كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

شخصيّة من طرطوس.. حوار مع "حضرة التاريخ" المناضل و الكاتب عدنان بدر حلو- 1 من 3

عدنان بدر حلو لفينكس:

- في فترة عطالتي التي شغلتها بالمطالعة.. تعرفت على الشاعر  سليمان العيسى الذي كان قد بدأ يتعرض لمضايقات من الأجهزة بعد استقالة وزراء البعث من الحكومة.. 

-ساهمتُ في كسر حواجز الانشقاقات والاصطفافات الحزبية والعائلية وحتى الحاراتية التي كانت تقسم المشتى إلى مربعات معزولة عن بعضها البعض!

-في طفولتي.. بقينا لأكثر من شهرين نعيش على البندورة فقط!.. 

-كأن قدري أن تكون دراستي و بعض حياتي في مدارس خاضعة لنفوذ متعارض مع موقفي السياسي

لم أجد وصفاً يليق برفيق الشهيد غسّان كنفاني و نائبه في رئاسة تحرير مجلة "الهدف"، و واضع أحد أهم الكتب عنه، سوى "حضرة التاريخ".. إذ في كل لقاء لي مع الكاتب و المناضل عدنان بدر حلو يذهلني بحجم الأحداث التي عاشها و خاض غمارها أو كان شاهداً عليها، و لعل أبرزها آواخر ستينات القرن الماضي، عندما نشط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ تلك الفترة شهدت خطف الطائرات من مطارات العدو الإسرائيلي و تفجيرها في مطار "ابتكره" القائد الفلسطيني الراحل الدكتور وديع حداد، في مكان ما من الأردن.

عدنان بدر حلو، المنحدر من بلدة مشتى الحلو، من عائلة تحمل الإرث الشيوعي، و في زمن كان فيه "العداء" مستحكماً بين الحزبين الأبرزين على الساحة السورية (الشيوعي، والسوري القومي الاجتماعي).. و من المفارقات الجميلة، إنه درس مرحلته الإعدادية في مدرسة تتبع للسوريين القوميين، و ستكون رفيقة دربه أيضاً سورية قومية عريقة ألّا و هي الصحفية اللبنانية سهيلة يعقوب.

في هذا الحوار، مع "حضرة التاريخ"، نغوص مطولاً في النشأة الأولى في بلدة "مشتى الحلو"، و نتطرق إلى تفاصيل بدت لنا مهمة، إذ كيف كانت "مشتى الحلو" في أربعينات القرن الماضي، و حتى كيف كانت آواخر القرن التاسع عشر مروراً بوضعها خلال الحرب العالمية الأولى و هجرة الكثير من شبابها إلى الأمريكيتين، و كيف صارت؟ و ما هو دور "البوسطة" -عدا النقل- في حياة ذاك الزمن؟ و ما هي الصحف التي كانت تصل إلى المشتى؟ مروراً بتعلمه و انخراطه في الحياة السياسية، وصولاً إلى هجراته المتلاحقة إلى لبنان و العراق و فرنسا، و نضاله مع الفصائل الفلسطينية، ناهيك عن توقيفه و اعتقاله في سوريا أكثر من مرة على خلفية نشاطه ذاك.

نتحدّث مطولاً، عن علاقته بالزعيم أكرم الحوراني، و الشاعر سليمان العيسى، و الأستاذ عبد الفتاح الزلط، و الأديب الشهيد غسان كنفاني، و القائدين الفلسطينيين الحكيم جورج حبش و الشهيد ياسر عرفات.. الخ.

و الآن إلى الحوار مع "حضرة التاريخ"

حاوره: أُبي حسن- فينكس

السؤال: ماذا تذكر من طفولتك؟ كيف كانت المشتى مطلع أربعينات القرن الماضي على الصعد الاجتماعية و الثقافية و التعليمية و السياسية.. ماذا تعتمل ذاكرتك عن هاتيك الأيام بأدق تفاصيلها؟ و من أين أتى اسمها الذي يبدو متناقضاً مع طبيعتها الخلّابة.. الخ؟

الجواب

       أنت تعرف المشتى الآن كمدينة حديثة ومزدهرة، فيها الفنادق الفخمة والفلل الجميلة وازدحام السير.. والملاهي والمقاهي (حتى مقاهي الإنترنت) وغير ذلك من المستحدثات العصرية.. ويجوب أبناؤها العالم كله يبدعون في شتى حقول التجارة والعلوم والفنون والمعارف الحديثة.. ويظلون مشدودين إلى تلك البقعة الجميلة التي كانت، إلى ما قبل سنوات، قرية صغيرة وادعة تنام في أحضان التلال والجبال الساحرة. ويضيء لياليها قمر مختلف عن كل أقمار العالم..

      سأحاول هنا، واعتمادا على الذاكرة أن ألقي نظرة على صورة المشتى وأحوالها في أواخر أربعينات القرن الماضي و مطلع خمسيناته.

دعنا نبدأ من اسم المشتى

   يتساءل كثيرون عن التناقض بين اسم المشتى المشتق من الشتاء، وبين طبيعتها كمنتجع اصطياف ساحر!

    في الحقيقة.. لم تكن حوافز الاصطياف والإشتاء في الماضي كما هي الآن، من حيث البحث عن المناخ المعتدل والطبيعة الجميلة والخدمات الترفيهية الجيدة.. لقد كان الناس يعتمدون في حياتهم، بشكل أساسي، على تربية المواشي.. ما يضطرهم للبحث في فصل الشتاء عن مناطق تكثر فيها الوديان الدافئة، وذات أشجار دائمة الخضرة تشكل ملاجئ ومادة تغذية لمواشيهم.. حتى إذا أطل الربيع وطلائع الصيف وتحولت التلال الجرداء (ومنها اسم الجرد) إلى مراع خضراء، انطلقوا بمواشيهم نحو تلك المناطق العالية ذات الخصوبة الموسمية.

   ولهذا السبب نجد في منطقتنا، كما في لبنان أيضا، قرى وبلدات كثيرة تحمل اسم المشتى: هنا "مشتى الحلو" و"مشتى عازار" و"المشتاية"، وهناك "مشتى حسن" و"مشتى حمود" وغير ذلك. في حين نرى في اسم بلدة "مصياف" دليلا على أنها كانت، مع ما جاورها من سهول وهضاب، مرتعا خصبا لقطعان الماشية في فصل الصيف.

    أما اقترانها باسم عائلة الحلو، فذلك نسبة إلى العائلة التي تحمل هذا الاسم، وتعود بأصلها إلى بلدة عين حليا في منطقة الزبداني قبل أن تهاجر إلى بشري في لبنان. وقد استقر فرع منها في المشتى خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر.. (الجد الأول الذي حضر إلى المشتى من بلدة "حصرايل" (مسقط رأس الشهيد الشيوعي الكبير فرج الله الحلو) في لبنان هو يوسف نقولا الحلو وكان قدومه عام 1711).. وقد أصاب أبناؤها الأوائل ثروة كبيرة ونفوذا واسعا في المنطقة، لاسيما عندما تولى سليمان السمعان (باني دار بيت الحلو) منصب خازن مالية حكومة الحصن التابعة لعائلة بيت شمسين العلوية التي كانت تحكم منطقتي الحصن وصافيتا.. ويروي المعلم نسيم الحلو في مذكراته أن معظم تلك الثروة يعود إلى فترة احتلال إبراهيم باشا لسورية ولبنان، فقد فرض القائد المصري على سليمان السمعان (نوعا من الخوة)، أن يوفر كمية كبيرة من الحبوب لجيشه. لكن الباشا اضطر للانسحاب من سورية قبل تسليم تلك الكمية، وهذا ما مكّن سليمان من أن يبيعها ويحقق ربحا وفيرا فيها، بعد أن تضاعفت أسعارها عدة مرات نتيجة الحالة التي خلفها الجيش المصري في بلاد الشام.

..وقد امتدت ملكية سليمان أفندي وأبناء عائلته إلى قرى وإقطاعات واسعة جدا (يبدو أن الحصول على الثروة من المناصب الحكومية، ليس بدعة جديدة!).

  والغريب الذي لا أعرف له سببا هو أن الاسم الرسمي للمشتى كناحية كان حتى ستينات القرن الماضي "ناحية حزور"!

 حتى مخفر درك الناحية لم يكن في المشتى، بل في الكفرون.. وذلك حتى عام 1936 بعد أن جرت حادثة في الضيعة مفادها أن أحد الفرارية من وادي العيون، ويدعى كاسر، كان ضيفا على أحد البيوت في الحارة التحتانية (حارة بيت زكزك) وقد انتشى بعد عدة كؤوس من العرق، فراح يطلق النار من مسدسه في الهواء. ويبدو أن الخبر وصل إلى الدرك في الكفرون، فقدمت دورية وحاصرته وجرى تبادل لإطلاق النار أدى إلى مقتله. اشتبه ذووه بأن مدير البريد الذي كان يقيم في بيت جرجس الخوري هو من أوصل الخبر للدرك، فنصبت له مجموعة من رفاق القتيل بقيادة شخص اسمه فجر كمينا بالقرب من البيت، وعند خروج زوجة جرجس الخوري إلى الشرفة في ساعة مبكرة من الصباح ظنوها المدير فأطلقوا عليها النار وأردوها قتيلة.. وكان من تطورات هذا الحادث وحضور الدرك المكثف لمتابعته أن جرى نقل المخفر إلى المشتى.

                                           ----------------

                                                          البوسطة

من الأمور اللافتة التي تختزنها ذاكرتي، و بكثير من الشغف والدفء، أتذكّر "البوسطة" (سميت كذلك كونها تحمل البريد) لأنها كانت الصلة الوحيدة بيننا وبين العالم.. ولم يكن العالم آنذاك سوى مدينة طرابلس اللبنانية، قبل القطيعة التي حدثت بعد الاستقلال وارتبطت باسم خالد العظم، وأقامت حدودا جمركية بين سورية ولبنان، وعبرت عن الخلاف بين مدرستين: إنمائية سورية تريد أن تحمي الصناعة الوطنية، وتجارية لبنانية مرتبطة بالاستيراد والتصدير ووكالات الشركات الأجنبية.

السؤال: متى تمّ شق الطريق بين المشتى و صافيتا؟

الجواب:

 تم شق الطريق بين المشتى وصافيتا عام 1920 وذلك بواسطة السخرة والتطوع، إذ قامت كل قرية على ذلك الطريق بتوفير اليد العاملة لشق المسافة الموصلة بينها وبين القرية التي تليها. وما أذكره من مواصلات سابقة للبوسطة على تلك الطريق هو سيارة صغيرة (مشابهة للميكروات المعروفة حاليا) يملكها سائق من صافيتا اسمه جميل القطريب. وكان لها رفرافان على الجانبين كثيرا ما يقف عليهما ركاب لم تتسع لهم المقاعد في داخلها.. كما كانت تزور المشتى بشكل موسمي سيارة "فورد أبو دعسة" فوق ظهرها طاحونة برغل (كانت تقف في الساحة، فيحضر الناس قمحهم المسلوق والمجفف ليطحنوه فيها مقابل كمية معينة من البرغل)، وكان سائقها يدعى فلوري وهو من سكان صافيتا لكنه على الأغلب من أصل إنكليزي..

