كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحقّ الفلسطيني بين الغرْب الشعبي والغرْب الرسمي

هادي دانيال- فينكس

إبّان الحرب الإباديّة التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة بجهاته كافّة يقتلُ أكبر عدد ممكن من الأطفال والنساء خاصة (المستقبل ومُنجباته) ويدمر البيوت والمدارس والمستشفيات والأسواق وأماكن العبادة فضلا عن المؤسسات التي تدير شؤون سكان القطاع، لأنّ هدفه الحقيقي جعْل قطاع غزّة غير قابل للسكن ومزاولة الحياة اليومية وبالتالي يضع أهل غزة أمام خيارين: إمّا الموت بالرصاص أو الأوبئة والأمراض أو جوعاً وعطشاً وبردا، وإمّا الرحيل إلى خارج حدود فلسطين المحتلة. وبالتالي فإنّ حديث القيادة الإسرائيلية عن هدفين مزعومين، أولهما استعادة الإسرائيليين "المختطفين" من المستوطنين ـ والأسرى من العسكريين. وثانيهما اجتثاث "حركة حماس"، هو حديث عن ذريعتين لمواصلة قتْل أطفال ونساء غزّة وتهجيرهم، ليس فقط كردّ انتقامي وحشي على عملية "طوفان الأقصى"، بل في الأساس هو اغتنام فرصة لإفراغ غزة من الكثافة السكانية بغية السطو على غاز القطاع ونفطه المكتشف حديثا ولأهمية شمال غزة في إنجاز قناة بن غوريون. وهذا الهدف الأخير ليس فقط ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية بل هو أيضا بصُلب الاستراتيجية الغربية في المنطقة (الباحثة الآن عن بدائل للغاز الروسي)، والتي أنشئ الكيان الصهيوني لخدمة مصالحها، ألم يصرّح "جو بايدن" رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (ربّة الغرْب وعملائه العرب والمسلمين في منطقتنا منذ أسابيع بأنه لو لم توجد إسرائيل لكان على الغرْب أن يوجدها. ولذلك لا تكتفي الحكومات الغرْبية بدعم الحرب الإباديّة الإسرائيلية ماليا ولوجستيا وسياسيا وإعلاميا وتبريرها تحت شعار "الدفاع عن النفس" المزعوم، وهو "حق" لا يجوز وفق الشرعية والقانون الدوليين تمتيع جيوش الاحتلال به كما هو حال جيش الاحتلال الإسرائيلي، لأنّ "حق الدفاع عن النفس" هو حصرا حق للشعوب التي يُعتدى عليها وتداس حقوقها وتُحْتَلّ أراضيها كما هو حال الشعب الفلسطيني منذ خمسة وسبعين عاما. إذن لا تكتفي الحكومات الغربية بالافتراء على القانون الدولي ومحاولة تزويره لصالح تل أبيب بل إنّ لندن وواشنطن تشاركانها مشاركة عسكرية مباشرة في الحرب على غزّة برّاً وجوّاً وبحراً، وتعترفان بذلك.

هذا يحدث على الرغم من أنّ الشارع وجميع الفضاءات والمنابر التي تعبر عن الرأي العام الأوربي أعلنت بقوة ووضوح وبلاغة ميدانية وخطابية وقوفها إلى جانب نضال الفلسطينيين الذين يتعرضون للإبادة بجرائم حرب ضد الإنسانية وتُرتَكَب في حقّهم المجازر اليومية الانتقامية المهينة للبشرية بأسرها منذ اليوم الثامن من اكتوبر /تشرين الأول حتى يومنا هذا والتي ذهب ضحيّتها أكثر من عشرين ألف شهيد فلسطيني نصفهم من الأطفال.

