كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الـمـطـران غريغوريوس جبارة الـدمـشـقـي

خالد محمد جزماتي- فينكس:

(1839 - 1925)
نحمد الله تعالى على جعله مكارم الأخلاق معارج الى ذرى التقدم والازدهار، فالعز والسعادة..... والمجتمع أي مجتمع يتكون من عائلات، مؤلفة من أفراد، وبقدر ما يكون أكثرية الأفراد صالحين، تزدهر عطاءات العائلات، ويرتقي المجتمع الى أبهى وقائع التقدم والازدهار.. ومن المعروف أن مدينة حماة وما يتبعها من أقضية ونواحي وقرى، كانت تتميز بماء عاصيها وخصوبة أرضها، وبأن أهلها محافظون وبعناد، ويتمتعون بوطنية مفرطة، وهذا يندرج على جميع مكونات سكانها مسلمين ومسيحيين...
هذه التوطئة الهدف منها القول: بأني كنت كلما نشرت ملخصا عن سيرة أحد الأعلام في عصر النهضة، أتساءل، من هو الرجل العلم الذي رباه وأخذ منه؟... وهذا حدث معي عندما نشرت مقالات متواضعة عن بعض مشايخ رواد عصر النهضة، كالشيخ محمد سعيد النعسان، فهو أصبح مفتياً لحماة عام 1921 وكالة، بعد الشيخ نورس الكيلاني، الذي أصبح مفتياً بعد وفاة المفتي بدر الدين الكيلاني، ثم أصبح المفتي محمد سعيد النعسان أصيلاً عام 1925...!
وأيضاً عن مطران حماة أغناطيوس حريكة (1894-1969)، والذي اخترت اليوم أن أتحدث باختصار عن المطران الذي غادر الى الأخدار السماوية و حل مكانه في أبرشية حماة للروم الأرثوذكس عام 1925.... إنه الـمـطـران غـريـغـوريـس جـبـارة المولود في حي "القيمرية" الدمشقي يوم 19 نيسان 1839، وهو من عائلة عربية دمشقية عريقة، اسمه قبل ترسيمه، جبرائيل بن نقولا بن يوسف جبارة، وكان أبوه مسيحياً أرثوذكسياً متديناً، وكذلك والدته، والأرثوذكسية معناها "الايــمــان الــقــويــم"....
وكان أبوه فقيراً، ومع ذلك فقد أرسله الى المدرسة الابتدائية الوطنية الاّسية الأرثوذكسية التي كان يديرها الخوري الشهيد يوسف مهنا حداد الدمشقي (1793--1860)، وكان دائم الترداد على كنائس دمشق منذ صغره وخاصة الكنيسة المريمية، ولكنه ترك المدرسة وعمره لم يتجاوز العاشرة، وبدأ بالعمل في الحياكة وسجي الحرير، وفي المساء يعود للذهاب الى الكنيسة وتلقي الدرروس الدينية، حيث أبدى لرجال الدين في الكنائس التي يرتادها ورعاً ملفتاً للجميع، ولما بلغ العشرين من عمره سافر الى القدس والتحق يمدرسة المصلبة الاكليريكية الأرثوذكسية ودرس فيها العلوم اللاهوتية والزمنية، ثم عاد الى دمشق، وفيها تابع تحصيله الكنسي والتعليمي، وبدأ نجمه يسطع، فألف جمعبة ثقافية تعليمية، كانت هي النواة لجمعية القديس يوحنا الدمشقي الأرثوذكسية الشهيرة....
وتذكر بعض المصادر الكنسية أن أهم أعماله في تلك الفترة من حياته، تصديه لما عُرف "ببدعة اّريوس" ودحضها باعتماده على الكتاب المقدس، ويمكن للمهتمين متابعة فهم تلك البدعة بالرجوع الى مصادر كنسية خاصة...
ويحدثنا تاريخ البطريركية الأرثوذكسية أن المطران (سيصبح بطريرك) ملاتيوس الدوماني (1837--1906) تولى سدة أبرشية اللاذقية عام 1865، وساهم في العمل على انشاء المدارس، فأسس اعدادية (رشدية) خاصة تابعة لمطرانية اللاذقية وهي التي ستصبح الكلية الأرثوذكسية... وكان يذهب تفكيره الى البحث عن مدرسين أكفاء، فوجد ضالته في غريغوريوس جبارة أثناء زيارته لدمشق عام 1867 وكان يعرفه، فعرض عليه أن يسافر معه الى اللاذقية ليتسلم ادارة الاعدادية، فقبل العرض وتسلم الاعدادية وأدارها مدة عشرين عاماً، أصبحت مضرباً للمثل في بلاد الشام كمدرسة نموذجية يتخرج منها أفضل الطلاب.
وفي العام 1872 رسمه المطران ملاتيوس الدوماني شماساً انجيلياً، وفي العام 1874 رسمه كاهـنـاً، وفي العام 1875 أصدر أمره بترقيته الى مرتبة "الأرشمندريت"، ونظرا لجهوده وصدقه وتقواه وتفانيه في العمل سلمه رئاسة الجمعية الخيرية في اللاذقية التي أنشأها المطران ملاتيوس الدوماني عند تسلمه أبرشية اللاذقية....
أما في العام 1886 انتقل الى الأخدار السماوية مطران أبرشية حماة "جــرمــانوس زيــوت الدمشقي"، فقام الأهالي في مدينة حماة بتسطير عريضة رفعوها الى البطريركية الأرثوذكسية طالبوا فيها بالأرشمندريت غرغوريوس جبارة ليكون راعياً لأبرشيتهم في حماة، فاستجاب البطريرك "جراسيموس" لهم ودعا مطارنة المجمع الانطاكي الى جلسة في طرابلس الشام بكنيستها يوم 23 كانون الأول 1886، حيث تم انتخاب الارشمندريت غريغوريوس جبارة مطراناً على أبرشية حماة وتوابعها...
وبعد رسامته مطراناً وصل حماة يوم 4 اّذار 1886، فاستقبل استقبالاً رسمياً وشعبياً حافلاً...
وكانت أولى انجازاته بعد الوعظ المكثف بالتمسك بمكارم الأخلاق، تأسيس جمعية خيرية من الشباب لخدمة اليتامى والفقراء، وأخرى نسائية هي "جمعية نور الهدى التي مازالت قائمة"، وهدفها الأساسي العمل على تعليم الفتيات ورعاية الفقيرات منهن وتدريبهن على مختلف الأعمال اليدوية المفيدة. وساعد على انشاء المدارس التي آوت اليها التلاميذ من مختلف المكونات الأهلية، وقد تابع خلفه المطران أغناطيوس حريكة سيرته في الحض على التعليم وانشاء المدارس...
وقد ساهم المطران في حل كثير من المسائل الاجتماعية المعقدة بحسن تعامله مع المسؤولين الأتراك ومن بعدهم الفرنسيين دون التخلي عن الثوابت الوطنية...
وقبل الختام لا بد أن نذكر أن المطران غريغوريوس جبارة كان تقياً ورعاً متقشفاً، عاش وادارة أبرشيته عيش الكفاف، فلم يضعف ذلك عمله وسعية للخير...
وفي عام 1920 أرسل البطريرك غريغوريوس حداد الارشمندريت "نيفين سابا" الى حماة وعينه نائباً لمطرانها نظراً لسوء صحته، وبقي معاوناً له حتى وفاة المطران يوم 26 شباط 1925، وكانت جنازته مهيبة يوم 28 شباط 1925.
المصادر: مقالات للدكتور جوزيف زيتون