  أما البوسطة التي نتحدث عنها فهي "بوسطة طرابلس".. وكانت في الحقيقة عبارة عن بوسطتين تعملان كواحدة فقط.. إذ تغادر إحداهما المشتى صباحا باتجاه طرابلس، بينما تنطلق الثانية ظهرا من كاراج "باب التبانة" باتجاه المشتى.

  وكنا نعرف البوسطتين بإسمي سائقيهما: واحدة باسم محي الدين، وواحدة باسم سليمان الشاعر.. أو بلونهما: الحمرا والزرقا. ومع كل سائق كان هناك معاون ينادي على الركاب ويساعد في توضيب الحمولة على السطح، ويقف وراء البوسطة ليرشد السائق عند التحرك إلى الخلف، كما يقدم له المساعدة في إصلاح الأعطال الميكانيكية. ومن أشهر المعاونين في تلك الفترة "الميكادو" من الكفرون، وكان نحيفا جدا وطويلا جدا.. ثم أتى بعده قريبه (أو أخوه) عزيز. وكانا محبوبين من كل الناس لأخلاقهما وحسن تعاملهما مع الجميع.  وقد واظب الميكادو بعد تخليه عن مرافقة البوسطة، وافتتاحه مقهى في الكفرون، على السفر إلى صافيتا وحتى طرطوس سيرا على الأقدام.

     طبعا لم يكن في المشتى فنادق. فكان السائقان والمعاونان يستأجرون قبوا عند امرأة عجوز اسمها أم برهان، كانت تعيش وحيدة بعد هجرة زوجها وأولادها إلى البرازيل، وكان بيتها المحاط ببستان مشمش ورمان يقع على يسار نزلة “درجات حمود "الموصلة من الساحة إلى سوق الدلبة. وعندما كان يأتي بعض الغرباء إلى المشتى (وهذا ما كان نادر الحدوث) كانوا يستأجرون المنامة في بيت طنسي الابراهيم (أو التكتوك كما كان لقبه آنذاك)..

    كانت البوسطة تنطلق من الساحة في وقت مبكر جدا، ما يضطر المسافرين للحضور مع الفجر، وحتى قبل ذلك.. وكان الميسورون ووجهاء البلدة يتنافسون على حجز المقعد المجاور للسائق أو المقعدين الأولين وراءه. وفي بعض الأحيان كان صاحب الحجز يأخذ معه وسادة المقعد إلى البيت من الليلة السابقة لكي يضمن مقعده في الصباح. وكثيرا ما كانت تحدث مشاجرات بسبب هذه المنافسة.

  كان ذهاب البوسطة في الصباح حدثا بالغ الأهمية في الحياة اليومية الساكنة. فلا عجب أنك كنت تجد عددا كبيرا من غير المسافرين يقصدون الساحة في تلك الساعة المبكرة بهدف الحشرية وتقصي أخبار المسافرين وما يكون قد وقع من أحداث و"خبريات " خلال الليلة السابقة.

  بالإضافة للمسافرين والأغراض والبضائع التي كانت تزدحم على السطح (بما في ذلك المهربة إلى لبنان ومنه.. وقد اشتهر عدد من نشطاء تلك التجارة كالمرحوم الياس الزكزك الذي اضطرته ملاحقة الجمارك للهجرة إلى البرازيل)، كانت البوسطة تنقل من حين لآخر موقوفين جنائيين أو سياسيين برفقة رجال الدرك إلى صافيتا.. وفي مثل هذه الحالة يتضاعف عدد الحضور في الساحة. وأذكر في إحدى المرات - ربما أيام الشيشكلي - أن عددا من الشباب افتعلوا مشاجرة مع الدرك وعلى رأسهم شاويش قاس اسمه عارف، لكي يمكنوا الموقوف الشيوعي ميشيل العيسى من الهرب.

  بعد سفر البوسطة كان الجميع يتفرقون، ويقوم بعضهم بشراء اللحم أو اللبن. إذ كان القصابون وباعة اللبن يحرصون على عرض بضاعتهم في برودة الصباح لانعدام وسائل التبريد.

أما عودة البوسطة في المساء، فكانت الحدث الأهم. وكثيرا ما كان الناس ينتظرون في الساحة حتى ساعة متأخرة من الليل، لا سيما في فصل الشتاء عندما "يضب الليل" باكرا، ويساهم الطقس في تأخير وصولها إلى ما بعد موعدها المعتاد.

 كان الناس يشرعون بالتوافد على الساحة من أول العصر.. يأتون من كل الحارات، وحتى من القرى المجاورة. فبالإضافة للمسافرين والبضائع كانت البوسطة تحمل أخبار العالم. إذ يروي القادمون أخبار كل ما شاهدوه أو سمعوا عنه خلال سفرتهم. ومن النادر أن يذهب العائد فورا إلى بيته، فلا بد من المرور على أحد الدكاكين حيث يتحلق حوله الأصحاب وغيرهم لسماع مروياته.

   كان الأطفال والفتيان يتنافسون حول من "يلاقي" للبوسطة إلى مسافة أبعد على الطريق الغربي. فينتظرها بعضهم عند الصخرات الزرق، وآخرون عند الكوع الأبيض (موقع المنتجع حاليا)، في حين يصل المتحمسون إلى الكفرون والملوعة. وكان الجميع يترقبون ظهورها في رأس أكواع الملوعة... ومن أجل تقدير مدى اقترابها من الوصول، كانوا يضعون آذانهم على حجارة الطريق ويطرقون عليها بحجارة أصغر، وينصتون للطنين الذي يحدثه الطرق بحثا عن صوت هدير المحرك، كما كانوا يفعلون الأمر نفسه مع أعمدة الهاتف تقديرا منهم أن أسلاكه لا بد وأن تنقل صوت محركها!

 ومن يعرف مسبقا أن والده أو قريبا له سيكون قادما في البوسطة، كان يحظى بمكانة خاصة بين رفاقه الذين يسعون لكسب وده طوال النهار، على أمل أن يمون قريبه على السائق ليسمح لهم بركوب البوسطة من حيث يلتقون بها حتى الساحة. وكان ذلك يملأ قلوبهم بالسعادة والزهو.. أما الآخرون، فكانوا يتراكضون خلفها للتعلق بالسلم غير آبهين لشتائم المعاون وضربات قضيب طويل كان يقتنيه خصيصا لهذه المهمة.

  كان عدد لا بأس به من رجال المشتى مشتركين في صحف ذلك الزمان التي تأتي بها البوسطة. كان الميسورون (وهم في الغالب غير حزبيين) مشتركين بجريدة " النصر" الدمشقية المستقلة. أما الحزبيون فكانت لهم صحفهم الحزبية (في البدء كانت "الصرخة" و"الأخبار" الشيوعية و"صدى لبنان" القومية تأتي من بيروت)، ثم صدرت "النور" و" البناء" في دمشق بعد سقوط الشيشكلي وعودة الحياة الديموقراطية. وكنت ترى جمعا من الناس متحلقين حول أحدهم وهو يقرأ الجريدة بصوت عال، فيما الآخرون منسطون له باهتمام مع صدور بعض التعليقات المؤيدة أو المعترضة بين الحين والآخر.

   كان حزبيو المشتى يرسلون لصحفهم أخبار المنطقة ونشاطاتهم فيها.. وعلى سبيل المثال نروي لكم الحادثة التالية:

   قام الشيوعيون بحملة يانصيب على طقم شراشف وأغطية غرفة نوم.. ثم قيل إن تلاعبا حصل في النهاية، فربحته أم حكمت (امرأة الياس الحكيم خال ميشيل العيسى)، مما أغضب امرأة قبلان المقدسي (أم عبد الكريم) وجعلها تنقلب على الحزب وتنضم للقوميين... وبعد عدة أيام التقت الامرأتان على فرن إسبر التامر، فتلاسنتا وتعاركتا ووصل الأمر إلى شد الشعر وغيره.. ثم وصلت جريدة "النور" الشيوعية من دمشق وفيها أخبار المعركة تحت عنوان: “عملاء حلف الأطلسي في مشتى الحلو يعتدون على المناضلة أم حكمت"!

   المسافة حتى جسر الأبرش (حيث يلتقي مفرق المشتى مع طريق اللاذقية – حمص الذي كان يمر من قلب صافيتا قبل شق الطريق الجديد أوتوستراد طرطوس - حمص) كانت تحتاج من البوسطة لأكثر من خمس ساعات في الأحوال العادية.

  (أتوقف هنا لأتحدث عن وصول شحنة الأسلحة السوفياتية الأولى عام 1955 إلى مرفأ اللاذقية وعبورها الطريق المذكورة، فقد شاهد ركاب البوسطة في ذلك اليوم رتل الدبابات الروسية ونقلوا أخبارها إلى المشتى.

 وقد التقى المبيض عيسى التامر(القومي) بالياس الزخور (الشيوعي) فقال له بشيء من الشماتة:

- سمعت يا بو أنيس؟

- شو؟

- ميقولو أنو كل هالدبابات عتيقة ومصداية!

فأجابه أبو أنيس بسرعة بديهته وسخريته:

- منشان تبيضها أنت!)

    أما في الأحوال غير العادية، كالطقس السيء أو حصول عطل ميكانيكي، فكان الأمر يستغرق أكثر من ذلك بكثير.. وفي مرات كثيرة كانت البوسطة "تنقطع" في الطريق بسبب خطورة العطل أو انغراس العجلات في الوحل، لاسيما وحلة "مزار البياض" اللزجة ما بين "بدادا" و"كفر صنيف".

   وفي مثل هذه الحال، كان الركاب يضطرون لمواصلة الطريق إلى المشتى سيرا على الأقدام، بعد أن تفشل محاولاتهم لإنقاذ البوسطة من المأزق.. ويبقى السائق ومعاونه للحراسة حتى اليوم التالي بانتظار وصول البوسطة الثانية التي تقوم، مع مساعدة أهالي الجوار، بجرها وإخراجها من الوحل. وكانوا في بعض الأحيان ينجحون في إنقاذها بواسطة أغصان السنديان التي يقطعونها من الجوار ويضعونها في الوحل أمام دواليب البوسطة وخلفها.

  مع ذلك ورغم وعورة الطريق والانهيارات التي تحصل بين الحين والآخر في جدرانه الإستنادية، كانت الحوادث قليلة بل نادرة.. وكل ما أذكره هو حادث واحد انقلبت فيه البوسطة عند "كفر صنيف" دون وقوع ضحايا.. وقد تناقلت الناس بشماتة روايات كثيرة عن مناظر بعض "الخواجات" من الركاب الذين سقطت على ثيابهم النظيفة مخلوطات الحمولة من اللبن والبيض والخضروات وغيرها.

