كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

المسرحيّ الدكتور سامر عمران: شغفي بالمسرح هو مَنْجاتي.. والحبّ سر بقائي حيّاً أتنفّس!

حوار جواد ديوب- خاص فينكس:

تُرضيه وتُدخل الفرحَ إلى قلبه محبّةُ طلابهِ، ورغم معرفته أنه ليس عليهم كلُّهم أن يحبّوه، لكنه يرى أنّ مِن واجبه كمدرِّس في المعهد العالي للفنون المسرحية (وعميدُه الأسبق) أن يُحبَّهم جميعاً، وأنْ يقاومَ مشاعرَ سلبية تجاه المُهمِل منهم أو الكسول واللامبالي!

مسرحياتُه جزءٌ من رؤيته "المتطرفة" للمسرح، فهو لا يرى أن المسرح حَدَثٌ "شعبويّ" ككلمةٍ مقابلة لكلمة "نخبوي"، إنما هو فضاءٌ ثقافي مخصص للذوّاقة وليس للنخبة! بمعنى إنه مكانٌ مخصّصٌ لأناس يشاركونك هموماً فنية وفكرية ويأتون إلى المسرح من أجل هذه الغاية، قد يكونون عمالاً عاديين أو أساتذة أو دكاترة أو موظفين أو طلاب.. وليس بالضرورة أبداً أن يكونوا "نخبةً" بالمصطلح التقليدي!يوم المسرح العالمي1

أحَبُّ العروضِ إلى وجدانِه هي "عشاء عيد ميلاد طويل" لذكراه العزيزة كأول عرض من إخراجه عام 1999 لصالح "فرقة المعهد العالي للمسرح" آنذاك، وهو العرض الذي نال عليه جائزة "القناع الذهبي" في "مهرجان الفجر المسرحي" في طهران مقابل 61 عرضاً دولياً منافساً، وهناك عرضٌ آخر يُحبّه فنّياً اسمُه "حسب تقديرك" لبرانديللو، وأيضاً "المهاجران" الذي توافقَ عليه النقادُ والناسُ بمختلف شرائحهم.

الدكتور سامر عمران يحدّث موقع "فينكس" بجرأته المعهودة:

سألتك عن حال المسرح السوري ووجود التجمعات المسرحية الخاصة فنطقت بصرخة يأس: "لا أمل".. جملةٌ ثقيلةٌ ومؤلمة لأي شخص يسمعها سواء لي أنا أو لطلّابك.. هل هي مبالغة شخص معجون بالمسرح أم.. ما السبب؟

- مرة في أحدى الجلسات مع الأصدقاء وكان بينهم مسؤولون رفيعو المستوى. كنا نتحدث عن آلام المواطن. قلت لهم إنني مستعدٌ ألّا أشعرَ بالسوء أو الغضب أو القهر لأنه ليس عندي كهرباء أو غاز أو أي وسيلة تدفئة مثلاً ومثلي الكثيرين من السوريين ممن هم قادرون على التحمل لكن بشرط؛ أن يكون هذا الحال على الجميع وليس على طبقات وطبقات، على ناس وناس. ورغم ذلك تحمّل السوريون نتيجة لظروف تاريخية وجغرافية، ولا نزال نتحمل، وسوف نبقى نتحمّل على ما يبدو. الإنسان بشكل عام لديه قدرة خرافية على التأقلم لكن حياتنا قصيرة، وحتى لو كنت متشائماً لكنني سأذكر هنا ما قاله "وودي آلن" المخرج العبقري في أحد حواراته حين سألوه لماذا تشتغل أفلاماً! أجاب: يُفترض ألّا أقول كي لا أكذب. لكنّ السينما هي تشويشٌ على فكرة الموت، هي نوعٌ من إبعاد الموت، لا تقولوا لي إنها مسألة خلود بل إنها مسالة تشويش على الموت بذاته لا أكثر.

إذاً لو ارتهنّا لهذا "اللاأمل" لتوقفنا عن أي فعل مهما كان بسيطاً غريزياً مثل الأكل والشرب... اللاأمل هو دافعٌ أيضاً، هو وسيلة حماية ذاتية، وفي الوقت ذاته هو دفاع عمّن هم أضعف منك وأكثر هشاشة... مثل طلابي!

كأنك تقول إن هناك تناسبٌ طرديٌّ بين الخراب العام والقدرة على التحمّل أو كلما زاد الخراب العام؛ كلما كان الأمل المنبثق من صرخة العدم/الـ"لا أمل" أقوى؟

- نعم. ربما... وإلا ما الذي يجعلني أسافر في الأسبوع ثلاثة مرات ذهاباً وإياباً رغم الخَلْع في كتفي بين اللاذقية ودمشق لكي أدرّس طلاب التمثيل في المعهد العالي للمسرح هنا في دمشق وفي جامعة المنارة هناك! مع عدم وجود المقابل المالي المناسب والذي بات معروفاً أو من بديهيات العمل في المسرح! السبب إذاً هو أنّ المسرح في جوهره استثمارٌ في وعي الناس، وفي آفاق المعرفة، وفي مستقبل أولادنا... والتاريخ أو الزمن هو من يحكم على أفعالنا ونتائجها.