إنّ موقف الرأي العام الغرْبي يُعبّر عن الوعي والحسّ الإنسانيين اللذين يميّزان المواطن الغرْبي كما أنّ موقف أغلبية معتنقي الديانة اليهودية في الغرْب بعامة وفي الولايات المتحدة بخاصة المعادي للصهيونية وجرائمها الحالية في قطاع غزة والضفة الغربية  يعبّر أيضا عن أن الوعي و الالتزام الدينيين عند هؤلاء ينأيان بهم عن محاولات التوظيف السياسي للدين، الأمر الذي أحرج السلطات الغربية غير القادرة على اتهام هؤلاء اليهود بمعاداة اليهود و بالتالي معاداة السامية، مما جعلَ تلك السلطات تصدر قوانين اعتباطية وحمقاء لم تكتف بعدّ معاداة الصهيونية ضربا من معاداة السامية بل ذهبت إلى الأبعد و الأوقح عندما عدّت  مساندة الحق الفلسطيني والنضال لاسترجاعه  معاداة للسامية أيضا. إنّ إنكار الرأي العام الغرْبي ودَوْسَه بأقدام التجاهل والإهمال تارة والتحدي تارة أخرى من قِبَلِ حكومات العواصم الغربية التي تمرّغ في وحل الحرب على أطفال ونساء وشيوخ غزة مزاعمها كافة وتشدّقها بأنها حامية حمى الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، يفسّره "نعوم تشومسكي" المفكر الأمريكي التقدمي (من أصل يهودي) بقوله: الفلسطينيون حصلوا من الجماهير الغربيّة على بيانات الدعم، لكن لا أحد بمقدوره ترجمة هذه البيانات إلى فعْل ملموس. لماذا؟ يجيب "تشومسكي": لأنّ "المصلحة الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية تعني مصالح الشركات الكبرى الغنية جدا، والتي وحدها تحدد سياسات الحكومة. تلك هي المصلحة الوطنية وليس مصالح المواطنين الأمريكيين الذين كثيرا ما يعارضون بشدّة سياسة الحكومة، ولكن يتمّ تجاهلهم ببساطة".  ويؤكد المفكر الأمريكي الأبرز أنه لا يعيش في "مجتمع يقرر فيه الجمهور سياسة الجمهورية، لأنّ الجمهور رغم أنه موجود يتمّ تجاهل وجوده".

