كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رحلة في الزمن مع المرحوم العلم (رياض عبد الرزاق)

أحمد غانم- فينكس:

كنت أعد لكتابي طرطوس حضارة وجمال عام 1995. وكنت قد سمعت بمكتبة "رياض عبد الرزاق" العامرة و إنها من أكبر المكتبات الخاصة في الشرق الأوسط. كما أني أعلم أنه علم من أعلام المحافظة حيث كان نائباً قبل أن أولد. كما أن والده محمود عبد الرزاق كان قائداً للدرك و باسمه شارع مركزي من شوارع طرطوس. وكنت قد سمعت الكثير من المتناقضات حول هذه الشخصية الإشكالية الخصبة الاحتمالات. وقادني الفضول كما دفعني عقلي النقدي المبتدئ إلى مقابلة هذه الشخصية علها تكون إحدى المحاور في كتابي إلى جانب الشيخ "صالح العلي" وقضايا أخرى فبدأت بإعداد فصل بعنوان بانوراما (لم ينشر في الكتاب لاسباب لست طرفاً فيها).
طلبت منه موعداً فرحب بلقائي، وكان برفقتي في الزيارة الأخ الصديق أحمد م أحمد المترجم والكاتب المعروف اليوم. استقبلنا بكل المودة والحنان الأبوي فقد كنت في الثلاثينيات من عمري وهو شيخ مسن تجاوز الثمانين.
تشرفت بلقائه وسعدت بطريقة استقباله اللطيفة وتواضعه الذي أخجلني وقد أصر أن يعد القهوة ويقدمها لنا بنفسه. وما زلت أتذكر أنه وضع ركوة القهوة على قرص كهربائي واستمرت طويلاً حتى وصلت إلى الغليان فكانت ذات مذاق طيب وفريد.أحمد غانم
في الطابق الأوّل من ذاك البناء الطويل الذي يفصله من الجهة الشرقية شارع صغير عن المجمع الحكومي ومبنى المحافظة السابق بدأت رحلتي التي كنت أستعجلها في رحاب مكتبته الهائلة. كانت الدهشة رفيقي الدائم كلما نظرت حولي لأرى رفوف الكتب على جوانب الغرف التي شملت طابقاً كاملاً من البناء الكبير. وكانت كل غرفة تحتوي في الوسط على عدد من الصفوف وقد ضاقت بالكتب من على جانبيها. وكان إعجابي بهذا الشخص الفريد يزداد مع كل غرفة ندخلها. حيث اطلعت على أهم الموسوعات العالمية. و أذكر أنه كان يشرح مضامين أهم الكتب واتجاهاتها الفكرية. قديمها وحديثها. وما زلت أذكر أني اطلعت لأوّل مرة على مجلدات كبيرة تبلغ الثمانية (كما أتذكر) للرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو، و لم أكن أعلم أنه كاتب ومفكر كبير قبلها. وكانت المكتبة إضافة إلى ضخامة مساحتها وعدد كتبها وقيمة الكتب والموسوعات فيها تضم عدداً كبيراً من التحف واللوحات الفنية ومنها لوحات عالمية.
سأختصر و أصل الى ذروة الدهشة ببعض الحوارات التي علمتني الكثير.
1_ قبل أن أتعرّف عليه و أتشرّف بلقائه كنت أسمع أنه يقتني الكتب لأنه غني ويريد أن يظهر بمظهر العارف والمثقف. وعلى الرغم من أن تواضعه الكبير منذ لحظة لقائه قد أبعد بعضاً من شكوكي حول هذه المسألة إلّا أني أحببت أن أطمئن بنفسي. سألته عن بعض الكتب التي كنت قد قرأتها ومنها الفلسفية والأدبية والتاريخية. فأجابني بدقة وهو الشيخ المسن عن تفاصيل ربما غابت عن ذاكرتي أنا الشاب. كما أجرى مقارنات بين بعض الكتب بنسختها الفرنسية والانكليزية والعربية. وبيّن نقاط الضعف في هذه الترجمة أو تلك. كان يخرج الكتاب بنسخته الانكليزية مثلاً ويشرح ثم يخرج الفرنسية ويقارن ثم يتناول العربية وينقد. فتبيّن لي أنه رجل علم موسوعي بكل المعايير. و إنه لم يتبن الشاعر "أدونيس" ويتعهد بتربيته إلّا استشرافاً منه لعبقرية واعدة. ولأعترف فقد ذهلت بذاكرته بعد هذا السن وتذكرت المرحوم "عبد اللطيف اليونس" الذي كنت أزوره وقد تجاوز التسعين ومع ذلك يلقي عشرات أبيات الشعر من نظم هذا الشاعر أو ذاك.
2_ سألته: يقال أنك لم تسع لإقامة ميناء في طرطوس حين كنت نائباً في البرلمان..
ابتسم و أخرج عدداً من الصحف والمجلات التي تصوره وهو يطالب داخل البرلمان بمرفأ في طرطوس. كما أطلعني على بعض المناقشات التي تثبت مطالبته بإقامة مرفأ في طرطوس عدداً كبيراً من الجلسات وعلى مدى سنوات طويلة. و أذكر أن إحدى الصحف التي أخرجها من أحد الرفوف وتعود لعام 1948 عنونت: "رياض عبد الرزاق نائب طرطوس ورجل الميناء العتيد".. (أو بهذا المعنى إن لم يكن حرفياً).
3_ ربما تأخرت في اكتشاف إن الايديولوجيا الدينية أو السياسة لا تعرف الحياد وتفسد كل توازن وموضوعية. ولكني سألته:
يقال إنك لم تكن على علاقة طيبة مع الشيخ "صالح العلي". فماذا تقول؟ ولم كان الخلاف؟ صمت قليلاً و أجابني إجابة ساهمت وما زالت تسهم في تكوين وعيي السياسي والاجتماعي وحتى الأخلاقي فقال حرفياً:
"يا ابني يا أحمد. لنقل اختلافاً وليس خلافاً. فلا خلاف على الوطن".
وتابع قائلاً:
"الشيخ صالح العلي رمز وطني كبير. و الشعب الذي ليس لديه رمز يخلقه ولو من الخيال أو الوهم. ونحن لدينا رمز حقيقي فلا يجوز أن نعمل على تهديم هذا الرمز أو التقليل من شأنه".
********
* ملاحظة أولى: كان يمكن أن أكتب رواية عن هذه الساعات القليلة التي ساعدني الحظ بلقائه فيها. ولم أذكر إلّا بعضاً من حوارنا علّه يزيل ما رسخ لدى البعض من أوهام لم يجرب أن يختبر صدقها. و أرجو أن أكون قد وفيت هذا العلم الكبير بعضاً من حقه. ولعل دوره في مقاومة الفرنسيين يحتاج لوقفة أخرى ومتسع من الوقت والصفحات إن لم أقل كتاباً.
رحم الله "رياض عبد الرزاق" فهو مدرسة في الوطنية والثقافة والتواضع.
* ملاحظة ثانية: لعل ما عاينته نبهني الىمقدار التزوير الذي ادخلته الايديولوجيا في التاريخ وكم الكذب الهائل في الاحداث المروية من تاريخنا. 
تنويه من فينكس: الصورة أعلاه: الأوّل من اليسار رياض عبد الرزاق في احتفالات عيد الفطر في اللاذقية عام 1947.