وهل استطاعتْ المؤسسات المعنية أن تستثمر حقاً في الناس ووعي الناس في بلادنا؟

- على الإطلاق. بل كان هناك قولبة و"تعليب" لأفكار متداولة وجاهزة أو باتت منسيّة.

لكنْ ألا يحقّ لها أن تلعب دورها في نشر أيديولوجيّتها الخاصة؟

- لو كنتُ أنا في موقع قرار لن أفعل ذلك. نعم يحق لها الحفاظ على الهوية الوطنية. لكنّ تاريخنا الماضي والراهن أثبت فشل ما كانت تقوم به على الأقل في جانب مهم فيه. ألا ترى أننا نعاني أصلاً من هوية قَبليّة (مِنْ القبيلة) أكثر قوّة وسيطرة من الهوية الوطنية الجامعة؟ وهذا بعض مما أودى بنا إلى جزء من هذه الحرب اللعينة على سورية. انتَبِهْ إلى أمر مهم وحسّاس هو أنني ابنُ مؤسسة حزب البعث فوالدي كان من البعثيين القدماء. لكنْ لم يُعد النظر في الجوانب الفكرية والمعرفية والأولويات التي عليهم أن يعملوا عليها.

 ألا يوجد هناك لوم على المجتمع نفسه؟ ألا يتحمّل الناس جزءاً من مسؤولية نهضتهم الفكرية.. خذ مثلاً مصطلح "العلمانية" هناك نسبة مخيفة من السوريين تستبق حتى حرية التفكير فيه ويعدّونه إلحاداً أو كفراً أو غير مسموح الحديث فيه.. كيف إذاً برأيك على الدولة أن تتعامل مع مجتمع متذرّر كل قبيلة/كلُّ تجمّعٍ فيه يَشدُّ اللحاف نحوه؟

- الحق في البداية على فكرة "تنسيب" الناس بشكل مفروض ومحتّم وتشميلهم جميعاً تحت منظومة فكرية حزبية واحدة. تحت فكر واحد. تحت نظريات وشعارات واحدة وعلى الجميع الالتزام بها منذ الطفولة ومن ثم الشبيبة وصولاً إلى الراهن. اكتشفنا أننا كنا نفكر بشكل ذاتي وليس موضوعي لتمكين الأكفأ والأجدر. بل اكتشفنا أن موضوع الهوية "ضاع" و"فلت" من بين أيدينا لصالح جهات متعصبة دينية تمكنت من استقطاب شرائح كبيرة تحت مسميات كثيرة.

إنْ كان الحال كما تصفه. ما هو دور المسرحيين هنا؟ ما هو دور الفن عموماً ودور المعهد العالي للفنون المسرحية خصوصاً وإلى أي حد يمكن أن يَخترق الدفاعات المستميتة للتحزبات الدينية إذا افترضنا أننا في "كِباش" حقيقي معهم ومع أفكارهم ومشاريعهم؟

- نعم. نحن في صِدام حقيقي وعنيف معهم وبشكل يوميّ ولحظيّ. لا حلّ أمامنا إلا أن نكون أقوياء في مواجهتهم. مشروع "جامعة المنارة" مثلاً هو جزء من هذا الحل/القوة لأنه يؤسّس تقاليد فنية ترتقي بذوق الناس العام بدءاً من ذاك المجتمع أو تلك المدينة التي أقيمت فيها الجامعة حيث بدأ الناس فعلاً يتعاملون مع الفن بالمعايير التي نقدّمها لهم وليس فقط بمعايير ما تعودوا عليه أو على رؤيته في التلفزيون. الفنانون المسرحيون يشتغلون ليلَ نهار ويكادون يخسرون صِحّتهم بسبب شغفهم، وليس هناك ما يؤمَّنُ لهم. على عكس ما تؤمّنه ذات الحكومة والمؤسسة الرسمية نفسها لصالح ممثلي الدراما أو مسلسلات التلفزيون من أموال طائلة وميزانيات إنتاج و"أوتيلات خمس نجوم" وخدمات وتسهيلات... بينما حين أحتاج علبة شاي في البروفات المسرحية لا أجد إمكانية شرائها! يعني مثلاً نشتغل فيلماً بمليون ليرة في حين نرصد لمسرحية مئة ألف ليرة..هل يُعقل هذا! عشرات الأضعاف يتقاضاه الممثل في الأعمال الدرامية والسينمائية في حين يتقاضى الممثل قروشاً لا تساوي ربع جهده وتحضيراته الطويلة على خشبة المسرح! ولا تزال هذه المشكلة قائمة حتى اللحظة!يوم المسرح العالمي

كأننا أمام معضلة: فلو قلنا إنهم لا يريدون حلّ المشكلة لكان ذلك كارثة، ولو قلنا إنهم لا يستطيعون حلّها فنحن أمام مشكلة أخرى أيضاً؟