وهذه الهوة بين الشارع والسلطة في الولايات المتحدة قد تكون أضيق في بلدان أوربية كإسبانيا وإيرلندا اللتين انسجم فيهما موقف السلطة السياسية مع موقف الشارع، ولكن في بعض الدول كبريطانيا على الرغم من أنّ التضارب أفضى  إلى إقالة وزيرة الداخلية إلا أنّ الاضطراب مستمر في مدى تأثير الرأي العام الغرْبي الداعم للحق الفلسطيني كمظلمة إنسانية على القرارات الغربية الرسمية التي تتخذها منذ عقود الحكومات الأوربية التي ربطت مصالحها وبالتالي سياساتها بالمصالح الأمريكية وسياساتها وخاصة كلما تعلق الأمر بالمنطقة العربية وما يسمى "أمن إسرائيل". ويشجّع هذه التبعية الأوربية الرسمية تبعية معظم الأنظمة العربية للولايات المتحدة، وخاصة كيانات الخليج العربي، التي تعدّها واشنطن وتعدّ نفسها محميات أمريكية تحكم شعوبها وترسم سياساتها بما يتناغم مع المصالح الأمريكية أولا، ولذلك فهي معفاة سلفاً حتى من التظاهر بأخذ الديمقراطية وحقوق الإنسان في الحسبان، لدرجة أنّه صباح اليوم الذي كان جيش الاحتلال يَستأنِف فيه كرنفال قتْل الأطفال في غزة، بعد هدنة كان وراءها حسابات القيادة الإسرائيلية من جهة وقيادة حركة "حماس" من جهة ثانية، في هذا الوقت الدامي كان رئيسا كيانين خليجيين يصافحان على أرضٍ "دُبَيّ" رئيس الكيان الصهيوني "إسحق هرتسوغ" في مؤتمر يتعلق بالمناخ لكنّ جوهره كان "تنقية مناخ التطبيع مع الكيان الصهيوني" على الرغم من الدخان والغبار واللهب ورائحة الجريمة والدم الذي يقطر من مخالب "هرتسوغ" ونيوبه . هذا الفجور الخليجي لا بدّ أن يشجّع وزارة الخارجية الأمريكية على تصريحات حضيضيّة على غرار :"حماس تعمّدت بدون شك قتل المدنيين، لكن ليس هناك أيّ أدلّة على تعمّد إسرائيل قتل المدنيين، ولا نعتبر ما تقوم به إسرائيل إبادة جماعية"، وفي هذا المناخ كان بعض الحكومات الغربية يدعو جيش الاحتلال الإسرائيلي ليس إلى وقف القتْل بل إلى أن يكون أقلّ وحشية !.   فهذه التصريحات التي تستهتر بالعقل البشري عبر المعمورة، هذا العقل الجمعي الذي يراقب تفاصيل ما يجري، ترينا كيف أن الغرب يتخلى دفعة واحدة عن المنظومة القيمية التي  يدّعيها عندما تقتضي مصالحه ذلك كما هو الحال في أوكرانيا مثلا، فهنالك تعلو من أبواق الغرب معزوفات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، كما كانت تعلو في حروب "الربيع العربي" على الدول الوطنية، حيث كان الإسلام السياسي بتنظيماته السياسية  كالإخوان المسلمين وحزب التحرير، والعسكرية كالقاعدة وداعش وتفريعاتهما، وبأنظمته في أنقرة والدوحة، يغذي النعرات الطائفية التكفيرية عند العامة ويرتكب المجازر هنا وهناك باسم الجهاد ضد الأنظمة والشعوب التي يجري تكفيرها، متجاهلا الاحتلال الصهيوني الذي ترزح القدس والمسجد الأقصى (أولى القبلتين وثالث الحرمين؟) تحت وطأته منذ أكثر من نصف قرن، بل وتجرّ أنقرة والدوحة "الإخوانيتان"  مقاتلي "حركة حماس" من غزة ومقاتلي "رائد صلاح" من أمّ الفحم للقتال ضد الجيش العربي السوري على الأراضي السورية، بينما عندما وجدت "حركة حماس" الإخوانية نفسها في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني لم يطرد "أردوغان" سفير الكيان الصهيوني من بلاده كما فعلت حكومات غير إسلامية في كولومبيا وتشيلي وبوليفيا وجنوب أفريقيا، ومارست الدوحة دورها الوظيفي بالتفاصيل التي تمليها عليها واشنطن كوسيط  يزعم أنه محايد، فكما كان الأبناء الروحيون ليوسف القرضاوي  وسطاء بين الجيش الأمريكي وحركة "طالبان" صاروا وسطاء بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحركة "حماس" الإخوانية!، ولم يَعْلُ الصوتُ التركي قليلا إلا عندما توعدت تل أبيب باغتيال قادة "حماس" في تركيا وقطر. فالخلاف هنا ليس على قتل قادة "حماس" بل على مكان قتلهما. إزاء هذا الانحطاط الأخلاقي الذي يشمل العلاقات بين التنظيمات والأنظمة الإخوانية هل يمكن الحديث عن رأي عام إسلامي فاعل يحتضن "حركة حماس"، ويمكن أن تأخذه تل أبيب وواشنطن في الحسبان وهي تبيد الفلسطينيين في غزة بدعوى أنها ماضية إلى "تحرير الأسرى والمخطوفين" و"اجتثاث حماس"؟

