كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

جبلة: طفولة وذكريات.. من كتاب "غواية الذكريات" لجمانة طه

جمانة طه

في يوم خريفي تعيش فيه الطبيعة انقلابها الموسمي ولدتُ من أسرة تفتخر بانتسابها إلى آخر سلالة حكمت قلعة المرقب المطلة من علٍ على الساحل السوري، ونشأتُ في بيت يحب العلم ويعنى بالثقافة. فقد وعيت على أم تحفظ الشعر وتردده، وتربيت في كنف والد مزارع عمل على تكوين مكتبة صغيرة ضم فيها الريحانيات لأمين الريحاني والأرسلانيات لشكيب أرسلان وفتوح الشام للواقدي وديوان المتنبي المطبوع عام 1305هـ تحت عنوان "كتاب العَرْف الطيِّب في شرح ديوان أبي الطيب" للعلاَّمة اللغوي الشيخ ناصيف اليازجي الذي ما زال يزين مكتبتي، وغيرها. إلى جانب الكثير من المجلات، كالرسالة والتمدن الإسلامي، وفي ما بعد مجلة العربي.
وكبرتُ في بلدة تقف بين الساحل الصخري والجبل الأخضر وزبد الموج وريح العاصفة وبساتين الليمون وحقول القمح والجداول الصغيرة. فجبلة احتضنت مولدي وطفولتي ويفاعي، وعشت نضرتها وأيام يسرها مثلما عشت جفافها وأزماتها. وبرغم صغر سني في ذلك الحين، إلّا أني حاولت أن استخلص الفرح من بين فكي الحزن والألم واقتنص الرخاء من العسر، وأفسح في المجال لمعطيات الحياة البسيطة لكي تبهرني. وبعيدًا عن كل هذا، فأجمل الأوقات كانت تلك التي تجمعني مع رفيقاتي في مشوار إلى كورنيش البحر أو إلى طريق العمارة، وبخاصة في أيام الربيع وموسم الخس. أو في سيران إلى بستاننا القريب من المدينة في أثناء نضج ثمار المشمش والتفاح.
ابتعادي عن مدينة جبلة بسبب الدراسة، قرَّبها إليّ أكثر. فذاكرتي لم تغلق في وجه مدينة ظلت حاضرة في روحي برائحة ترابها غبّ المطر، وبنهوضها من غبش الليل ورذاذ الخريف ومطر الشتاء، وبشمس صيف لا تعرف المغيب. وكيف لا تبقى كذلك، وقد شربت من ينابيعها وتعثرت بحجارتها وركضت في أزقتها وأكلت من ثمرها واحترقت بشرتي بشمسها. والبيت الذي تربيت فيه، بقي بكل ما فيه حضنًا لطفلة لم تكبر.
طفلة في الصف الثالث الابتدائي أرتجف خوفًا أمام أبي، لعدم حفظي الرقم (5) من جدول الضرب. أطرب لصوت أمي وهو يردد موشح "يا غزال الربراب" ويتلو بسملة الشافي المعافي قبل أن تروي عطشي في الليل. أنصت لصوت أبي وهو يشجع أخواتي على مطالعة المجلات الأدبية، وحفظ الأناشيد الوطنية. ويَحضُّهن على تذوق غناء أم كلثوم وشعر شوقي ورامي وعمر الخيام، وموسيقا السنباطي وعبد الوهاب. طفلة أحاول أن أتهجى حروف الشعر المنقوشة على غطاء المنقل النحاسي الكبير، ولا أعرف معانيها:
يا محرقًا بالنار وجـه مُحبّهِ مهلًا فإنّ مدامعي تُطفـيه
حَرّقْ به جسدي وكلَّ حشاشتي واشفقْ على قلبي لأنكَ فيه
وأنا ألتصق بدفئه، معلنًا عن وجوده بحرارة تئج من جمره الأحمر. أتشقلب فوق السجادة التبريزية الحمراء أحلى ما في البيت بعينيّ أمي، فإذا نظفتها فعلت ذلك بحنان وكأنها قطعة من العمر لا مساحة من الصوف الملون. وأتحلق بعد العودة من المدرسة مع أخي وأخواتي حول الطبلية للغداء، فوالدي يحرص على هذا الاجتماع ليستمع إلى أخبار المدرسة والدراسة. وأصنع بقدميّ خطوطًا بين أكوام الحنطة المسلوقة المفروشة فوق السطح، لكي تجف وتطحن برغلًا. وأتفيأ ظل دالية تخيم على مساحة من السطح، تناورني القطة فريدة من خلال أغصانها وأوراقها. "فالرائع في المنزل، كما يقول الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزبيري "1900-1944" ليس لكونه يؤويك ويدفئك ولا لكوننا نمتلك منه الجدران، وإنما لأنه أودع فينا رويدًا رويدًا هذه المدخرات من العذوبة."
فها أنا وبعد طول زمن أعود تلميذة في المدرسة الأيوبية الابتدائية، أجلس على المقعد الخشبي وأفرش دفاتري فوق سطحه وعلى أصابعي أثر غبار الطباشير من محو اللوح الأسود. وها هو ذا صوت مؤذن جامع (المنصوري) الملاصق لبيتنا، ينادي للصلاة بصوته غير الرخيم. وها هي ذي منارة جامع السلطان إبراهيم ترتسم في ناظري رشيقة شامخة، قبل أن تعبث بها الطبيعة وأيدي المرممين. ومثلها بقيت في ذاكرتي القلعة والمدرج الروماني والميناء وزوارق الصيد، والبيت المطلي بالكلس الأبيض المشرف من التلة على الميناء. ودكان العم سماحة بياع الألبان والأجبان ودكان الحمصاني أبو أحمد القسام. وأبو كامل المنتظر أمام المدرسة برفقة علبته الزجاجية ذي القوائم الخشبية المليئة بحلوى السمسمية والفستقية. ورائحة البارود المندفع من مدفع الإفطار في رمضان، وساحة العيد والأراجيح والقلابة وشختورة الدرجي "أخدو الدرجي لقرشي وحطو بجيبو لقرشي"، ويديّ ويس الزوزو الملونة باللون الزهري من مخلل الشوندر واللفت والملفوف. وصندوق الفرجة بعيونه الزجاجية، وفي داخله الشريط المصور بأحلى القصص. وأنا في كل هذا أقف مزهوة بثيابي الجديدة وحذائي اللميع، ويدي تقبض على قروش تشتري لي الدنيا.!
ترى لماذا نحب العودة إلى طفولتنا وكأنها فردوس مفقود، مع أنها قد لا تكون سعيدة في مجملها أو في بعضها؟
ربما لأنها، وكما يراها الأديب الفرنسي أندريه بريتون "1896-1966" هي أقرب ما عشناه إلى الحياة الحقيقية، ومن الأجدى أن نحرس ذكرياتها بدلًا من محاولتنا التحقق من دقتها."