كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

«جورج قرم» النبيل الطاهر الذي عاش وسط مكب قمامة دون أن يتلوث!

رحل اليوم الدكتور «جورج قرم»، الاقتصادي نصف اللبناني/ نصف السوري (من جهة أمه الحلبية «ماري ليون زمريا»).
قلة قليلة، للأسف، خصوصاً من الأجيال الجديدة، تعرف الراحل إلّا من خلال إطلالاته النادرة على شاشات التلفزيون كمعلّق، أو كوزير للمالية في حكومة النبيل صاحب الضمير الطاهر «سليم الحص». وأشك في أن أحداً (باستثناء من يهمهم الأمر مباشرة، أو يهتمون بالقضايا الجدية) قرأ مؤلفاته.
لم يكن ماركسياً، ولكنه تشربها وتأثر بها خلال دراسته في الجامعات الفرنسية يوم كانت تسمح بمروحة واسعة من الأفكار، وقبل أن يسيطر عليها فكر «صبيان وزعران شيكاغو».
ولم يكن ناصرياً، ولكن التجربة الناصرية (بغض النظر عن موقفي منها)، وعمله في الجزائر، ألهمتاه فكرة البحث عن إمكانية «التنمية الوطنية المستقلة».
ولم يكن قومياً عربياً، ولكنه اعتبر العروبة الحضارية، المتحررة من الشوفينية «العفلقية»، جوهر هويته.
هكذا ولدت في تفكيره خلطة فكرية اشتراكية - ديمقراطية أقرب إلى مشروع «برجوازية وطنية» لا مكان ولا مستقبل لها في عصر الإمبريالية.
نلمس هذا ليس في مؤلفاته فقط، بل حتى في ممارسته عمله الوظيفي التكنوقراطي كوزير للمالية، وفي معارضته الصاخبة، لكن العلمية، للمشروع الإجرامي التخريبي الذي قاده المجرم المأفون «رفيق الحريري» تحت شعار «إعادة إعمار لبنان» بعد الحرب، لاسيما تدمير وتخريب وسط بيروت (مشروع السوليدير) وتسليم لبنان تحاصصياً للعصابات والمافيات وزعماء الميليشيات الطائفية الذين كان يمولهم خلال الثمانينيات وقبل أن يأتي به «آل سعود» و الولايات المتحدة لتخريب لبنان.
كان «جورج قرم» من بين قلة قليلة من الأكاديميين الذين آمنوا بأن من تخرّجهم جامعاتنا في مجال الاقتصاد ليسوا ولايمكن أن يكونوا مفكرين اقتصاديين، بل مجرد موظفين وإداريين لا يصلحون لأكثر من تنظيم حسابات مالية وإدارة دكاكين أو سوبرماركتات في أفضل الحالات.
بقي نظيفاً وطاهراً رغم عمله في عهود اثنين من أوسخ وأحقر من أنجبهم لبنان (الحريري و فؤاد السنيورة). وقد أثبت أنه يمكن للمرء أن يعيش وسط مزبلة أو برميل قمامة دون أن يتلوث... بشرط أن يكون ضميره حياً وطاهراً.
أدرك باكراً أن التعايش مع دولة إسرائيل هو أشبه بالعيش مع الطاعون والكوليرا والسرطان، وأن الدولة العلمانية الوطنية غير المرتهنة للخارج، لاسيما الغرب الإمبريالي، شرط لا غنى لدحر المشروع الصهيوني.
يكفي أن تعرف أسماء أولاده (ثريا، عليا، منير) لكي تعرف في الحال أنه كان متحرراً من المسيحية «الفينيئية» ومُحصّناً من أمراضها، حتى في زمن الإسلام البربري المتوحش في طبعته الوهابية وزمن المشاريع الطائفية الانعزالية، ونظيفاً من... الهراء «الفينيئي» الكنسي ونفاياته.
وداعاً لحصتنا السورية فيه، على أمل أن يودّع نصفَه الآخر كلُّ من لم يتلوث أو يتصهين في لبنان. 
مواقع