كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أغنية للبغلة

إحسان عبيد:

ربما كنت في العاشرة من عمري، وجميع أهل القرية مشغولون بالبيادر (دراسة القش وشوعبة ورمي طراحي وذراوي وتتبين..) وكنت أدرس محصولنا على حصاننا الذي حولناه إلى كديش مخصي كي لا يعابث الأفراس بالصهيل والاستعراض والتحرش.

.
ذات يوم كان عندي عطلة من دراسة البيدر(هرس القش) لأن المرحوم والدي ركب الحصان وذهب إلى إحدى القرى المجاورة ليقوم بواجب العزاء، وكنت أعلم أن زميلي وصديقي وابن جيراننا مريض ولا يستطيع دراسة بيدرهم، فقام أبوه الذي أقول له خالي بالعمل نيابة عن ابنه.
.
وما أن رآني الخال فترة قبل الظهر بقليل، حتى ناداني: ولاه.. تعال.. جئت.. قال: أدرس على البغلة حتى أردد الطرحة.. فامتثلت.. وبعد فترة قصيرة قلت له: ألا توجد مقرعة؟ فالبغلة تمشي على مهلها ولا تسرع! قال: المقرعة موجودة لكن لو ضربتها فسوف تندفك لبطة تجيب خبرك.. مابدنا نبتلي فيك.. أنا أنغزها بالشاعوب.. لكن غنِ لها بيمشي الحال.. كل الدواريس يغنون.. قال ذلك وهو يتبسم وأنا صدقت كلامه.
.
بدأت الغناء قائلاً ما حفظته من الدواريس:
.
- قبع الشيخ براس التل.. ضربته حصوة راح يرن.. راح يرن الخلخالي سبع بناتك ياخالي (قال: سبع بناتي ولاه.. لم أرد وتابعت)
- أول واحده منهن: تشلح تنك تلبس تنك بنت الملك ياخالي.
- ثاني واحده منهن: تشلح مملوك تلبس مملوك بنت الملوك ياخالي.
- ثالث واحده منهن معها حارس وألله حارس بنت الفارس ياخالي.
- رابع وحدة منهن: تلبس قز وتشلح قز وتمشي هز كريج الوز غزيل فز من قبالي.. (كان يبستم)
- خامس واحده منهن: تعبي جرّة تفرّغ جرّة البنت الحرة ياخالي.
- سادس واحده منهن: تطلع درج تنزل درج من الله الفرج ياخالي.
وصلنا إلى البنت الأخيرة فغنيتها كما حفظتها.
- سابع واحده منهن: تلبس فوطة تشلح فوطة هالشـ .... يا خالي.
.
ما أن سمع غنائي للبنت السابعة حتى صرخ علي وهجم حاملاً الشاعوب وقال: بنتي شرطوطة ولاه.. فهربت، لكن بغلته الشموس الجفول خافت هي الأخرى من الشاعوب الذي في يده فهربت تاركة الطرحة ووراءها لوح الدراس يطرطر ويطقطق على الحجارة فتزداد خوفاً، وتوجهت إلى ترعة البيدرالتي لاتتسع لخروج النورج منها، فانكسرت الجارورة وتهدمت حجارة الترعة وتابعت هروبها إلى جهة وأنا هربت إلى جهة أخرى.
.
فيما بعد عرفت أن بعض البيادرية حاشوا البغلة، وأن خالي استعار نورجاً (لوحاً) في اليوم التالي وبقي يستعمله حتى أصلح لوحه.
.
أنا بدوري لم أخبر أمي بما حصل، ولم أخبر أبي عندما عاد من مشواره عصراً.. لكن قبل الغياب جاء (خالي) إلى بيتنا – ربما ليستفسر عن مشوار والدي - وكنت بأرض الدار.. قال بعالي صوته: ولاه.. مليح اللي عملتو معي اليوم؟ لم أرد.. استقبله والدي ووالدتي مرحبين فدخل وحكى لهما القصة بغيابي.. نادني والدي فخفت ولم آت.. هو لم يلح، لكنه توعدني..
.
بعد انتهاء زيارة الخال بقليل استوت طبخة المجدرة للعشاء.. نادتني الوالدة قائلة: لقد توسطت لك مع أبيك كي يسامحك هذه المرة لكن ماعاد تعيدها.. دخلت متوجساً.. أنبني والدي تأنيبا غير عنيف، وعندما قالت لي والدتي: أنت انطربت لما جيت تدرس عنده؟ ليش تغني؟ قلت: هو قال لي: غنِ للبغلة.. وقتها لاحظت ابتسامات مخفية بين والدي ووالدتي.
.
في الأيام التالية صرت عندما أردد هذه الأغنية أصل بالغناء حتى البنت السادسة، وأترك الغناء للبنت السابعة حتى غنيتها لكم الآن.