   أما أخطر مسافة في الطريق فكانت "كواع الملوعة  التي تلتف فيها الطريق مثل الحية صعودا من مخاضة الكفرون، وكان عددها سبعة منعطفات حادة لا تستطيع البوسطة، أو أي سيارة شحن، أن تجتاز الواحد منها بلفة واحدة، فتضطر للقيام بمناورة تراجع إلى الخلف حتى حرف الجدار الاستنادي حيث يضع المعاون حجرا وراء دولابها الخلفي قبل أن "تخلّص" وتستأنف الصعود.

    ولم يسمع، مع ذلك، عن حصول أي حادث في تلك المسافة الخطرة قبل أن يجري اختصار المنعطفات السبعة بنزلة واحدة مستقيمة.. فقد كانت خطورة الطريق تجبر السائقين على توخي أقصى درجات الحذر.. لكن العامة كانت تردد، مقتنعة، أن ذلك يعود لحماية السيدة العذراء التي يقع مزارها على رأس الجبل المقابل. والغريب أن أول مشوار للبوسطة على نزلة الملوعة المستقيمة الجديدة انتهت بحادث مفجع، إذ انقلبت عن الطريق وتدحرجت حتى قاع الوادي مما أدى لوفاة صاحبها العم سليمان المخول الحلو. ومن حسن الصدف أن البوسطة كانت عائدة من صافيتا فارغة بعد أن قامت بتوصيل قافلة موقوفين..

السؤال: بالعودة إلى البوسطة.. هل كان لها وظائف اتصال أخرى في زمانكم؟

الجواب:

  نعم، كانت للبوسطة وظيفة اتصال أخرى، هي الراديو، الذي كان موضع اهتمام كبير من قبل كل الناس الذين يتحلقون لسماع الأخبار والأغاني قبل مبيت البوسطة في الكراج، الذي كان يقع في صدر الساحة ملاصقا لدكان العم جبرا المرشد (تكسي ميرنا حاليا)، ففي النصف الأول من الفترة التي نتحدث عنها لم يكن في المشتى راديو (باستثناء واحد كان في معمل الحرير الذي كانت تسكن فيه وتديره عائلة فرنسية باسم بيت ديلوم).

   كان الالتفاف حول راديو البوسطة، يبلغ ذروته عندما تذاع نتائج "البروفيه" التي كان النجاح فيها حدثا خطيرا في حياة شباب ذلك الزمان. كنا نركض إلى بيوت الناجحين للمشاركة في الاحتفال بالمناسبة السعيدة والحصول على الحلوان. كان الناجح يصبح مؤهلا للعمل كمعلم مدرسة ابتدائية، وكانت آنذاك وظيفة محترمة وذات دخل كاف لحياة لائقة في ذلك الزمان. وقد دخل عدد من شباب المشتى سلك التعليم على هذا الأساس.

السؤال: هل تذكر، متى وصلت أول وجبة راديوات إلى المشتى؟

الجواب:

وصلت أول وجبة راديوات إلى المشتى عام 1949 أو عام 1950، (على ما أذكر). وكانت راديوات سوداء صغيرة الحجم تعمل بواسطة بطارية أكبر منها حجما، وتحتاج لأنتينات تنصب فوق السطوح مثل حبال الغسيل. وقد اشترى عدد من الميسورين تلك الوجبة.. أذكر منهم خالي وديع، ومعلمنا في المدرسة الابتدائية فريد بشور، ومخاييل الشاهين (كان تاجرا له دكان ملاصق للقنطرة في سوق الدلبة وكان أولاده رفاقا لنا في المدرسة. لكنهم هاجروا جميعا إلى الأرجنتين، ما عدا الابنة الكبرى التي تزوجها أستاذنا سميح عطية الذي أنقذتني من قسوته الشديدة محبتي لدرس الحساب.. كان يمسك الطالب من سوالفه ويؤرجحه قائلا: هذه أرجوحة الأبطال.. وقد صار لاحقا محاميا مشهورا في دمشق كما تولى منصب وزير المواصلات عدة مرات).

  كان وصول تلك الراديوات محطة هامة في مسار تطور المشتى، وحدثا كبيرا في الحياة اليومية الساكنة.  فتحولت بيوت أصحابها إلى مجمعات لسهر الأقارب والمحظوظين من الأصدقاء والجيران.

 أما محطة الإذاعة المشهورة آنذاك، فكانت "الشرق الأدنى" التي تبث من قبرص. ثم انتقلت إلى لندن (بثا واسما) خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.. وكان أقصى طموحنا آنذاك ان تذاع أسماؤنا في برنامج ما يطلبه المستمعون.

  وعندما كان يذاع قداس يوم الأحد كانت رمزا زوجة سليمان النايف تقسم بالله العظيم أنها تشم رائحة البخور في الراديو!

  وقبل أن نختم الحديث عن البوسطة، لا بد من ذكر حادثة دهس حصلت في قرية "كفرون سعادة" المارونية، أصيب فيها شاب اسمه جواد، تم نقله فورا إلى المشتى للمعالجة من قبل الدكتور فايز بيطار، لكنه فارق الحياة فوضعت جثته في الكنيسة بانتظار وصول ذويه. وعندما وصلوا وعلموا أن الجثة في كنيسة الروم جن جنونهم.. وقد علق الخوري الذي كان معهم قائلا: ألا تكفينا مصيبتنا بوفاة الولد لتلحقوها بمصيبة أكبر هي وضع جثته في كنيسة الروم؟ طبعا كان ذلك قبل التطور الكبير الذي شهدته الكنائس الكاثوليكية على صعيد الانفتاح والتعاون مع الكنائس الأخرى.

السؤال: دعنا نتحدّث عن "التلة" الشهيرة بمشتى الحلو، حيث منزلكم و مرابع طفولتكم.. ماذا تذكر عنها؟

الجواب:

       بالنسبة لي،"التلة" هي بيتي الأول.. مع أنني لم أولد فيها.. (لقد ولدت في صافيتا عام 1940 عندما كان والدي عاملا في البريد هناك.. لكنه أصر على تسجيل ولادتي في المشتى. فدائما كانت هناك عصبية مشتاوية قوية).

      على كل... ليس في الأمر تغيير كبير، فعندما عدنا إلى المشتى لم أكن قد تجاوزت الثانية من عمري، ما يسمح لي باعتبار "التلة"  مرتع طفولتي. فإليها تعود الصفحات الأولى المرتسمة في ذاكرتي وفي أعماق تربتها تنغرس جذوري.

     لقد التصق اسم "التلة" ببيتنا، حتى أن الكثيرين من أبناء عائلتنا كانوا ينسبون إليها تمييزا لهم عن أصحاب الأسماء المشابهة في الضيعة. (كنا نسمع من أمي وجدتي عن جد لنا يلقب بأزرق التلة، وكان مشهورا بعصبيته وشدة غضبه وربما جنونه الذي يحمل منه أبناء التلة الكثير في جيناتهم)!

    في طفولتي كانت التلة عبارة عن عمارة القرميد الكبيرة محاطة بحارة من الخرائب التي هجرها أصحابها إلى المغتربات الأمريكية. وكنا نعرفها بأسمائهم: فهذه خربة بيت جرجس، وتلك خربة بيت بو عابد، ومثلها بيت نايف، وبيت ليون، وبيت أسعد وغيرها.

(موضوع المشتى والخرب ربما يحتاج إلى حديث مستقل. فهو يعبر عن فراغ إنساني واجتماعي كبير شهدته البلدة، وربما البلاد كلها، نتيجة هجرة الشباب الكثيفة التي عصفت بسورية ولبنان في الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى وحتى ما بعد الثانية.. فكان وجود الخرب التي هي بقايا بيوت المهاجرين، يشكل ظاهرة ممتدة في جميع أنحاء البلدة التي أصبحت عبارة عن بيوت متباعدة يجاور كلا منها مجموعة من الخرب المهجورة، حتى ليظن بأن أصحاب البيوت كانوا يتعمدون بناء خرب إلى جانبها لاستخدامات خاصة في حياتهم اليومية كزراعة بعض الخضروات أو زرب ما لديهم من طرش.. ولعل موجة الهجرة في غمرة الأحداث الحالية التي ساقت معظم شباب المشتى لمغادرتها تنجلي عن حالة خراب شبيهة بما تحدثنا عنه، ربما تطيح بحالة العمران التي شهدتها البلدة خلال العقود الأربعة الأخيرة. علما بأن حالة الخراب السابقة كانت قد سبقتها حالة عمران مماثلة في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع ازدهار تجارة الحرير وما رافقها من نشاط تجاري وزراعي وحيواني كبير.. ومن شواهد تلك الفترة العدد الكبير من عمارات القرميد القديمة التي يعود بناؤها إلى تلك الفترة الذهبية).

    كانت التلة بعيدة عن المشتى بعض الشيء، إذ تتربع فوق مرتفع يطل على طريق المهيري وتفصله عن أقرب بيت له (بيت زخور) أراضي كرم بيت موسى ودوارة الجوزة المشهورة بكثرة الأفاعي في حيطانها.. هذا فوق الطريق، أما تحته فكان هناك غابة ممتدة نزولا إلى الطريق الغربي.

   وكان كثيرون يخافون الوصول لعندنا في الليل، لا سيما في ليالي الشتاء المعتمة... كنا نسمع عواء الثعالب منذ أول المساء في السهيلات فوق الخرب. كما كنا نسمع في الليالي المثلجة أصوات الذئاب الجائعة في أول الحرش (عند صخرات الشقلوف). وأكثر من مرة كانت الضبعة تدخل دارنا في الليل، أو نسمع قرقعتها تحت نوافذ العمارة وكنا نخاف الخروج ليلا لأي سبب كان.

السؤال: ما قصة بناء بيت التلة (الذي ذكره الشاعر سليمان العيسى وجعله عنوان قصيدته الشهيرة "بيت على الذروة") البعيد عن السكّان والقرية عملياً، على غير المألوف في تلك الفترة؟

الجواب:

   تعود قصة بناء أول بيت في هذه الحارة "النائية" إلى خلاف عائلي بين جدنا السادس عبد الله ووالده سليمان... فغادر عبد الله حارة "الرويسة" حيث كان الدار الأول لعائلة الحلو (صار يعرف لاحقا باسم الدار البراني)، ورحل إلى أقارب له من عائلة جبرين في قرية نبع كركر، مُقسماً ألا يعود إلى المشتى بتاتاً.. وبعد مرور بعض الوقت ووساطات الأقارب، قام أخوته بزيارته حيث تمت المصالحة.. لكن الصعوبة بقيت عند القَسَم فكان الحل بأن اختار ذلك الموقع الذي كان تابعا آنذاك لقرية المهيري، فاشتراه وابتنى له بيتا فيه. على أساس أنه أوفى بقسمه ولم يعد إلى المشتى.. ثم كبرت عائلته وتعددت البيوت المتجاورة للأبناء والأحفاد الذين صاروا يعرفون باسم "أهل التلة".. بل صار يحكى عن صفات خاصة لهم أبرزها العصبية والتهور والنخوة وأشياء أخرى!  (وشاع أيضا تعبير مجانين التلة).

