كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صفية أنطون سعادة تكتب عن معاناة والدتها جولييت

الحزب والعائلة
صفية أنطون سعادة
والدتي جولييت المير سعادة 1909-1976
مع نهاية العام الدراسي توفيت والدتي بسبب مرض السرطان. ذهبتْ وهي تتحسر على مصيرنا مع بدء الحرب الاهلية؛ عاشت أقسى تجارب الحياة، من عمل مضن في الأرجنتين، الى قساوة العيش في لبنان، ووفاة زوجها الاستثنائي، الى دخولها السجن في دمشق، الى خروجها بعد عقد من الزمن بعفو خاص، الى محاولتها ايجاد عمل كممرضة لرفض القيادة الحزبية تخصيص معاش لها وبقاؤها مع أختي اليسار.
حين توفيت كان عمر ابني مازن ثلاث سنوات؛ عشقته والدتي وهي التي لم تنجب ذكوراً. وتعلق مازن بها، وغالبا ما كان يمضي النهار معها، وحين شعرت باقتراب الموت منها وهي في المستشفى، طلبت رؤيته، فأحضرتُه. لا يزال ابني يتذكر هذا اللقاء الاخير، وترجم مذكراتها الى اللغة الانكليزية، وفاء لها وتعبيرا عن محبته وتقديره.
ظُلمت والدتي بشكل فظيع. لم تثُر، لم تتلفظ بكلمة، وأخذت مآساتها معها إلى القبر. ظلمها الاقربون، وهو الظلم الاشد إيلاما، لأن لا مكان تلجأ اليه، بما ان عائلتها تسكن الارجنتين.
صحيح أنها عملت كممرضة في بوينس آيرس بعد زواجها، لانهماك زوجها في بناء حزبه، لكن حياتها سارت بشكل طبيعي. تزوجت أنطون سعادة وهي تحلم بلعب دور ايفا بيرون. حالما وطأت قدماها بيروت، لبست عوضا عن ذلك اكليلا من الشوك لم تكن تتوقعه، لكنها لبسته بكِبَر وترفٌع، وأدت دورها كزوجة قائد حتى النهاية.
في مجتمعنا البائس، تقاليد العشائر والطوائف هو السائد، ومنها احتقار المرأة ومعاملتها معاملة دونية، لا بل معاملتها كقاصر، لا رأي له أو قرار. وبما أن عائلة والدتي هاجرت منذ نهاية القرن التاسع عشر، اعتبر رئيس الحزب آنذاك، جورج عبد المسيح أنه ولي أمرها يستطيع أن يتصرف بها، وبأولادها كما يشاء. أضف الى ذلك، تصميمه في أضفاء هالة الزعامة لنفسه عبر الاستحواذ عليها، فتترسخ شرعيته في مواجهة الطامحين لأخذ مركزه، لذلك كان من المهم جدا له أن يحتفظ بها كرهينة دائمة حتى مماتها، واستطاع عبر ست سنوات قضاها مع العائلة من تثبيت زعامته، وكمٌ فم جولييت المير بتهديده ببناتها.
حين كنا محتجزات في دير صيدنايا عام 1949 اثر استشهاد والدي، وبعد حضور السفير الارجنتيني لحضها على العودة الى الارجنتين، بادره عصام المحايري الذي كان حاضراً والذي اصبح رئيسا للحزب فيما بعد، قائلا: "ليست هي من يقرر، فنحن نقرر عنها"، بناء على المبدأ الذكوري السائد في ارجاء العالم العربي. وحين استلم المحايري رئاسة الحزب، أهملها كليا وكأنها غير موجودة، وكنتُ و أختي آليسار قاصرات عن مساعدتها، فأنا لا أزال طالبة تعيش على منحة، واليسار في المغترب دون عمل، و أختي راغدة على مقاعد الدراسة في بيروت.
اخذت والدتي تفتش عن عمل كممرضة في سويسرا، وهي التي خرجت من السجن بعفو خاص. امرأة في الخمسين من عمرها، تفتش عن عمل تعتاش منه، لأن الحزب قرر أن لا لزوم لعائلة أنطون سعادة بعد اليوم، ولا حاجة لتمثيلية كالتي أثارها جورج عبد المسيح. لم أحزن على نفسي لأنني كنت لا أزال شابة وقادرة على التغلب على المصاعب، والحصول على دكتوراه تخولني العمل، والبقاء مستقلة وحرة، لكنني كنت أشفق على والدتي، وقد أكل الدهر والعذابات من عمرها، وأُهُملت دون مساعدة، وهي في عمر لا تستطيع فيه أن تعيد تاريخها ومسارها. فالحزب مسؤول عن دخولها السجن، والمفترض به أن يحميها حتى وفاتها. فحتى هذا الدور التقليدي، قرر أراخنة الحزب التخلي عنه.
عاشت أمي ايامها الاخيرة يائسة. لم أخبرها وهي على فراش الموت بأن منزلنا في ضهور الشوير دُمر. أردت أن أخفف عنها هذه الماساة الجديدة، وهي التي عاشت من أجل أحلام زوجها. أكملت البيت حجرا حجرا، وعلى مدى سنوات، لأنها كانت تقتطع القرش من مصروفنا وتذخره من أجل البناء. حرمتنا الكثير، من "خرجية"، ومن اقتناء ملابس، ومن شراء العاب. كل تلك التضحيات اختفت بشطحة قنبلة.

كتبت مذكراتها باخلاص وشفافية، وهي ممتلكاتها الوحيدة. وُجد من يحاول سرقة حقوقها، لأن عائلة أنطون سعادة مشاع بحسب عرف الكثير من أعضاء هذا الحزب. اختصرت كلماتها الاخيرة حياتَها اذ دوًنت في مذكراتها، حين صدر العفو مشروطا بالنفي خارج البلدان العربية في آن: "أغادر البلاد التي احببتها أكثر من نفسي". هذه ليست مبالغة، بل حقيقة هذه العائلة، التي بذلت كل شيء لوطنها الكبير، وضحت والدتي بنفسها وبناتها في سبيل قضية آمنت بها.