على إيقاع المجازر الوحشية في غزة والضفة الغربية يجري الحديث متقطعا عن ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية، وترديد معزوفة "حلّ الدولتين" أمريكيا، و"دولة فلسطينية منزوعة السلاح" سيسيّاً (نسبة إلى عبد الفتاح السيسي)، ولكنّ الذي يشغل الإسرائيليين والأمريكان في جوهر الأمر هو: بعد كل هذا القتْل والتدمير الوحشيين النازيين كيف يمكن استثمار الغاز والنفط وفرض قناة بن غوريون على غزة. وعلى الرغم من أنّ حرب الإبادة لم تتوقف بعد، وأيّا كانت معطيات الأمر الواقع، وبغضّ النظر عن محاولات البعض اللهاث عن مكاسب فصائلية بائسة لا تساوي نظرة طفل تائهة بعد أن فقد أبويه وربما جميع أفراد عائلته الأكبر، كي لا نتحدث عن الأقسى من ذلك وما أكثره، وإذا أخذنا تصريحات "يحيى السنوار" المحيّرة بأنّ أهدافه من "عملية طوفان الأقصى" تحققت بمجرد إطلاق أكثر من مائة وعشرين صاروخا على تل أبيب، وبالتالي فهو موجود في الشارع بانتظار أن يرسل الإسرائيليون طائرة لقتله. وتصريحات بعض قادة "حماس" بأنّ هدف العملية هو تحرير الأسرى الفلسطينيين، بينما يؤكد الأسرى الفلسطينيون ببيانٍ أصدروه مؤخرا على أنهم لا يقبلون دفع ثمن باهظ كالذي يدفعه أهلنا في غزة مقابل أن يغادروا السجون الإسرائيلية. وفي هذا الخضمّ وما يقابله من تخبّط على مستوى القيادة الإسرائيلية في كيفية التعامل مع التداعيات الداخلية السياسية والاجتماعية لعملية فيضان الأقصى والخارجية الأخلاقية المتعلقة بجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة والضفّة الغربية والقدس، يُفْتَرض بنا أن نشجع الشارع الغربي وخاصة الأوربي، على المزيد من الضغط على حكوماته للاستقلال عن الموقف الأمريكي والتحرر من أعبائه الأخلاقية والسياسية. وفي الوقت نفسه أن يبتعد الطرف الفلسطيني في السلطة والفصائل نهائيا عن جدوى المراهنة على الغرب كوسيط في إيجاد حلّ يستعيد به حقوقه التي أقرها له القانون والشرعية الدوليّان. والفيتو الأمريكي الأخير في مجلس الأمن الدولي ضد قرار من أجل فرض وقف إطلاق النار في غزة يجعل (نظريا ومنطقيا)  وجود سفارة أمريكية في أي عاصمة عربية أو إسلامية مساويا لوجود سفارة إسرائيلية، إذا كان العرب يعون مصالحهم الوطنية والقومية وإذا كان المسلمون معنيين حقا بالجوهر الإنساني  لدينهم بعيدا عن التوظيف السياسي، وعلى القوى الحية في المنطقة (إن كان ثمة قوى حية) أن تتصرف على هذا الأساس، وأن تعرف كيف تفرض على "الشركات الغربية الغنية جدا" التي أشار إليها "تشومسكي" مؤكدا أنها هي التي ترسم سياسات واشنطن الداخلية والخارجية، كيف تفرض على هذا الشركات التفكير بأنّ مصالحها تتضرر عندما تتجاهل الحق الفلسطيني خاصة ومصالح المواطن العربي وحقه في ثرواته الوطنية الطبيعية والبشرية.

إنّ الفلسطينيين والعرب من خارج المحميّات الأمريكية بإمكانهم أن "يستثمروا" إيجابيا تضحيات أهلنا في غزّة، بأن لا يكون الحد الأدنى مقابل هذه التضحيات أقلّ من أن تقوم حالاً دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة سنة 1967وعاصمتها القدس، برعاية دولية من دول ترفض الهيمنة الأمريكية على السياسة الدولية وتساند الحق الفلسطيني مساعدة ناجعة ولديها القدرة على  ضمان استقرار السلام في المنطقة، أعني دولا على غرار الصين وروسيا وجنوب أفريقيا وربما إيرلندا وغيرها، وأن يتمّ العمل الجاد على تقديم القيادات الإسرائيلية والغربية، السياسية والعسكرية، في حرب الإبادة على غزّة، إلى المحكمة الجنائية الدولية.

إن بقاء الكيان الصهيوني مستهترا بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني الشرعية والمشروعة، ومتنمّرا على محيطه العربي والإسلامي، يفرض على دول جنوب المتوسط خاصة أن تستخدم جميع الأسلحة المتاحة بغية عزله وإضعافه وإجباره على الإذعان للقانون والشرعية الدوليين خاصة فيما يتعلق بضرورة انسحابه الفوري بدون قيد أو شرط من الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية المحتلة سنة 1967، بعد تفكيك فوري لجميع المستوطنات في تلك الأراضي، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس، ويكون ذلك بالحرص على أن منظمة التحرير الفلسطينية بمؤسساتها الشرعية المختلفة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة والشتات، وعلى جميع الفصائل والقوى الفلسطينية الانضواء في إطارها، وإلا فإنّ جرائم تل أبيب في غزّة بدعم من واشنطن وحليفاتها وأدواتها، ستعمّ لتشملَ ليس الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وأراضي ال48فقط، بل شعوب المنطقة بأسْرها ممّا يجعل كلَّ حديث عن السلام الدولي مُجرّد زفير عجْز بشري لا يطفئ نيران الحروب بل يزيدها اشتعالاً.