  مع الجيل الرابع بعد مؤسس تلك الحارة، شهدت التلة فترة ازدهار وعزّ.. لاسيما أيام عبود العبد الله (جد والدي) الذي اشتغل بتجارة الحرير والشرانق وبنى مخنقا للشرانق غرب التلة.. ثم بنى عمارة القرميد التي ما تزال قائمة حتى الآن (هي واحدة من أكثر من 15 عمارة قرميد أذكرها في المشتى، ورغم اختلافها في الحجوم كانت كلها على طراز واحد، وكان بناؤوها يأتون من بلدة الشوير في لبنان ويدعون الشويرية.. كما كانت الأرض في بعض صالونات تلك العمارات تبلط برخام أحمر يستورد هو الآخر من لبنان، ويسمى المعدري).

 بعد هذا الازدهار القائم على إنتاج وتجارة الحرير مع لبنان وفرنسا، الذي عرفته المنطقة كلها، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جاء الانهيار الكبير مع الحرب العالمية الأولى عندما تورط كبير عائلة الحلو (إبراهيم الخليل) في مشاكل وصراع مع السلطة العثمانية، كان من أسبابه انخراط ولده خليل في نشاطات الحركات الاستقلالية العربية في لبنان (حيث كان طالبا) وقد اعتقل مع العديد من طلائع تلك الحركات الذين أعدمهم جمال باشا في بيروت ودمشق، وصارت ذكراهم فيما بعد عيدا للشهداء.. لكن خليل تمكن من الفرار من السجن الحربي في "عاليه"، وعاد إلى المشتى مطاردا من قبل رجال الدرك العثماني.

   وقد زاد الطين بلة حصول حادث في المشتى، ملخصه أن مشادة حصلت بين بعض شباب بيت الحلو وصديق لهم عائد من المغترب (هو شقيق مخاييل الجبران السلوم)، كان معه مسدس أعجب به أحد أولئك الشباب، وحاول انتزاعه منه فانطلقت رصاصة أصابت شقيق يوسف النجيب الحلو وقتلته، فاقتيد صاحب المسدس إلى مجلس ابراهيم الخليل (خال القتيل) الذي أصدر عليه حكما بالإعدام.. ولم تنفع توسلات ومداخلات كثيرة من داخل العائلة وخارجها في العفو عنه، فأثار إعدامه مشاعر معادية في المنطقة كلها (يقال إنه ربط إلى شجرة توت ورمي بالمسدس نفسه).

  وقد استغلت هذه الحادثة من قبل السلطة وأعوانها لتشديد الملاحقة على ابراهيم الخليل وولده. وتحول الأمر إلى نوع من العصيان، انجرت إليه عائلة الحلو ومناصروها في المشتى والجوار.. فدوهمت دور العائلة وصودرت أملاكها وسيق العديد من أبنائها إلى الجندية (سفر برلك).. وكان من بين هؤلاء جدي عيسى الذي حارب في معركة قناة السويس (حرب الترعة)، وعاد من هناك سيرا على الأقدام بعد انكسار الجيش العثماني.. وكذلك شقيقه مطانيوس (والد العقيد خليل الحلو) الذي فقد إحدى ساقيه في البلقان، وعاد من هناك سيرا على قدم واحدة وعكازين.

   ظل إبراهيم الخليل وولده ملاحقين لعدة سنوات، قبل أن يتم اغتياله الذي يقال إنه تم بالتعاون مع قريب له، يدعى راغب الحلو غررت به السلطة وأعوانها... وقد تم ذلك على البيدر الذي صار مذ ذاك يحمل اسم بيدر إبراهيم الخليل، ويقع في أسفل حاكورة الحرش من جهة بيت زهرة.. (عندما زرت المشتى للمرة الأخيرة عام 1969 ولوحقت بعد يومين من وصولي – في اليوم التالي لعيد السيدة – نمت على ذلك البيدر حتى مطلع الفجر.. وكانت تلك ليلتي الأخيرة في المشتى حتى عودتي عام 2004).

    بعد اغتيال إبراهيم الخليل (وكان عمره 43 سنة) بفترة قصيرة جدا، اغتيل ولده خليل عندما كان نائما على مصطبة أحد أصدقائه في كفرون سعادة (وكان عمره 26سنة).. وعندما كنا فتية نلعب في دار العم مصطفى كانت هناك مسكبة زهر محيطة بالضريحين فيها نوع من الزهور، نسميه زهر الصابون لأنه كان ينتج رغوة كرغوة الصابون عندما يفرك بالماء. (عن هذا السطح المحاذي للقبر سقطت شقيقتي الأكبر مني وتوفيت... كان عمرها أربع سنوات واسمها أجيني.. ما جعل والديّ يطلقان الاسم نفسه على شقيقتي الثانية التي ولدت بعد ذلك الحادث).

   ولم تستعد عائلة إبراهيم الخليل ممثلة بولده جبرا (وإلى حد ما مصطفى) شيئا من النفوذ، إلا بعد دخول الفرنسيين الذين حاولوا استمالة زعماء العائلات المعروفة في البلاد لإضعاف القوى الشعبية ذات النزوع الاستقلالي. ومن ذلك أنهم وضعوا معمل الحرير (هو، وعائلة غيرين الفرنسية التي تديره) تحت حماية وإشراف العم جبرا، كما جعلوه مشرفا على "الميرة" التي تتولى توزيع الحبوب على المنطقة كلها. فاستعاد الكثير من نفوذ والده وأراضيه، وأحيى العلاقات القديمة مع الكثير من العائلات المعروفة في سورية ولبنان، بشكل خاص بيت البرازي والعظم في حماه، وبيت تابت وفرعون في بيروت.

  بعد ذلك الانهيار الذي أعقب العصيان انتشرت حالة فقر شديدة في المنطقة كلها (يقال إن الناس صارت تأكل بعضها)، وانتشرت الأمراض والأوبئة، لاسيما الطاعون الذي قضى على كثيرين. وقد أطلق عليها اسم "الحالة".

  في تلك الفترة (عشرينات القرن الماضي) عرفت المشتى موجة كثيفة من الهجرة إلى الأمريكتين.

   كانت هجرة معظم شباب التلة إلى البرازيل، ومنهم جدي عيسى وشقيقاه مخاييل والياس (كان شقيقهم جرجس قد اغتيل أيام العصيان على يد أحد رجال الدرك) ولم يبق منهم في المشتى سوى حنا المتزوج من المعلمة رشا (لم يكن في حاجة للهجرة لأن زوجته صاحبة راتب حكومي) ومطانيوس ذي العكازتين الذي حل محل والده ككبير لعائلة عبود العبد الله.

    توفي حنا مبكرا، فلم يبق حول مطانيوس سوى العجائز والنساء والأطفال من الجيل التالي.

    ذكرت بعض التفاصيل والأسماء لأعطي صورة عن وضع التلة عندما جيء بي إليها وأنا طفل. كان جدي مطانيوس، بعكازيه، يقوم بدور الأب الأكبر لكل هذه العائلات، وهو المشرف على أراضيها وأملاكها (أو ما تبقى منها بعد مصادرات الأتراك) وكان بمعظمه حول التلة وفي مشتى التحتاني (أعتقد أن جدتنا الكبيرة أم مطانيوس كانت من مشتى التحتاني).

   كانت هذه العائلات، مثل كل أهل المنطقة آنذاك، تعيش جميعها من منتوج الأرض وتربية دود القز والمواشي والدواجن... كانت كل بيوت الضيعة تقتني الماعز (وبعضهم يقتني بقرة أيضا).. وكان الأولاد-وأحيانا النساء- يتولون إيصالها مع الفجر إلى بيادر القشعات فوق الملزق ليأخذها الراعي من هناك ثم يعيدها مساء ويطلقها من المكان نفسه، فتنزل في زواريب الضيعة كأنها فيضان ماء أسود متدفق من الأعلى.. وكانت كل عنزة تذهب مباشرة إلى بيت أصحابها.. ويحدث أن تضيع بعض العنزات التي تنجرف مع أخريات، فتسمع الأصوات تنادي من فوق السطوح بحثا عن العنزات الضائعة.. ومع وصول العنزات تنصرف النساء إلى حلبها.. ولعل أول أشكال العمل التعاوني هو ما كانت تقوم به بعض النسوة ممن لا يكفيهن الحليب اليومي لإنتاج حاجتهن من اللبن والزبدة والشنكليش وغيرها.. كن يلجأن إلى "المعايرة"، فيتفقن على إعطاء حليب عدة بيوت لامرأة واحدة في يوم، ثم للأخرى في اليوم التالي، وهكذا فتستطيع كل منهن أن توفر كمية كافية لمؤونتها..

   لم ينجح مهاجرو التلة من ذلك الجيل بتحقيق ثروة.. وقد ندر أن سمعنا عن أحدهم أنه أرسل مبلغا أو "بولصة" لعائلته.. وبالذات جدي عيسى الذي انقطعت أخباره تماماً، حتى هاجر والدي عام 1947 فوجده مع شقيقه مخاييل يعيشان في قرية برازيلية صغيرة، وقد تردد أنهما كانا متزوجين هناك أو "مزوبنين" وعندهما أولاد.

   كانت عمارة القرميد في التلة مقسمة للعائلات الأربع. وكان لنا في الجانب الجنوبي من دارها بيت "شل" نسميه البيت الفوقاني نسكنه في فصل الشتاء.. إنه عبارة عن قاعة مربعة واسعة جداً ولها شباك واحد بجانب الباب، مع فتحة صغيرة تسمى "الروزنة" في وسط السقف الترابي المحمول على أعمدة خشبية غليظة تسمى "سواميك" وتمتد فوقها بشكل أفقي من طرف البيت إلى طرفه أعمدة خشبية عملاقة تسمى "عرقات" تقوم فوقها شبكة من الأخشاب المتوازية الأصغر حجما "بدود"، وفوق هذا كله سقف من الألواح الخشبية الرقيقة "القصع" التي تمد فوقها طبقة من الشوك ثم طبقة سميكة من تراب خاص يؤتى به من محافر بعيدة، ويرصّ ويدحل بواسطة صخرة ملساء أسطوانية الشكل لها ثقبان جانبيان تسمى "المعرجلينة" ويصل بين ثقبيها قوس حديدي قوي يستخدم في جرها لعرجلة السطح بصورة يومية خلال موسم الشتاء.

   إلى هذا البيت عدنا من صافيتا.. فقد ترك والدي عمله في البريد، واشترك مع صديقه الحميم مصطفى الحلو في تجارة القز والحرير، وابتنيا مخنقا لهذا الغرض.. بعد أن كان الوالد قد عمل في هذه التجارة من صافيتا بالتعاون مع بيت العباس الذين كانوا يملكون قرية بشراييل ولهم فيها مخنق للقز استأجره منهم.

