كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن رياض الترك.. من أروقة الذاكرة

أُبي حسن- فينكس

زرته ذات يوم من عام 2005 في منزله بحمص، كي أطلب منه إجراء حوار صحفي لصحيفة المستقبل اللبنانية، استقبلني بلطف ومودة، واتفقنا على الحوار.. كان شرطه أن لايُنشر الحوار قبل أن يطلع عليه قبيل إرساله للنشر وامضائه على النسخة التي ستكون معتمدة واحتفاظه بنسخة منها، وطبعاً وافقتُ. في ذلك اللقاء أهديته نسخة من كتابي الثاني "حوارات في النهضة والتراث والواقع"، لاسيما أننا نتطرق إليه تحديداً في حواري مع القيادي الشيوعي الراحل دانيال نعمة الذي انتقده في أكثر من موضع إبّان سؤالي عنه وعن أسباب الانشقاقات ضمن الحزب الشيوعي السوري، متهماً إياه بتسخير يافطته الشيوعية لخدمة الرجعية الظلامية ممثلة بالأخوان المسلمين.

سنلتقي، لاحقاً، في منزله الكائن بمنطقة التل (قرب معهد العلوم السياسية) بريف دمشق، وهناك ستدور آلة التسجيل على مدار ساعات حيث يتم الحوار، الذي ستعقبه أكثر من جلسة، أذكر إحداها في مقهى السياحة في شارع 29 أيار وسط دمشق، وهناك سيمضي على نسختي الحوار، يحتفظ هو بنسخة، فيما الأخرى لي كي أرسلها للنشر.

كنتُ أسمع باسمه منذ مطلع عام 2000، ولقربي من المعارضة (أو المعارضات السورية) هاتيك الفترة، كان من الطبيعي أن أكون معجباً به، وكنتُ أسرّ عندما أصادفه في شوارع العاصمة أو أراه في إحدى المنتديات التي نمت كالفطر مطلع القرن الحالي في دمشق..

وأذكر كيف كنت، كالعشرات غيري، نقف أمام محكمة أمن الدولة (السابقة) إبّان جلسات محاكمته في عامي 2001 و2002 على خلفية مداخلة غير موفقة[1] له عبر فضائية أم الفتن "الجزيرة"، وكيف كان يلوح للمتجمهرين بيديه من السيارة التي تقله من السجن إلى المحكمة وبالعكس..

وعلى سيرة المحاكمة المقصودة، التقيت وميشيل كيلو -بناء على موعد- في دار المدى، الكائنة في إحدى تفرعات شارع 29 أيار، كي نذهب سوية إلى أمام المحكمة المذكورة لحضور محاكمة أ. الترك، وطبعاً الحضور يعني الوقوف أمام مبنى المحكمة، فلم يكم مسموحاً الدخول إلى قاعة المحاكمة.. في دار المدى، وقبل أن نخرج منها سألتُ الشاعر نزيه أبو عفش (كان يواظب على الدوام فيها) إن كان سيذهب إلى حيث ميشيل كيلو وأنا ذاهبان، لا أتذكّر بالضبط بماذا أجابني، لكن كان مضمون جوابه إن لديه مشاغل.. ونحن نخرج، قال لي كيلو وبصوت خافت نوعاً ما: "كان يكفي أن تقول أنك ذاهب للمكان الفلاني دون زيادة، كي لا تحرج أحداً، فقد يكون للناس ظروفها التي نجهلها". كلام كيلو منطقي، وكنتُ بحاجة لهكذا نصيحة في وقت كنتُ مشبعاً فيه ببراءة تصافح تخوم السذاجة..

لاحقاً، سيتصل بي الشاعر أبو عفش، ويدعوني إلى منزله، حيث كنتُ (قبل أكثر من عام) طلبتُ منه حواراً صحفياً اعتذر عنه في حينه، وخلال جلوسنا في منزله بمشروع دمر كان لديه مستجدات يرغب في طرحها عبر الصحافة، كتبتُ مادة حولها عبر صفحات "القدس العربي". وخلال جلستنا تلك، ذكّرني أبو عفش (معاتباً) بما قاله لي ميشيل كيلو ونحن نخرج من دار المدى وكان مضى على الحادثة أكثر من عام، فاستغربت كيف تناهى إلى سمعه كلام كيلو علماً أن صوته كان يلامس الخفوت! وبيّنت له أنّه فهم ملاحظته لي خطأ، فهو لم ينل أو يقصد النيل منه أو من غيره بأي شكل.. أسرد هذه المرويات للأمانة فقط، علماً أني أعتبر نفسي، ومنذ عام 2009، في الصف النقيض لكل من الترك وكيلو.

