
تعالَ فإن عاهدْتَني لا تخونني نَكنْ مثلَ مَنْ ياذئبُ يصطحبانِ
أخذهُ والدُهُ إلى الإمام عليّ بن أبي طالب، فنصحه الإمامُ عليٌّ عندما رأى ذكاءَه أن يحفظ القرآن، فقيّد الشاعر نفسه بالقيود حتّى حفظ القرآن، وجاء إلى الإمام عليّ بعد عام، فباركه.
يُقال: لولا الفَرَزْدَق لضاع ثلثُ اللغة العربيّة، أضاف بشعره أربعين ألف لفظة إلى اللغة العربيّة، يجمع الألفاظ جمعاً على غير اتّفاق، وها هو يقول وقد مرّتْ جنازة:
إذا جاءني يومَ القيامةِ قائدٌ عنيفٌ وسوّاقٌ يسوق الفرزدقَا
قال الناس: والله هذا ليس برثاء، وإنّما هو أشبه بصوت قَحْقَحة الدجاجة تتهيَّأُ للبيض (لكثرة القافات في البيت).
كان شجاعاً في قول كلمة الحقّ، قدم على الخليفة معاوية يطالبه بميراث عمّه الحُتات الذي أكله معاوية، فقال الشاعر:
فما بالُ ميراثِ الحُتاتِ أكلْتَهُ وميراثُ حربٍ جامدٌ لكَ ذائبُهُ
فلو كان هذا الأمرُ في غير مُلْكِكُمْ لأَدّاهُ لي أو غَصَّ بالماء شاربُهُ
ومن شجاعته في قول الحقّ أيضاً عندما كان في الحجّ وهو في السبعين من عمره، أنّه تصادفَ وصول الخليفة هشام بن عبد الملك إلى الحجّ عام 106 هجريّة ومعه رؤساء أهل الشام. بوصول الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، (عليّ زين العابدين) ففتح الناس للإمام عليّ الطريق ليستلم الحجر الأسود تعظيماً وهيبةً و إجلالاً، فقال الخليفة: من هذا الفتى؟ فقام الفرزدق، و ارتجل قائلاً:
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللّهِ كلِّهِمِ هذا التّقيُّ النّقيُّ الطّاهرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنْتَ جاهلَهُ بجَدِّهِ أنبياءُ اللّهِ قد خُتِموا
ما قال لا قَطُّ إلّا في تَشهُّدِهِ لولا التّشهُّدُ كانتْ لاءَهُ نَعَمُ
وليس قولُكَ مَنْ هذا بضائرِهِ العُرْبُ تَعرِفُ مَنْ أنكرْتَ والعَجمُ
يُغضي حياءً و يُغضَى من مَهابتِهِ فما يُكَلَّمُ إلّا حينَ يَبتسِمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهم دينٌ و بُغضُهمُ كُفرُ وقربُهمُ مَنجىً ومُعتَصَمُ
عاش الفرزدق حيات قويّاً فظّ القلب، وهو القائل:
أطعتك يا إبليسُ سبعين حجّةً فلمّا انتهى شيبي وتمّ تمامي
فررْتُ إلى ربّي وأيقنتُ أنّني مُلاقٍ لأيّامِ المنونِ حمامي
حين مات رثاه جرير خصمه في الشعر قائلاً:
فتىً عاش يبني المجدَ تسعين حجّةً وكان إلى الخيرت والمجد يرتقي
مات الفرزدق عام 114هجريّة.