   مع عودتنا كانت التلة قد شهدت تغيرات كبيرة، فقد بعثرت الضائقة التي رافقت الحرب العالمية الثانية الجيل الجديد من الشباب بعد جيل المهاجرين الأوائل:

   توفي عمي شفيق بداء السرطان وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وكان قد عمل في البلدية بعيد إنشائها في تلك الفترة، وبعده بسنة أو سنتين توفي ابن عمه عبد الله بمرض السل.. في حين كان خليل قد التحق بالجيش الفرنسي وأخذ معه شقيقته وهيبة لتساعده هو وزوجته شريفة، وغادر العمان عبود وجرجي، ومعهما جدتي منيرة وعمتي مريم إلى حلب، حيث اشتغل عبود في المستشفى العسكري، وعمل جرجي في سكة الحديد (قبل أن يهاجر إلى البرازيل)... كما تطوع رزق الله أيضا في الجيش الفرنسي مع مجموعة من شباب المشتى بينهم متري الأنيس وذهبوا إلى بيروت.. وانتقلت شقيقته فريدة إلى دمشق لتدخل مدرسة التمريض ثم سافرت بعد تخرجها إلى بريطانيا للتخصص وتزوجت هناك، لكنها عادت لاحقا لتؤدي الخدمة المطلوبة منها في الجامعة، لئلا تلزم كفيلها العم مصطفى بدفع غرامة تخلفها، كما قامت بعدة زيارات لاحقة للوطن مع زوجها الإنكليزي بويد وابنتيها كيتي وإليزابيث... ومن الجدير بالذكر أنها طبعت خلال خدمتها في الجامعة كتابا صغيرا عن حياة المشتى في فترة طفولتها وصباها، يعتبر من أحلى مصادر التعرف على "مشتى تلك الأيام".. حبذا لو أن أحدا ممن يحتفظون بنسخة منه يساعد على تجديده.

  أما أديل أخت العقيد خليل من أبيه، فقد انتقلت هي الأخرى إلى حلب للدراسة في دار المعلمات، ثم عادت بعد تخرجها وتزوجت من الأستاذ نقولا جبور في صافيتا.

  ومع ازدياد حدة الضائقة، تخلى الفلاحان نخلة ويوسف الصافي عن زراعة أراضي التلة، وافتقدنا متعة ركوب المرج على البيدر التي لم تكن أقل من متعة ركوب البوسطة.

    مع غياب الخبازة تمرة وانهيار التنور المهجور، صارت الوالدة تأخذ العجين إلى بيت ديوب قراجه في أعلى حارة الملزق، بينما نقوم أنا أو شقيقي غسان بحمل الحماية (أغصان سنديان نقطعها من الحرش ونتركها للجفاف فوق حيطان الخرب)..

     في هذه الفترة بالذات، بدأ والدي نشاطه كأحد مؤسسي الحزب الشيوعي في المشتى، وكان قد انتسب له في صافيتا على يد أحد شيوعيي طرابلس واسمه بدر مرجان (تعرفت عليه لاحقا في أواخر الستينات عندما برز من جديد في نشاط حزبي انشقاقي مع نسيب وحسيب نمر اللذين أصدرا جريدة "إلى الأمام" في بيروت بالتعاون مع عفيف البزرة ودعم النظام في سوريا آنذاك).

 ويذكر الأستاذ دانيال نعمة في مذكراته أنه عرف "دون تأكيد أن شاباً من المشتى كان يدرس في حمص، قد انتسب إلى الحزب الشيوعي في الثلاثينات هو حنا عيسى وسوف الخوري ثم سافر إلى المهجر. وأن المرحوم عبود الخوري وأخيه الخوري عيسى كانا عضوين في الحزب في تلك الأيام".

   علما أن الأستاذ دانيال نفسه انتمى إلى الحزب في حلب، عندما كان طالبا في دار المعلمين هناك، وكان من أنشط الطلاب واكثرهم حماسا في المظاهرات. أما انتسابه رسميا فتم في المشتى، ويروي في مذكراته أنه حصل على بطاقة عضوية تحمل توقيعي خالد بكداش أمين سر اللجنة المركزية وبدري الحلو أمين سر اللجنة المنطقية.

السؤال: هل كان الحزب الشيوعي في تلك الفترة مرخّصاً؟

الجواب:

نعم، أذكر أن الحزب كان في تلك الفترة مرخصاً، وكان له مكتب في بيت العقيد خليل حلو فوق الساحة (كان مجرد غرفتين، هما المطلتان على السوق. أما القسم الباقي من العمارة فقد جرى بناؤه بعد ذلك بسنوات).

    ومن الذين أذكر انهم كانوا رفاقاً لوالدي في الحزب آنذاك، وشكلوا رعيل الشيوعيين الأوائل في المشتى: خالنا أيوب الجرجس، وداهود الدورة، والياس الزكزك، وعيسى المخاييل (والد ميشيل وجرجس)، وابراهيم البوسمرة، ومخاييل الطنوس (والد الدكتور جوزيف المقيم حاليا في إلمانيا)، وسليمان النايف واليان الجبرا، وجبرا العيسى، والياس الزخور، وجرجي الفاضل، وجبر المقدسي، وجرجي البيطار، وغيرهم من المشتى ومشتى التحتاني وبيت زهرة.. وحتى من الجنين.

   كانوا يقومون باستعراضات حزبية مسلحة ببنادق و"جفوتة" صيد، في وسط الساحة تحت مكتب الحزب وهم يهتفون لستالين والإتحاد السوفياتي. وكانت والدتي تضع لنا، أنا وشقيقي الأكبر غسان، شرائط حمراء على صدر القميص قبل أن ننزل إلى الحزب، ونقف إلى جانب الوالد على شرفة الخطابة.

    كان الحزب آنذاك نوعا من التجمع (هو على الأغلب امتداد لتجمع "الكتلة الوطنية" التي قادت الحركة الاستقلالية وكان لها امتداد في المشتى). ولم يكن لذلك التجمع الحزبي أي أساس فكري أو تنظيمي.. في حين شكلت عودة دانيال نعمة من حلب، في الفترة نفسها، نوعا من القفزة الفكرية والتنظيمية التي لم يستطع الجيل الأول التأقلم معها، فبدأ أفراده يتركون الحزب ليحل محلهم جيل جديد من الشباب المتعلم. (وإن كان القدماء قد ظلوا متعاطفين مع الشيوعية بشكل أو بآخر).

السؤال: ماذا عن تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي؟

الجواب:

أذكر ما قرأته من مذكرات الأستاذ دانيال نعمة إذ يقول: "في أواسط الثلاثينيات بدأ نشاط سري لإنشاء تنظيم للحزب السوري القومي في القرية، وكان الداعية لهذا الحزب هو وسوف الديب، وكان سائقا من صافيتا يسكن في المشتى، وقد تجاوب معه العم جميل إبراهيم نعمة (والد الأمين نبيه نعمة والشهيد الضابط محمود نعمة) وآخرون. وزار الزعيم أنطون سعادة القرية، وكان يقوم برحلة شملت صافيتا ومرت في المشتى وانتهت في مرمريتا، واستقبله أنصاره من القرية ومن قرى أخرى مجاورة: الكفرون، والعيون، وألقى خطابا، وتجمعنا نحن أطفال القرية حول هذه التظاهرة، وتأثرنا بطريقة سير المشاركين فيها وباستعراضاتهم شبه العسكرية وبهتافاتهم التي أطلقوها، وحاولنا تقليدهم. وعاقبنا في اليوم التالي مدير مدرستنا الابتدائية المرحوم المعلم داود الحلو، وهو ابن عمة الوالدة اللزم".

     مهما يكن الأمر، لقد تركت تجربة والدي الحزبية نوعا من الجفاء بينه وبين العم جبرا الحلو (الذي كان قد فاز بالنيابة عام 1936)، وكان متمسكا بانتسابه للعائلات الإقطاعية وتحالفاتها في سورية، خلافاً لشقيقه العم مصطفى الذي كانت صداقته مع الوالد أقوى من كل الخلافات، وكان دائماً نصيراً للحزبيين المضطهدين من الدولة سواء كانوا شيوعيين أو قوميين سوريين. فقد كانوا جميعهم يمرون عليه أيام الملاحقات ويوفر لهم الزاد والحماية والنصيحة.. وبينما كان العم جبرا، ومعظم بيت الحلو متعاطفين مع القوميين السوريين ومتحالفين مع بيت بشور في الانتخابات، كان والدي وخالي أيوب متعاطفين مع الشيوعية، وعلى وفاء انتخابي للعلاقة مع بيت العباس. وحول هذه العلاقة أذكر أن معظم أهالي المشتى قد وقفوا مع بيت بشور بعد معركة (أخذت شيئاً من الطابع الطائفي) جرت في صافيتا (ربما عام 1947) وسقط فيها قتلى وجرحى. ثم كانت الانتخابات بعدها بفترة قصيرة، فجاء أحمد بن جابر العباس سراً إلى بيت خالي أيوب الذي أرسل ولده فاروق لإبلاغ والدي، وكنا عائدين مع حوالي عشرة مكاريه ينقلون الفحم من مشحرة أقامها والدي بشكل سري في بيت سمعان. ويبدو أن أحدهم سمع الخبرية وسربها، فما كاد الوالد ينزل إلى بيت خالي أيوب نتبعه أنا وغسان، حتى وصلت عدة سيارات جيب من صافيتا فيها مسلحون ومعهم آخرون من المشتى، قاموا بتطويق البيت مطالبين بتسليم أحمد العباس لقتله... لكن والدي وخالي أيوب رفضا التسليم وهددا بالمقاومة، كما سربا الخبر لبعض أصحابهما ومناصريهما في الضيعة، فاجتمع عدد من الناس المسلحين بالبنادق والمسدسات والعصي والفؤوس... ثم كان تدخل من المصلحين، فتمت التسوية بمغادرة أحمد العباس للمشتى مع ضمان وصوله سالما إلى بلدته "الطليعي" القريبة من جسر الأبرش.

 في العام 1947 تدهورت تجارة والدي والعم مصطفى، بعد أن صودرت لهم تهريبة حرير إلى لبنان، خسرا نتيجتها مبلغا كبيرا.. فرهن الوالد جنينة نبع العروس عند ابن عمه العقيد خليل مقابل "الناولون"، أي ثمن تذكرة الباخرة، (كان في الأصل قد اشترى الأرض من المعلمة رشا وزرع فيها أول بستان تفاح حديث في المشتى). وخلال سفره إلى البرازيل أرسل لنا خمسين دولارا من جنوه (علمنا فيما بعد أنه حصل عليها من قيامه بالعمل حلاقاً في الباخرة).

  وفي البرازيل وجد والده وعمه (كما سبق الحديث)، ففتح محلا في سان باولو على اسم جدي لأنه يحمل الجنسية البرازيلية، وكان الجد مريضا جدا بسبب تضرر كبده من شرب كحول القصب البرازيلي، وأشار الأطباء بإرساله ليموت في بلاده. فقام والدي بإعادته إلى سورية حيث تحسنت صحته وعاش مع عمي عبود سبعة عشر عاماً.

  في عام 1948 دهمتني الأمراض (أذكر أن بداية شعوري بها كانت عندما كنا عائدين من الحنبلاس وحرارتي مثل النار).... في البدء كان التيفوئيد ثم الملاريا ثم انتكاسة تيفوئيد ثانية.. المهم شتوية كاملة وأنا في الفراش، ولم تكن هناك أدوية فعالة سوى حبوب الكينا التي كان يعطيني إياها عرابي الدكتور شفيق طعمة الذي كان يقيم في المشتى آنذاك، قبل أن ينتقل إلى حمص ويؤسس هناك مستشفى الشرق.