ولشدة إعجابي برياض هاتيك الفترة، اتصلت من الهاتف العمومي (الحصالة) قرب مركز هاتف النصر ومن نفقتي الخاصة، رغم فقر حالي، بالمفكر المصري الراحل محمود أمين العالم، الذي جمعتني به علاقة ودّ، وهو في خريف العمر فيما أنا في ربيعه، طالباً منه أن ينشطوا في مصر من خلال إصدار بيانات لأجل إطلاق سراح الترك الذي كان موقوفاً، وقد وعدني خيراً، ولا أدري إن كان قد فعل أم لا، وكان مبرر طلبي منه أنه سبق وتمنى في حوار لي معه نشر في صحيفة النور السورية، رؤية رياض الترك خلال زيارته إلى دمشق ذاكراً عنه كلاماً وجدانياً (كان ذلك في آذار 2002، وكان العالم أحد ضيوف أسبوع دار المدى الثقافي). وماذكرته لم يسبق لي أن بحت به لأحد قط.

تلك المداخلة غير الموفقة لرياض، سيقول لي عنها الدكتور الطيب تيزيني أنه قال له أي للترك: "إنها غير لائقة منك يا أبو هشام[2]"، فيجيبه الترك (والكلام لتيزيني): "لكنها سبعة عشر عاماً يادكتور" يقصد المدة التي قضاها في زنزانة منفردة، فيقول له تيزيني: "حتى لو كانت ربع قرن.. أنت تعمل في السياسة، ورجل السياسة لايقع في هذه الأخطاء"، وكان للشاعر ممدوح عدوان رأي مشابه لرأي تيزيني في خصوص مداخلة الترك، إذ قال لي عندما سألته عن رأيه: "هذه عبارة يقولها شاعر أهوج لا رجل يعمل في السياسة".

بالعودة إلى رياض الترك، الذي غادرنا مطلع هذا العام، أذكر أن آخر لقاء جمعني به كان في منزل الصديق (السابق) حكم البابا، الذي كان يستضيف الترك والرسّام علي فرزت وخليل معتوق (رحمه الله حياً وميتاً) وكاتب هذه السطور، وكان ذلك (وفق إسعافات الذاكرة) شتاء 2008، وخلال سهرتنا أتى لخليل معتوق هاتف عبر الجوال، بعد انتهاء المكالمة القصيرة، يفيدنا معتوق أن المتصل هو المسؤول الفلاني (كان رئيس أحد الأفرع الأمنية، وهو الآن مسؤول في موقع حساس وبارز) يرغب برؤيته، فاعتذر عن مواصلة السهر معنا وغادر، وبعيد ذهابه، انبرى حكم البابا للحديث عن المسلمين العلويين بالطريقة المنفرة والبغيضة والكريهة التي باتت ماركة مسجلة باسمه، ما لفت انتباهي أن كلاً من رياض الترك وعلي فرزت لم يردّا عليه ولم يعترضا حتى على كلامه الطائفي ولو من زاوية عدم جواز خلط الموقف السياسي بطوائف الناس، فضلاً عن الطريقة المشبعة حقداً وبغضاً التي يتحدث فيها حكم عن المسلمين العلويين! ما دفعني للردّ عليه ونحن نهمّ بالخروج من منزله (لا أعرف ان كان علي فرزت، وهو الشاهد الوحيد المتبقي يذكر هذه الحادثة أم لا[3]).

وفق معرفتي المتواضعة بالترك، أجزم أنه لم يكن طائفياً بالمعنى المذهبي الضيق، وهذا طبيعي، كونه يساري عتيق، لكن لا أستطيع أن أنفي عنه لوثة التعصب الطائفي مع ملاحظة أن المتعصّب قد لا يكون بالضرورة متديناً أو متزمتاً دينياً، نلحظ هذه اللوثة واضحة في موقفه من صراع السلطة مع مجرمي الاخوان المسلمين ثمانينات القرن الماضي وتصريحه الشهير الذي يحمل مدلولات طائفية (حرب المدينة على الريف) كأن الريف (وهو يقصد هنا أبناء الطائفة الإسلامية العلوية) تهمة أو عار، ولم ينجب سوى السذج فيما المدينة لم تنجب سوى الفلاسفة والعباقرة! ولاحظت هذه اللوثة من خلال علاقته بالنظام العراقي (صدام حسين) وقبوله المساعدات منه نكاية بالنظام السوري في عهد الرئيس الأسد الأب، ورياض ذاته قال لي خلال إحدى جلساتنا كلاماً قاسياً جداً عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونظامه يفوق بأضعاف مضاعفة ما قاله عن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (معذرة لعدم تمكني، ولأسباب موضوعية، من تدوين ماقاله) ومع ذلك لم يجد غضاضة في التعامل مع نظام صدام، لا بل شكره في المؤتمر الشهير لحزبه عام 2005[4]! وقد استشهدت بهذه الحادثة وبطريقة ملطفة قدر الإمكان في أحد كتبي قبل أكثر من عشر سنوات.