- طيب. نحن كنا ولا زلنا كمسرحيين نرفع صوتنا و"ننقّ" ونشتكي عشرات المرات بأن الحكومة تدعم الأعمال التلفزيونية الدرامية وتُهمل المسرح والعاملين فيه جميعهم كأنما كان هناك نوع من "تطفيش" مقصود! ثم فجأة أتت سنة الـ 2008 أي زمن فعاليات "دمشق عاصمة للثقافة العربية" وطُلِبَ مِني أن أشتغل عرضاً محترفاً وأعطوني كلّ ما طلبت بشكل غريب وصادم! تخيّل كل ما طلبته مهما كان من أموال أو تجهيزات قُدّم لي وبعقد مكتوب فيه شروط مميزة جداً حتى أنني يومها طلبت ملجأً ليكون مكاناً للعرض؛ أمّنوه لي. انتبه! هم أمّنوا لنا كل ما نحتاجه. على ماذا يؤشر هذا؟ طالما أنك في تلك السنة غيّرت من عقلية التعاطي الإداري والقانوني مع الشأن المسرحي في البلد، فإذاً أنتَ (أقصد أنت كمسؤول/كحكومة/كجهة راعية) تعلم أن تلك القوانين القديمة غير صالحة... لكنهم بمجرّد أنْ انتهتْ احتفالية "دمشق عاصمة للثقافة العربية" عاد كل شيء إلى ما سبق... وأسوأ!

أليست الحرب إذاً هي من أنهى تلك "النهضة" أو ذاك الخط البياني الصاعد للحركة الثقافية بل وحتى الاقتصادية في البلد؟

 - للأمانة كنا في "بحبوحة" اقتصادية مميزة ووضع إيجابي في كثير من الجوانب الحياتية. لم نكن نشعر بالضيق أو الضّيم حتى مع كل الأشياء السيئة يومها. بل هذه "البحبوحة واحدة من الأسباب البنيوية والجوهرية التي سببت الحرب على سورية، لكن ما أتحدّث عنه هو الفترة التي تلتْ احتفالية دمشق مباشرةً وسبقت الحرب الفعليّة، أتحدث عن العقلية التي تحكم آليات عمل الحركة المسرحية التي تغيّرت زمن الاحتفالية بشكل رائع جداً ومفاجئ جداً حتى في القوانين التي تصوغها وتتحكم بها، ثم اختفتْ وتلاشتْ وعادتْ العقلية القديمة التي تعتقد بعدم أهمية المسرح قياساً لأي جانب ثقافي آخر! أفترضُ أننا لو أخذنا من الاستثمارات الاقتصادية الانتاجية نسبةً من ضرائبها لصالح تطوير الشأن الثقافي العام بالبلد لكنّا في حالٍ أفضل بمئة مرّة. بمعنى أن يكون هناك قانونٌ ملزمٌ للشركات الاقتصادية الكبيرة يجعلها تدفع جزءاً من ضرائبها لدعم الثقافة. أن تدفع للنهوض بالثقافة على مختلف جوانبها مقابل إلغاء جزء مهم من ضرائبها التي تدفعها لخزينة الدولة. هذا الكلام قلتُه وأكرره منذ أكثر من 15 سنة... وليس هناك مِنْ سامِعْ!

وهل للفاسدين (أو لـ"دواعش" الداخل بحسب الكلمات والمصطلحات النابتة زمن الحرب) دور في بقاء الأمور سيئة؟

- ليس ما يحصل صدفة على كل حال. وإن كانوا موجودين فلماذا هم لا زالوا موجودين؟ لماذا لا يتم نزعهم بشكل حقيقي؟ هل تيّارهم/تجمعاتهم/خلاياهم أقوى مِنْ أنْ يُهزموا رغم السيطرة شبه المطلقة للدولة على صناعة الفكر بدءاً من المدرسة وصولاً إلى التلفزيون؟... هي أسئلة يجب أن نجيب عليها جميعاً إذا ما أردنا التغيير الحقيقي! (وتسألني عن الأمل!.... يبتسمُ بسخرية)!

لو ذهبنا نحو الشخصي... أمام هذه البشاعة العامة، أمام الجشع المتفشي. ما هي منجاتك الشخصية.. أين تجدها؟ أّفي الحبّ أم العمل أم الصداقة أم الموسيقا؟

- أولويّتي في الحياة هي العمل. حتى عندما كانت ابنتي مريم طفلةً صغيرة كنتُ أجلبها معي لتحضر البروفات في المعهد العالي للمسرح. علّمتها ودرّبتها أن تتعوّد على شغف العمل مهما كانت الظروف. حبّي للمسرح وشغفي ومحبتي لعملي هي مَنْجاتي لأنني أعتقد أنني خُلقت لأكون في المسرح! الموسيقا جزءٌ من تكويني بكل أطيافها وأنواعها، هي من تُشكِّل مِزاجي وفي الوقت ذاته مزاجي هو من يتحكم باستماعي الخاص ضمن بيتي/قوقعتي الخاصة، والحب بالمعنى الشخصي هو سِرُّ بقائي حيّاً أتنفس، أما انتظار المجهول/الموت هو محرّك جبّار لكل فعل إنساني وكذا أفعالي الشخصية