  ومع أننا كنا نحاذر إبلاغ والدي بمرضي، قام اليان الجبرا متطوعا من عنده، بكتابة رسالة لأبي يقول له فيها إن عدنان مريض ومخطر "يا بتلحقو يا ما بتلحقو".. فصفى والدي الدكان على عجل، وكان في أول نجاحه وترك كل شيء وراءه وعاد إلى سورية. (ربحنا من هذه العودة جيلا جديدا من الأخوة: نبيل وابتسام وشفيق ورفيق.. وكانت أمي تسميهم الفوج الرجعي).

  بالمناسبة كان اليان الجبرا مهووسا بإرسال المكاتيب... وقد حدثنا مرة في بيت زخور وكنا كثيرين، معلقا على إطلاق القمر الفضائي الأمريكي الأول، قائلا: كل الحق على هالحمار خروتشيف.. لقد كتبت له رسالة عندما كان القمر الروسي وحده في الفضاء، وقلت له لا نريد منك سوى أن تدمر لنا واشنطن ونيويورك ولندن.. لكنه لم يسمع مني!

   صحيح ان تلك الفترة كانت بالغة الصعوبة.. لكن الفضل في تحملنا لها يعود لوالدتي وجدي مطانيوس.. لقد كانا من الجبابرة فعلاً... كانت الوالدة تقوم بكل أعمال البيت (ولم تكن الأمور ميسرة) كما كانت تحمل العجين إلى بيت ديوب وبعد أن تنهي كل واجبات العائلة كانت تنتظر الليل لتنزل بالجرة خلسة إلى بركة "بيت نقول" أو سوق الدلبة لتملأها وتحملها على كتفها من هناك حتى التلة، بينما نلوذ أنا وإجيني وبسام (كان غسان قد انتقل إلى حلب مع عمي عبود للدراسة في مدرسة الفرير) بغرفة جدي مطانيوس خوفا من رعب حقيقي ينتظرنا في كل زاوية من تلك الخرب والبيوت المهجورة. وكان الجد مطانيوس الملاذ الآمن بشخصيته القوية وهيبته: كان طويل القامة قوي الصوت له شاربان كثيفان وعينان حادتان كعيني صقر (إنه يشبه إلى حد بعيد صورة الأمير بشير الشهابي المنشورة في الكتب المدرسية). وما أزال أذكر تحلقنا حوله وهو يشرب كأسا من العرق مع غروب الشمس على "اللتون" المرتفع غرب التلة فوق وادي بيت زهرة، وكان يطعمنا من مازته القليلة (خيار وبندورة) أكثر مما يأكل.

 كان يحمل عكازتيه ويذهب للعمل في أرض الكرم فوق التلة، فيعمل، وهو جالس، على هدم جدار ليكسر بضعة أمتار من الحرش ويضمها للأرض، ثم يعيد بناء الجدار في مكانه الجديد. وكثيرا ما كانت تظهر له أفعى في قلب ذلك الرجم، فيقتلها ثم يقص شبرا من جهة الرأس وشبرا من جهة الذنب، وبعد ذلك يشويها ويأكلها بتلذذ. وكان يدعونا للأكل معه قائلا: إنها أطيب من سمك السلور!

 وينزل يوميا تقريبا إلى مشتى التحتاني أو بيت زهرة لمتابعة شؤون الأرض والعيش مع الفلاحين كواحد منهم.. أكثر من ذلك، كانت له شفقة خاصة على "النور" الذين كانوا يأتون إلى المشتى في مواسم مختلفة، فينصبون خيامهم في الكسارة (حيث بيتنا الجديد حاليا) أو تحت القرطمات إلى الغرب قليلا. فكان يحميهم من اعتداءاتنا واعتداءات غيرنا من الأولاد. وكانوا يقولون للجميع: نحن بحماية أبو خليل. وكان يحب مجالستهم وحتى الأكل من طعامهم (وكان هذا الأمر يغضب والدتي كثيرا).

 كان "النور" يحيون الحفلات والأعراس، فرجالهم يدقون الطبل ويعزفون على البزق والأرغول، بينما النساء يتقنّ الرقص والغناء. وعندما كانوا يتخاصمون مع بعضهم البعض كانوا يأتون لعند أبي خليل كي يقضي ويصلح بينهم. أما العمل الوحيد الذي كانوا يقومون به، فهو صنع الغرابيل من جلود الحيوانات التي يصطادونها.. وكانوا يذهبون ليلا مع عدد كبير من الكلاب لصيد القنفذ في منطقة السارود على طريق المهيري. وكنا نحصل منهم على ريش القنفذ للكتابة.

أذكر أمرا غريبا هو أن كلاب القصابين كانت تهجم على النور في كل مرة يمر فيها أحدهم من قرب دكان القصاب.. وكانت تميزهم عن غيرهم من المارة حتى ولو كانت الثياب متشابهة!

 ورغم كل إزعاجاتنا لهم، كانت تربطنا مع أولادهم صداقات. وقد التقيت في بيروت مع مطر محمد (عازف البزق الشهير) وكانت لنا جلسات كثيرة في مقهى "الهورس شو" نتذاكر فيها أيام الولدنة في المشتى.

  عام 1953 كان جدي مطانيوس قد توفي، وأحوالنا ليست على ما يرام، ولم يبق في التلة غيرنا، فأجرنا عمارة القرميد لثانوية حزور التي أسسها الحزب السوري القومي بمواجهة ثانوية ابن خلدون التي كانت محسوبة على الشيوعيين ومقرها عمارة أسبر التامر. ونزلنا من التلة واستأجرنا بيت اليان السليم في الدار الجواني (دار بيت الحلو)، وكان العم اليان وعائلته (رفيقانا سليم ونسيم وشقيقاتهما معاني وجومانة ونهلا) قد هاجروا إلى الأرجنتين. وأحلى ما أذكره من ذلك البيت هو المقاعد الحجرية على طول جدران الصالون. وانفتاح الشبابيك على وديان الغرب (قشموط، وحاكورة الحرش) وما تأتي به من نسمات منعشة لا نظير لها.

   كان من شروط عقد إيجار التلة أن نتعلم أنا وغسان مجانا. وهذا ما خلق لنا وضعا خاصا جدا كشيوعيين في مدرسة قومية! وقد حدثت معنا مشاكل كثيرة لهذا السبب. لكن الارتباط العائلي لرفاقنا وأبناء عمومتنا كان يقوى على الانتماء الحزبي، فينجدوننا وتتحول أية معركة بشكل فوري إلى معركة مع كل شباب بيت الحلو وغيرهم من الأصدقاء.

 كان والدي الذي عاد من البرازيل ببعض الرأسمال، قد حاول استثمار ماله في زراعة القطن التي درت أرباحا طائلة على مزارعيها في السنوات السابقة، حتى سمي القطن آنذاك الذهب الأبيض. فاستأجر أراض كثيرة من مشتى التحتاني حتى بيت سمعان وزرعها كلها قطناً... لكن شيئا ما حصل في تلك السنة أصاب جميع المزارعين بكارثة، وكنا منهم. ولما كان الوالد قد استأجر تلك الأراضي لمدة سنتين، فقد زرعها في العام الثاني بالفستق، واشترى مع بعض الشركاء قطيعاً من الغنم استأجروا له زريبة في معمل الحرير. لكن الحظ مع الفستق والغنم لم يكن بأحسن منه مع القطن... فانحدرت أمورنا إلى الحضيض، وتراكمت الديون وتوقف أصحاب الدكاكين عن بيعنا حتى الملح ديناً... وقد بلغ الأمر في خريف ذلك العام أننا قطفنا كل المتأخر من بندورة الزريعة، وكومناه وهو أخضر فوق أرض الغرفة الداخلية، وبقينا لأكثر من شهرين نعيش على البندورة فقط!  وفي عز هذه الضائقة، وبدون أي اتصال، فوجئنا بنبيه الحمصي (الحلال)، الذي كان موزعا للبريد، يحمل لنا مكتوبا مسجلا (مسوكر) من عمي جرجي في البرازيل وفيه شيك بمائة دولار.

 بعد أيام من وصول رسالة عمي جرجي، جاء جرجس ابن خالي أيوب من الصحرا (شركة نفط العراق Ipc)، وفاتح والدي بأمر عمل مؤقت كمشرف على ورشة لمقاول حمصي اسمه زائري طبارة تعهدها من الشركة.. وكان العمل يتطلب معرفة باللغة الإنكليزية التي لا يعرفها الوالد، لكنه وافق واشترى كتابا لتعلم الإنكليزية بدون معلم، وصار يسهر الليل كله لإعداد ما هو متوجب عليه من كتابات، مستعيناً بذلك الكتاب وبابن الخال جرجس. وببعض ما اكتسبه من لغة برتغالية خلال سفرته البرازيلية.

 دام هذا العمل أقل من سنة بقليل، انتعشت فيها حالتنا بشكل كبير. وكان الوالد ينسى بسرعة عندما تتحسن الحال، ما كان قد عاناه في أيام الضيق، فينفق بدون حساب لنعود إلى الضائقة من جديد، فيقرر السفر إلى فنزويلا. وقد ودعنا وغادر إلى بيروت للسفر من هناك... لكننا فوجئنا به بعد أيام عائداً إلى المشتى وقد ألغى مشروع الهجرة.. فقد تعرف على صاحب مكتب السفريات في بيروت اسمه احمد العجم، وكان متزوجاً من امرأة من المشتى اسمها حسن (بتسكين السين) العكاري، فدعاه إلى منزله، وهناك أقنعه بأن يذهب إلى حلب ويصبح وكيلا لهم في مكتب متخصص بتسفير الناس إلى فنزويلا..

  فتغيرت أحوالنا من جديد... وكان أول ما فعله الوالد أن أخرج غسان من مدرسة التدريب المهني التابعة لشركة نفط العراق في حمص التي كان قد دخلها، هو وجورج ابن عمتي عفيفة، وأعاده إلى الدراسة العادية حيث درس صف البكالوريا في المعهد العربي الإسلامي في حلب، ومن ثم أرسله لدراسة الطب في ألمانيا.. وبعد ذلك نقل العائلة كلها إلى حلب. ليبدأ فصل جديد في حياتنا.