ذات مرة، وحول لوثة التعصب لدى رياض، قال لي: "أسمع تذمر الناس من كثرة الموظفين العلويين في دوائر الدولة، فأجيبهم هم مواطنون وحقهم التوظيف لكن لاينبغي أن يكون حكراً عليهم"، وعندما سألته مدهوشاً إن كان يعني ما يقول؟ أجابني: اذهب إلى وزارة الكهرباء (وأظن أن مبناها كان مايزال قرب جسر فكتوريا) وانظر لعدد الموظفات العلويات! طبعاً كان يقصد (مع الأسف) أن كل موظفة غير محجبة هي علوية! وسيذكر لي عدد عناصر الشرطة الذين أتاح لهم وزير الداخلية الأسبق اللواء غازي كنعان فرصة التطوع في السلك، وزعم الترك أنهم كلهم من الساحل، متغافلاً (وإن صح زعمه) إن عناصر الشرطة وطوال عقود أغلبهم من محافظتي إدلب ودرعا، دون أن يثير هذا الأمر حفيظة أو حساسية أحد في سوريا، لكن مجرد أن أتيحت نافذة سلك الشرطة ولمرة واحدة في تاريخها الحديث لأبناء الساحل السوري كانت كارثة بالنسبة لرياض وأمثاله!

حارب رياض الديكتاتورية بذريعة عشقه للحرية والديمقراطية، والمفارقة أنه هو لم يكن ديمقراطياً في ممارساته السياسية، حتى ضمن حزبه كان متسلطاً وأبعد ما يكون عن الديمقراطية، ويكفي أن يذكر المتابع كيفية استبعاده للراحل عبد الله هوشي عن منصب الأمانة الأولى لحزبهم بعد أن خلفه فيها في مؤتمر عام 2005، وهي طريقة تجعلنا نترحّم على العقلية البكداشية. ترى هل تحتفظ أدبيات حزب رياض الترك بالمقال المؤثر الذي كتبه المرحوم هوشي عقب تنحيه عن ذلك المنصب؟

عقب سماعي بوفاة رياض الترك، استعنت بغوغل لقراءة بعض ما كتب عنه، وما لفت انتباهي وجود تصريح منسوب إليه، ولا أدري مدى صحته، حول الأحداث في سوريا بعد عام 2011، إذ يقول فيه "الأولوية هي الآن لخروج جميع القوى الأجنبية من سوريا" ويفضّلها على أية أولوية أخرى.. يا إلهي يا أبا هشام ويا ابن العم.. كم وصلت متأخراً حتى قلت ما لن يعجب غلمان الناتو وبقية رفاقك في المعارضات التي ضاعت بعد أن عاثت خراباً في سوريا، والأهم أنّك أنت، وأمثالك، من أكثر المعارضين الذين عبّدوا الطريق للوصول إلى ما بت تطلب الخلاص منه! رحم الله الطيب تيزيني وممدوح عدوان ودانيال نعمة.. ورحمك الله.

[1] المداخلة غير الموفقة قال فيها عبارة: "الآن مات الديكتاتور"، وأشاد فيها بما أسماه الإصلاحات السياسية في البحرين!

[2] "أبو هشام": إحدى ألقاب رياض الترك، وكذلك من ألقابه ابن العم

[3] ثمة احتمال وارد جداً، ولتباين وتعارض الموقف السياسي بين الرسام علي فرزت وبين كاتب هذه السطور، أن ينفي جملة وتفصيلاً الحادثة التي ذكرته فيها

[4] المؤتمر عُقد في الدويلعة بدمشق عام 2005، في المكتب القديم للمحامي خليل معتوق، وكان نصف سري نصف علني، وفي المؤتمر وُجهت تحية وشكر للنظام البعثي العراقي السابق، علما أنه كان قد زال منذ عام 2003 كما هو معروف.