كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بعض ذكريات جمانه طه بمدينة إدنبرة في اسكتلندا، من كتاب "غواية الذكريات"

جمانة طه- فينكس

 أقمنا في عدد من المدن الاسكتلندية علائق اجتماعية جيدة بحكم الجوار أو من خلال مدرسة الأولاد وعمل زوجي. وقد لاحظت أن الإشاعات ظلمت الاسكتلنديين بإلصاق صفة البخل بهم، فهم على العكس من ذلك يكرمون أصدقاءهم ويعرفون الواجب تجاه معارفهم، ويزيد على ذلك أنهم ودودون ومحبون.
في مدينة إدنبرة كان جيراننا من الطرف اليمين آل برايس ديفيد الأب وزوجته وابنه ديفيد المطلق وولديه ديفيد وليندا، وتكونت بين أسرتينا علاقة طيبة. وكان الأب ديفيد ينادي زوجي (مستر هشام) لأنه طبيب جراح، ويقول: إن البريطانيين لا يمنحون لقب مسترMr. إلا للحلاق وللجراح. لكون الحلاق الجراح الأول في المجتمع، فهو الذي كان يقلع الأضراس، ويداوي الأمراض الجلدية، ويشفي الدمامل ويشقها بالمشرط لإخراج الصديد منها، وهذا تمامًا ما كان يحصل في مجتمعنا. ديفيد برايس الأب شخصية طريفة واسكتلندي عتيق، ومنه عرفت أنَّ لاسكتلندا لغة خاصة تدعى الغيلية (غيليك Gaelic). وذلك حين سألني فيما إذا كنت أعرف معنى (I dane caen آي داني كَيَنْ) وهي بالإنكليزية: I don’t know. فأجبته بنعم من غير أن أفهم سؤاله، فهشّ وبشّ.!
مستر برايس عسكري متقاعد، وشيوعي مناصر لحزب العمال. شهد الحرب العالمية الثانية، ويمتلك ذاكرة جيدة عن أحداث سياسية محلية وعالمية. في صباح كل يوم وبعد أن يحضر لزوجته الفطور ويقدمه لها في السرير، يذهب إلى النادي ليجلس مع أقرانه ليشرب الويسكي والبيرة بالتبادل (تشيسر Chaser). وفي عودته إلى المنزل غالبًا ما كان يصادفني أمام باب بيتي، فيستوقفني وهو شبه منطفئ من الشراب ليروي لي بعض ذكرياته في الجيش أو ما حدث معه منذ ساعات. وعندما كان يسمع حركتي في الحديقة يناديني (كلارندا)، تيمنًا بحبيبة شاعر اسكتلندا العظيم وابنها المفضل روبرت بيرنز.
جنيفر كريغ Jennifer Craig
بدأ تعرفي إلى جيراني من الطرف اليسار، بأسلوب فيه شيء من الغرابة. ففي الصباح الأول لانطلاقي بأولادي إلى مدرسة الحضانة، أطلت علينا من نافذة المنزل المجاور ابتسامة دافئة كانت دفقًا إنسانيًا يطالعني في مدينة تسورني بغربة الأصل واللسان. إنها السيدة (كريغ Craig)، كما تبين لي فيما بعد، التي تحمل على منكبيها رأساً صغيرة بشعر فضي ووجه دقيق الملامح.
توالت أيامنا في إدنبرة وبعددها توالت تحيات جارتنا عند ذهابنا وإيابنا، لتصبح تحياتها معلمًا في مساحة يومنا أنا وأولادي. كنت أشعر وكأن جارتنا بمودتها، تتحدى تعالي إدنبرة على الغرباء أمثالنا.
جلوسها وتسمرها أمام نافذتها العريضة المزدانة بأصص الأزهار الملونة، حيرني ووسوس لي بأفكار كثيرة. أتراها قعيدة، أم ماذا؟ في يوم ربيعي وأنا أُقَلِّبُ التربة في أحواض الحديقة الأمامية، أتاني صوت يهمس لي بتحية الصباح. رفعت رأسي فرأيت امرأة ربعة القامة سوداء الشعر بحرية العينين، تخفف من صفائهما نظارة طبية تستقر فوق أرنبة أنفها.
قالت: أنا باميلا (Pamella)، من المنزل المجاور. والدتي تدعوك لشرب الشاي معها في الساعة الرابعة. شكرتها، وقلت في نفسي دعوة تمنيتها.
في الموعد المحدد كنت أدق الباب، وفي يدي علبة من الحلوى على عادتهم هنا. قادتني باميلا إلى صالون أنيق، حيث كانت في انتظاري سيدة تجلس على كرسي متحرك. سقط قلبي في حجري، إذاً هي كما توقعت!
مدت ذراعيها، وضمتني إلى صدرها بمحبة. كان في حديثها شفافية، وفي لفظها بطء يسّر لي فهم لهجتها.
امتدحت شعري الداكن ولون بشرتي الفاتح، وخمنت أني اسبانية. وعندما عرفت أني من سورية، ابتسمت وقالت: أعرف أين تقع بلادك، فأنت من الأرض المقدسة كما يدعوها الكتاب المقدس.
معرفتها بموقع وطني، وتقديرها لقيمته الدينية، على الأقل، أذهبا عني التوتر. رويت لها سبب قدومنا إلى إدنبرة، وحدثتها عن دمشق وكنائسها القديمة. كانت تستمع إلي باهتمام، وتصحح أخطائي اللفظية.
أخبرتني عن معاناتها من مرض (الباركنسونParkinson disease ) الذي يعصف بمفاصلها ويقضي على ليونتها. وأرتني كيف تقوست أصابعها وصارت على شكل منجل، حتى أصبح وقوفها على قدميها شبه مستحيل.
لفتتني قدرة هذه السيدة على تجاوز إعاقة يديها، فهي تحيك بإبرة الكروشيه مفارش صوفية تتبرع بها إلى جمعية الكنيسة الخيرية لتبيعها وتنفق ثمنها على العجزة والمحتاجين. فالعمر، كما قالت، يصبح مزعجًا إذا توقف المرء عن استعماله. تكررت زياراتي لجنيفر (Jennifer)، كما كان يحلو لها أن أناديها. حدثتني فيها عن ابنتها الثانية مارغريت(Margaret) التي تعيش مع زوجها في استراليا، وابنها بول(Paul) الذي يعيش مع عائلته في غلاسكو Glasgow . وعن زوجها، قالت: كان طبيبًا، وكنت في مثل سنك حين رافقته إلى مصر في بعثة طبية عسكرية. في مصر، عشنا أحلى أيامنا. وبقدر ما كره المصريون بريطانيا كمحتل، أحبونا كأفراد. وبعد سنوات من عودتنا إلى إدنبرة، ولصعوبة أحوال الناس في جنوب أفريقيا قررنا أن نذهب إلى هناك متطوعين في معسكر لمكافحة الأمراض البيئية والسارية. فكان زوجي يعالج المرضى، وأنا أُعَلِّمُ عددًا من الأطفال اللغة الإنكليزية. لكن للأسف، وهنا تصاعد التهدج في صوتها، اغتيل زوجي على حين غرة. قتله بعض المتطرفين، مع طبيبين آخرين أفريقي وهولندي. لم تستطع إنسانية الأطباء الثلاثة، أن تنقذهم من الموت. كلما تذكرت السيدة كريغ أشعر كم أنا مدينة لها، فقد علمتني تجربتها أن الحياة حلوة، ولكي نعيشها بشكل لائق علينا أن نتغلب على صعابها بحفنة من الحب والعطاء.