 وقبل أن نطوي آخر صفحة من هذا الفصل الذي يحمل عنوان التلة، نبقى مع قصيدة بالاسم نفسه:

      ذكرك يا هلبيت اللي رباني         وعنو بعيد الدهر خلاني

      بيحوم عا هلقلب ليل نهار           متل النعس عجفون نعساني

     ربينا سوى وكنا ولاد صغار          وتبقى الدني بالحب ملياني

     نكنكن على الحواش حول النار       والبرد ينطرنا بالقراني

     والريح بتصوفر بأرض الدار         بتقول صوت دياب جوعاني

    

     نحط الأكل متشوف إلا طار          خواشيق متقرقع على صواني

     راس وعقب منام، كنا صغار        ومين اللي عندو تخت وخزاني؟

    نصًبح عبرد يقصقص المسمار        والمي بالجرات جمداني

    لا كسر صفره الصبح لا إفطار        زواويدنا بالكيس يبساني

    شي رغيف خبز يكسر المنشار      وشي شنكليشة متل صوانه

    والبورياس بيسلخ المنخار             الواحد بيمشي بدروة التاني

    ونلعب كأنو الدرب شي مشوار       وبعدا الدني بالكاد وعياني

    وبالمدرسة شياطين جن ونار          ودير الفلق قضبان رمانه

    وما يهمنا شو مخبيي الأقدار           وشو ناطرتنا سنين تعبانه

    كنا نظن الدهر مهما جار              حلوي الدني، وبتضل حليانه

 

السؤال- هل ساهم المناخ الذي عشت فيه طفولتك و فتوتك و باكورة شبابك، في تكون عدنان بدر حلو الذي نعرفه اليوم؟.. الرجاء التكرم بسرد معظم ما يعتمل بذاكرتك..

الجواب:

بالطبع.. ولا بأس من القول إنّه في تلك المرحلة -كما أشرنا سابقا- كان النشاط الحزبي في المشتى مقتصرا على الحزبين القومي السوري والشيوعي، بالإضافة لوجود كتلة غير قليلة من طبقة ملاكي الأرض والتجار الأغنياء (بمقاييس ذلك الزمان) الذين كانوا على تواصل وتعاون مع الدولة ورجالات السياسة التقليديين والعائلات الكبيرة في المدن.

في البدء كان الانتماء للحزبين المذكورين تقليدياً إلى حد كبير. ولا أدل على ذلك من تلك العلاقة التي كانت قائمة دون أي حرج بين القيادة المحلية للحزب الشيوعي وبين اصطفافها الانتخابي إلى جانب عائلة العباس الإقطاعية. ومثل ذلك على مستوى أصغر كان وضعنا المزدوج أنا وأخي الأكبر غسان كأبناء عائلة الحلو من جهة وبين انتمائنا الشيوعي، حيث كانت الأولى تشكل نوعا من الحماية النسبية للثانية.

س: ما سبب توجهكم إلى الحركة الشيوعية؟

الجواب:

ثمة أمران ساهما في توجهنا نحو الشيوعية خلافا لتوجهات العائلة التقليدية:

الأول هو معاناة الأسرة بعد سفر الجد إلى البرازيل، وتحمل والدي مسؤوليات تلك الأسرة، وهو فتى، اضطرته الظروف للعمل بكل أنواع العمل لهذا الغرض، وكانت البداية في تكسير البحص ضمن ورشة بناء جسر على طريق معمل الحرير، ثم كأجير في مكتب بريد المشتى، بينما عمل شقيقه في البلدية.. واضطرار باقي أفراد الأسرة للانتقال إلى حلب حيث عمل أحد الأخوة في المستشفى العسكري، والآخر في سكة الحديد. هذا الواقع غذى في نفوس أبناء هذه الأسرة حسا طبقيا مغايرا كليا لآخرين من أبناء العائلة التقليديين الذين ظلوا، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، أوفياء لشيء من تقاليد الأسر الإقطاعية.

أما الثاني الذي عزز هذا النزوع في أسرتنا الصغيرة، فهو ما كان لدى الوالدة مما يمكن تسميته "حس العدالة". إذ كان لديها رفضاً شديداً للظلم والاستغلال أيا كان مصدره.

الأمر المستجد في المشتى، مع فترة فتوتنا، هو التغيير الجذري الذي طرأ على التركيب التقليدي للحزبين القومي والشيوعي، بدورين متناظرين لابني العم: القومي نبيه نعمة والشيوعي دانيال نعمة اللذين أطلقا حالة شبابية وثقافية في النشاط الحزبي.. لكنهما لم يستطيعا تغليب لغة الحوار بين الحزبين على لغة الصدام المستمر الذي كان يستهلك جل نشاط شباب الحزبين.

لقد كان الصدام، وصولا في بعض الأحيان إلى هدر الدماء، يكاد يطغى على النشاط الحزبي للفريقين. فكأن كل منهما يتربص بالآخر ونشاطاته للعمل على تخريبها بالقوة.

كان القوميون يقيمون مهرجانات واحتفالات في بعض الدور والساحات، وذلك بمناسبات خاصة كعيد ميلاد الزعيم سعادة، وذكرى إعدامه وعيد تأسيس الحزب، في حين كان الشيوعيون يميلون إلى المظاهرات في المناسبات والأحداث السياسية، كما يقيمون احتفالات مزينة بالمشاعل النارية على رؤوس التلال بمناسبتي عيد الجلاء والأول من أيار بشكل خاص.

كان دأب الشيوعيين التصدي بالقوة لاحتفالات القوميين ولو كانت في دور أصحابها، كما كان دأب القوميين حشد مجموعات للهجوم عل تظاهرات الشيوعيين. وكان لدى كل من الفريقين بعض الأشخاص المعروفين بقوتهم العضلية الذين يشكلون فرق التصدي في الهجوم والدفاع، وكان الفريقان يبذلان جهودا خاصة لكسب العناصر الشابة القوية من أجل هذه المهمة، ويهتمون بذلك أكثر من اهتمامهم بكسب ورعاية العناصر الشابة ذات الميول الثقافية.. كانت القوة الضاربة للشيوعيين تتكون من شباب حارة الحدادين، في حين كانت قوة القوميين المناظرة من أبناء حارة بيت الياس. طبعا مع امتدادات أخرى هنا وهناك، وحتى في البلدات والقرى المجاورة.

أطرف ما جرى لمظاهرة شيوعية كانت تهتف: "عاش ستالين العظيم"، هو صعود القومي السوري رضوان التامر على سطح بيته وهو يهتف بأعلى صوته: "يسقط ستالين العظيم"!

أما أخطر الاشتباكات فكان ذلك الصدام الذي أدى لوفاة الشاب القومي عاطف جبران سلوم، عام 1953، والذي شهدتُ بدايته في سوق الدلبة تحت بيت المرحوم بينه وبين مجموعة شباب منهم عفيف حنا ومناح البسطاطي وعماد الندور، وانضم للأول أولاد خاله ديبو نصار وغيرهم. ثم استؤنفت المشاجرة في تلك الليلة حيث كان الشيوعيون يحتفلون بزفاف أحدهم في حارة الدبس، فداهمهم القوميون انطلاقاً من بيت ديبو المجاور وكان ضوء "اللوكس" أول ضحايا النزاع الذي تواصل في الظلام وانجلى عن عدة جرحى، بينهم المغدور الذي أفاد للطبيب المعالج قبل وفاته باسم منح البسطاطي، وهو من الشباب الذين كان قد اصطدم بهم مساء، فاختلط الأمر بين أن يكون المغدور يتحدث عمن اشتبكوا معه فعلا خلال المشاجرة الكبيرة أم هو، ضمن حاله الحرجة، يتذكر المشاجرة المسائية قرب بيته!

ونتيجة للحال الناجمة عن الاشتباكين، غاب عدد كبير من الشباب الشيوعيين عن البلدة، ما بين الذين سيقوا إلى السجن (وقد حكم على منح بسطاطي بالسجن 15 سنة) وما بين فارين لعدة أشهر. وكنا أنا وأخي ربما الوحيدين الذين واصلوا حياتهم العادية بعيدا عن التورط في تلك المعركة. وهذا ما ألقى على أكتاف شقيقي دورا أكبر في النشاط الحزبي الذي استمر لفترة سرياً، وكان يكلفني بالكثير من المهمات والاتصالات مع الرفاق الفارين الذين كانوا يختبئون في الأحراش المجاورة للبلدة.

السؤال: ماذا تذكر عن المرحلة الثانوية، و قبلها الإعدادية، لا سيّما أنك درست في مدرسة تتبع للسوريين القوميين، فيما أنت شيوعي و من منبت شيوعي؟

الجواب:

لقد سبقت الإشارة إلى استئجار الحزب القومي لبناية التلة كمقر لثانوية حزور، وإلى كون دراستنا أنا وأخي في تلك الثانوية جزءاً من عقد الإيجار. هذا الوضع لم يشكل لنا تحدياً أمنياً فقط، بل أكثر من ذلك، كان يشكل تحدياً ثقافياً كبيراً، حيث كنا دائما طرفاً في المناقشات المحتدمة مع زملائنا التلاميذ القوميين وحتى مع أساتذتنا.

لم يكن هذا الأمر سلبياً كله، بل كانت له جوانب إيجابية، إذ فرض علينا إعطاء اهتمام استثنائي للمطالعة في كتب وصحف ومنشورات خارجة عن البرنامج الدراسي.. وما من شك في أن هذا الأمر، بالإضافة لسمعة الوالد الطيبة في البلدة كلها وحتى جوارها، وتفوقنا الدراسي قد مدّ لنا جسوراً من الصداقات الوطيدة مع الكثير من زملائنا الطلاب، وحتى مع كثيرين من أساتذتنا، لم تنل منها الخلافات السياسية والحزبية على مرور السنوات وقد استمر كثير منها حتى الآن. بل أكثر من ذلك يمكن القول بثقة إننا ساهمنا لاحقا في كسر حواجز الانشقاقات والاصطفافات الحزبية والعائلية وحتى الحاراتية التي كانت تقسم المشتى إلى مربعات معزولة عن بعضها البعض!

بعد اغتيال المالكي عام 1955 أغلقت ثانوية حزور، فانتقلتُ إلى ثانوية ابن خلدون "الشيوعية". كنت آنذاك في الصف التاسع وكان مدير الثانوية الأستاذ نايف بلوز.

في ذلك العام (كنت في السادسسة عشرة من العمر)، دعيت للانضمام إلى الحزب تنظيمياً، إذ كنت قبل ذلك (رغم كل نشاطي) شيوعياً بالانتماء فقط. وبالفعل انضممت إلى خلية كان مسؤولها الأستاذ سمير طعمة من بيت شباط، كان معي فيها جوزيف ابن عمتي عفيفة، وعيسى الطنسي الموسى (الذي استشهد بعد فترة خلال خدمة العلم)، وحنا عطية الحدو، ووجيه العبدوش. وقد طلب مني أن أعد لموضوع سياسي سيكون نوعا من الامتحان، ووقع الاختيار على مشروع مصفاة حمص الذي كان آنذاك محور مناقشات محتدمة في المجلس النيابي وعلى صفحات الصحف. وما أزال أذكر حتى الآن معظم معطيات ذلك الحوار حول العرضين التشيكي بثمانية وثلاثين مليون دولار والبريطاني بواحد وخمسين مليونا.. والانقسام السياسي حول المشروعين، وما أثاره أكرم الحوراني آنذاك حول عدم الثقة بالبريطانيين الذين سبق أن رسا عليهم مشروع خزانات النفط في اللاذقية الذي أنجزوه، لكنهم ماطلوا لسنوات في استكماله بوصلة فنية إلى البحر لإبقائنا تحت رحمة العجز عن استخدام تلك المستودعات في حال نشوب حرب، كما جرى خلال حرب 1948 التي عانى فيها الجيش السوري من نفاذ في مخزونات الوقود. وعلى ذكر الحوراني أسجل حكايتين ترتبطان به:

الأولى هي المظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي تأييدا للانقلاب على الشيشكلي عام 1954، وانطلقت من عيون الوادي إلى المشتى. فخلال تلك المظاهرة هتفت باسم مصطفى حمدون الذي كانت "النور" قد ذكرت أنه قائد الانقلاب، فطلب مني أحد قادة المظاهرة عدم القيام بذلك باعتباره غير شيوعي (اشتراكي من جماعة الحوراني).

والحكاية الثانية كانت قد جرت قبل ذلك عندما انتفض فلاحو قريتي سبة وعين بشريتي ضد إقطاعيي آل بشور، وأرسل الشيشكلي الشرطة العسكرية وقوات الدرك لتأديب القريتين، فاعتقلوا الفلاحين رجالا ونساء وأتوا بهم إلى مخفر المشتى حيث عرضوهم لتعذيب شديد.. فقام الحزب الشيوعي بحملة لجمع الأغذية والبطانيات لمساعدة الموقوفين، وتم تكليفنا كفتيان صغار بجمع تلك المعونات من البيوت وإيصالها إلى المخفر. وما بين دركي أو شرطي آدمي يتلقى منا المواد ويمررها للمعتقلين، وبين غيره ممن كانوا ينهالون علينا بالضرب والشتائم، استطعنا بالفعل أن نحمل لهؤلاء الفلاحين المعذبين ما يعبر عن موقف أهالي المشتى التضامني معهم. وقد تردد كثيراً في أثناء تلك الحملة اسم أكرم الحوراني وحزبه الاشتراكي كمحرض لأولئك الفلاحين على الثورة.

كان المشرف على نشاطنا الحزبي والثقافي الرفيق الشاعر ميخائيل عيد. ما أزال أذكر أنه أعارني رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي وقد كتب على صفحتها الأولى بقلم حبر: "عندما قرأت الأرض أصبحت شيوعيا".. كما أعارني كتب "فارس الأمل" لجورج أمادو، ورواية "الأم" لمكسيم غوركي، وكتباً أخرى لخالد محمد خالد وغيره. في تلك الفترة كنت أتولى استلام حصة المشتى من جريدة "النور" من البوسطة عند وصولها إلى الساحة في حارتنا، وهي عبارة عن لفافة كبيرة كان عليّ أن آخذها إلى البيت، فأفتحها وأوضبها، ثم أنقلها إلى الرفيق مخائيل الذي كان يقيم في الطرف الآخر من البلدة، ليشرف على توزيعها.

في نهاية صيف 1956 تم انتقال العائلة إلى حلب. وهناك انتسبت إلى المعهد العربي الإسلامي (كأن القدر قد كتب أن تكون دراستي في مدارس خاضعة لنفوذ متعارض مع موقفي السياسي) بكل ما يوجبه عليّ هذا الوضع من تحديات سياسية وثقافية، انتقلت إلى مرحلة أعلى وأغنى وأكثر حاجة للمزيد من الذخيرة.

أمضيت ثلاث سنوات في ذلك المعهد، كانت مشحونة بالخلافات والنقاشات السياسية مع زملائنا وحتى أساتذتنا المنتمين لتنظيم الأخوان المسلمين. وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الرحمن عطبة (مدير المدرسة ومدرس الأدب العربي ومسؤول تنظيم الأخوان فيها) الذي كان يتحول درسه إلى جلسة حوار سياسي أكون أنا طرفا فيه بصورة دائمة. مع ذلك كان المناخ رائعاً، فلم يحصل يوماً أن أثار أحدهم موضوع كوني مسيحياً (وربما الطالب المسيحي الوحيد في الصف، أقله في سنتي العاشر والحادي عشر)!

ثم كانت حملة الملاحقة للشيوعيين عام 1959، وقد حضرت دورية من المباحث إلى المدرسة من أجل توقيفي. فاستضافهم المدير على فنجان قهوة في مكتبه وراح يدافع عني بقوة، في الوقت الذي أوعز فيه خفية للآذن كي يذهب إلى الصف ويطلب مني المغادرة على الفور.

ما أزال أذكر أنه كان درس رياضيات للأستاذ القدير محمود شعبان، الذي أسرّ له الآذن ببضع كلمات، فناداني وهمس في أذني بوجوب الفرار من المدرسة.

بعد فترة قصيرة من التخفي تم توقيفي لأنضم إلى قرابة الأربعين من رفاقي (معظمهم من طلاب الثانويات) في قبو تحت مقر المباحث في حي العزيزية حيث تعرضنا لتعذيب شديد.

كانت الأمور ما تزال تتيح المجال للمراجعات، فقامت نقابة المحامين بحملة من أجل الإفراج عنا، توجت بنقلنا إلى المحكمة، حيث جرى الحكم على معظمنا بالبراءة، بينما حكم عليّ مع بعض الرفاق الآخرين بالسجن لمدة شهر. ولما كنا قد أمضينا أكثر من ذلك في التوقيف، تم الإفراج عنا جميعا.

لم يرق الأمر للمباحث، فقاموا بعد يومين بحملة لإعادة اعتقالنا جميعا، وقد حالفني الحظ أنني كنت أنام تلك الليلة في بيت عمي، ما أتاح للوالد أن يمر علينا في الصباح ليخبرني بما جرى ويطلب مني التخفي حتى المساء لمعرفة التطورات.. وبالفعل حضر مساء وأبلغني أنهم ساقوا جميع الموقوفين إلى دمشق. وطلب أن أنتظر مروره عليّ بعد ساعة لتهريبي إلى لبنان.

أوصلني بسيارته إلى الحدود، حيث ترك السيارة في محطة البنزين واجتاز النهر معي إلى الأراضي اللبنانية، ثم أعطاني بعض المال وبعض التوجيهات، وكان آخرها كلمات ما تزال في مسامعي حتى الآن: "يا ابني كن رجال.. هالحياة بدها رجال".. ثم ودعني وعاد إلى حلب.

بعد شهر أو أكثر قليلا جاء الوالد إلى بيروت، وأخبرني بأن الرفاق قد أفرج عنهم، وطلب مني العودة للمشاركة في امتحان الثانوية الذي كان قريبا جدا، فعدت متسللاً عبر الحدود حيث أقمت في بيت عمي أراجع الدروس لعدة أيام قبل أن أذهب إلى الامتحان في ثانوية المأمون (التجهيز الأولى).. وعندما ظهرت النتائج كنت بين الناجحين..

ذهبت إلى المعهد العربي الإسلامي للحصول على كشف العلامات، فاستقبلني الأستاذ عطبة بترحاب شديد وهنأني على نجاحي وقال لي: "إن نجاحك بالنسبة لي يعوض عن رسوب أكثر من خمسين من طلاب صفكم هذا العام".

ما بين الاختفاء ثم الظهور المتدرج دون أي احتكاك مع الأجهزة الرسمية ودون أي نشاط حزبي، أمضيت فترة عطالة شبه كاملة أشغلها بالمطالعة.. وفي تلك الفترة كان تعرفي على الشاعر الكبير سليمان العيسى الذي كان قد بدأ يتعرض لمضايقات من الأجهزة بعد استقالة وزراء البعث من الحكومة.. وقد توطدت هذه العلاقة كثيرا.. وتحولت إلى صداقة عاشت معنا حتى آخر العمر.

 

الاعتقال... و الصداقة مع الشاعر سليمان العيسى و السياسي عبد الفتاح الزلط

انتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة دمشق (59-60) وانتقلت إلى العاصمة، حيث تدبر لي أحد الأقرباء (وكان مهندسا في الآثار العامة) أن أعمل كمشرف بالمياومة على ورشة للترميم في قصر العظم والمدرسة الجقمقية المجاورة لضريح صلاح الدين الأيوبي. وبعد أشهر من العمل الذي مارست فيه الرسم الهندسي، بسبب تغيب المهندس المكلف بذلك العمل، عُرض عليّ تقديم طلب للتثبيت في الوظيفة ما استدعى العودة إلى حلب.. وعندما حاول صديق لي (...... معتوق. أعتذر لنسيان اسمه الأول) كان يعمل مديرا لمكتب المحافظ الحصول على شهادة حسن سلوك، اكتشف أنني ما أزال مطلوباً للمباحث. ونصحني حتى بعدم العودة إلى العمل لأنهم عرفوا أين أعمل وسوف يعتقلونني من هناك.

وكان عليّ ترك دمشق والعمل والجامعة والعودة إلى البطالة وشبه التخفي من جديد. حتى قررت المغادرة إلى لبنان للدراسة، فاعتقلت على الحدود، لأدخل في تجربة سجن جديدة، تنقلت فيها بين عدة مدن (تلكلخ وحمص ودمشق واللاذقية) بما فيها من نظارات وسجون ومراكز تحقيق وصنوف مختلفة من التعذيب. وقد أفرج عني نهاية عام 1960 في اللاذقية.

 عدت إلى حلب حيث اتسعت علاقة الصداقة مع الأستاذ سليمان العيسى، لتشمل مجموعة كبيرة من الطلاب البعثيين الاشتراكيين الذين كانوا يسيطرون على اتحاد طلاب جامعة حلب، وقد ساهمت معهم في التحضير لمهرجان دار المعلمات بتاريخ 22 نيسان 1961 بمناسبة عيد الجلاء وذكرى اغتيال المالكي وقد تحول إلى مهرجان ضد النظام بشكل سافر..

 وكذلك تعرفت على الأستاذ عبد الفتاح الزلط الذي شجعني على الحوار السياسي والثقافي، وخصني بالكثير من وقته في هذا المجال.. (كان التوجه اليساري والفكر الماركسي قد بدأ يتسرب إلى صفوف الاشتراكيين، بدور أساس للدكتور عبد الرحمن منيف وبعض المقربين منه، ما دفع الكثيرين للانكباب على قراءات في هذا الحقل).. كما حل الأستاذ الزلط ضيفا علينا في المشتى لعدة أيام أجرى فيها حوارات عديدة مع شبابها من ذوي الخلفيات الحزبية المختلفة، وأعجب كثيرا بما شهده هناك من مستوى ثقافي.. وكان الأستاذ سليمان قد سبقه إلى المشتى وبات يمضي فيها عطلة الصيف لعدة سنوات متتالية، وكذلك قام بزيارتنا هناك الدكتور وهيب الغانم وعائلته.

في مطلع أيلول 1961 تيسر لي السفر إلى لبنان مجددا، حيث عملت مدرسا في ثانوية ابن سينا وانتسبت إلى كلية الآداب في الجامعة اللبنانية.. وكنت قد ازددت انخراطا في مجال التعاون مع الأصدقاء البعثيين والاشتراكيين منهم بشكل خاص.. وكانت القيادة القطرية في لبنان قد اتخذت موقفا منحازا للتيار الموالي لأكرم الحوراني..

 يتبع